أن تشاهد لتكتب، أن تتوق لكل الآراء، أن يسعدك لقاء شباب هذا البلد والتحدّث إليهم ومقابلتهم علي الصفحات الالكترونية وقبول دعواتهم إلي بعض اجتماعاتهم مع الناس العاديين.. كلّ ما ذكرته له مزاياه . أنا كاتب محظوظ أزعم أنّني أري أشياء لا يجدها المؤرّخ في أي وثيقة، حين تكون أهم وثيقة هي الإنسان الحي. قد تكون نظرة، ابتسامة، هزّة كتف، ملاحظة تبدو عابرة لكنّها أكثر كشفا لجدل استمر لأكثر من عام وشهور مع أولئك الذين قاموا بأحداث تسمّي الثورة المصرية، ومع أولئك الذين حاولوا منعهم من القيام بها أو الاستمرار. التلقائي والمرتب انفض المولد، وظهرت الكشوف النهائية لمرشحي الرئاسة يوم الخميس الماضي، ومن قبلها استبعاد عشرة مرشحين، منهم عمر سليمان وخيرت الشاطر وحازم صلاح أبوإسماعيل، ولكن ما يعنيني هنا فقط أنه في ثنايا مشاهدة تليفزيونىّة (لا يمكن أن نغضّ النظر عن التليفزيون) وفي آخر يوم لتلقّي أوراق المرشّحين لرئاسة جمهورية ثانية -عهد جديد، نتوق فيه إلي القانون والأمان - يعاني الولادة من رحم جمهورية أولي - عهد استبداد وفساد - يقاوم لفظ أنفاسه، كان موكب عمر سليمان يخترق الساحة مع أكثر من ثلاثين ألف توكيل "يتعجّب الكثيرون كيف تمّ إعدادها فيما يقلّ عن 48 ساعة؟!" نحو اللجنة المشرفة علي انتخابات الرئاسة. يمكننا أن نميز ماقد يبدو تلقائيا وقد يكون مرتّبا في الحقيقة - مازال بعضنا يتعلّق برئاسة فرد، تتمثّل في جنرال المخابرات كرجل دولة يمضي وراءه اللواء قائد البوليس الحربي وتزىّن موكبه وتطغي علي ألوانه والبيريهات الحمراء لرجال هذا البوليس! لكنّ ما قد يبدو مرتّبا شديد الترتيب في المشهد السابق ومن ضمنه تفسير هذه الرعاية الأمنىّة المشدّدة بتعرّض الرجل لأكثر من محاولة اغتيال، قد يبدوأيضا نتاجا غير مقصود لما يمسك بإحساسنا من ارتباك شديد بما لم يعرفه الناس بعد عن المستقبل وهم يأملون أن يكونوا علي مشارف المقطع الأخير من المرحلة الانتقالية . أرجوكم ألاّ تهملوا من المشاهدة موكب "خالد علي" المرشّح الشابّ، المحامي عن حقوق الإنسان وحقوق العمّال في مواجهة الخصخصة، يسعي إلي الرئاسة في موكب خافت يمضي في أعقاب الموكب المتوهّج للواء عمر! في صباح اليوم التالي كان ترشيح عمر سليمان يغطّي الأحاديث والكلام في السياسة في أماكن كثيرة ومنها قنوات تليفزيونية تكاد تخفي ابتهاجها يملؤها تمرّد الطبقة الوسطي ضدّ مجتمع الطبقة الوسطي، وهي الظاهرة الغالبة المسيطرة في ثورة 25 يناير. وبشكل عام نجد ناسها يتمتّعون بالأمن المادّي ولكنّهم لم يكونوا مكتفين نفسىّا، محبطون وملولون يرهقهم الشعور بتزاوج أقرانهم الرأسماليين المستغلّين التوّاقين للاحتكار مع السلطة السياسىّة يبدأ مع الانفتاح الاقتصادي الذي بدأه السادات وربّما بدأ مبكّرا أكثر علي موائد القطاع العام في عهد عبدالناصر لينمو ويزدهر ويتطفّل ويسرق ويفسد ويستبيح كلّ شيء في حوزة الفقراء في عهد مبارك، ويخلق قاعدة لآمال الطبقة الوسطي يحقّقها تثوير الجماهير المصرية، هؤلاء الذين يعانون الحرمان ويصعب علي ملايين العمّال والفلاّحين بل يستحيل عليهم أن يحقّقوا مقولة السادات" من لم يغتن في عهدي فلن تواتيه فرصة أخري".. والذي واتي الفقراء حقيقة، كان بالكاد تطوير وعيهم التنظيمي يمضي كالسلحفاة مع المنابر والأحزاب التي تمخّض عنها الاتّحاد الاشتراكي، ثمّ إحساسهم المتنامي بالذلّ والمهانة والتهميش والتبطيل. كان لازما أن يضع علي جدول أعمال المجتمع، هامش الحرّية الذي تمّ التشدّق به، ويفرض حالة الهجوم والتجرؤ وحركات الاحتجاج النشط علي النظام ورأسه ورموزه . اسمحوا لي أن أطلق علي الحركات المتعدّدة التي فاضت علينا " لا لكذا " و"ناس ضدّ كذا" ثمّ الحركة المصرية للتغيير والشباب داخل الأحزاب.. اسم اليسار المصري الجديد، المناضل لخلق امكانية توافق في الواقع بين مجتمع الطبقة الوسطي والجماهير المفقرة المحبطة. التحاق بالمجتمع المدني تلح ّعلي وأنا أستنبط هذا الوصف الذاتي لما حدث في 25 يناير فكرة كون ما حدث محاولة أخري جديدة سبقتها محاولات، للالتحاق كمصريين بالمجتمع المدني أو بالمجتمع البرجوازي ثمرتي الثورتين الفرنسية والصناعية !عن حالة هذه المحاولة التي فجّرها يسار جديد في ظلّ ظروف عالمية وإقليمية ومحلّية مختلفة ينتشر الإحباط، وتسود هذه الأىّام تعبيرات- تشرذمت قوي الثورة، وتفتّتها التناقضات وغياب الرؤية، أو سرقت الثورة أو نهبها الإخوان - أو تعقد الصفقات وتقوم التناقضات أو المصالح بشأنها بينهم وبين العسكر.. إلي تنويعات أخري عديدة تنسب الفشل إلي تآمر الخارج وإسرائيل وفلول النظام المنهار ولهوه الخفي وأجهزة التحكّم السرّي ! وإساءة استخدام مثل هذه الأشياء الظاهرية والبدائية يحطّم تضامن "الشعب يريد" الذي أطاح برأس النظام وحقّه في الحفاظ علي الحكم بالقوّة. والمصريون إذا استطاعوا ذلك شبعوامن كونهم مجرّد تروس في مجتمع مفكّك، غيب إرادته زعيم فتننا وجرّنا أمامه كقطيع، أو جماعة أو حزب، خلط بين "مصالح" الشعب أو الأغلبية وبين "دين" الشعب أو الأغلبية. ويبدو أنّ المصريين رجالا ونساء، قرّروا ألاّ يكونوا هذا ولا ذاك بل يصبحوا مواطنين ذوي كرامة ومسئولية، لهم حقوق وعليهم واجبات . يتشاركون بحرّية في مجتمع مدني، يأخذون فكرة المواطنّة بكلّ جدّىّة، يفضّل الناس أن يكونوا مدنيين متسامحين لايستخدمون العنف أو القسر في سياقة أحد ولو إلي الجنّة. حين نتأمّل ما أثاره ترشيح عمر سليمان وفي مواجهته قيام الإخوان بترشيح خيرت الشاطر ومحمّد مرسي احتياطىّا، سوف نجد صدقا أعمق في معارضة هذا الترشيح. والأسماء تعبّر عن أشياء تتّصل ببعضها تجعل النّاس ترفضها! غيرت 25 يناير وجه مصر بالفعل وما بدا ممكنا في ذلك اليوم من عام 2011، يبدو مؤكّدا في إبريل عام 2012، رغم الاستفتاء وأحداث ماسبيرو ومحمّد محمود وبورسعيد وانتخابات البرلمان وضياع مصالح الشعب وتعطيلها في بيزنطة الجدل والشجار! نلوم الإخوان ومجمل حركات الأسلمة علي تسميم كلمات كثيرة في التيار الرئيسي الذي فجّره 25 يناير في التاريخ المصري،ليس أقلّها الأغلبية والأقلّية يوم الجمعة 20 إبريل والتي أطلق عليها جمعة تقرير المصير، فتحت ميادين التحرير أبوابها في ربوع مصر لتستقبل مئات الألوف يفحصون ماقالته مختلف الفرق طيلة الشهور الماضية، يقارنون الأقوال بالأفعال فيما يتعلّق بالقضايا الأوّلىّة للسياسة والاقتصاد والقانون والعلاقات. قبل أىّ شيء هناك إقرار بأن شرعىّة الميادين قد تحقّقت بالرضا والقبول الشعبي، ولن يصبح سهلا علي الإخوان أن يعودوا لإنكارها أو استنكارها بعد أن خذلتهم شرعية برلمانهم ولجنة إعدادهم لدستور يغلّبون فيه رؤيتهم ومشروع قانونهم بالعزل السياسي. البحث عن الثورة ماذا يمكن أن يخرجه لنا هذا الحماس الذي نأمل أن يكون قد تعلّم من أحداث ما يقرب من عام ونصف العام لم تعطنا شيئا؟ لا يطمئنني خيرت الشاطر، يقف علي منصّة الإخوان يأخذ عليهم عهدا ويشهد الله علي حماية الثورة. ولن يساعد التفكير المبني علي التمنيات أحدا، وللأ سف ترسم المجادلات والوقائع مع الإخوان وأمثالهم طيلة الفترة الماضية صورة مظلمة علي الآفاق المصرىّة بدقّة عالية من قراءة الواقع والتاريخ . وهي صورة يصرّون علي أن يبدو فيها المستقبل مابعد مبارك شبيها لدرجة غير قليلة بالماضي .يجعلون 25يناير تبدو كنقطة مضيئة قصيرة العمر بين معاناة الأمس ومعاناة الغد. وليس هذا المصير حتميا، إنّما تواجهه أشياء في الذاكرة والثقافة والروح، تعدّ المصريين بوضوح نابع من تجربة مريرة بما يساعدهم علي إعادة صياغة القيم التي يمتلكونها بالفعل. حقائق قديمة ونماذج اجتازت الاختبار لليبرالية والديمقراطية ومايقال عن المرجعية الإسلامية. نستطيع أن ننسي البحث عن الثورة في اسم أي من المرشّحين للرئاسة، إذا تمكّنت ثورتنا من أن تمنحنا دستورا يجعل السلطة للشعب وحقوق الإنسان.