"مش تعصب".. وكيل "الأزهر" يرد على المتطاولين على التراث    غدا- بدء حجز أراضي بيت الوطن.. ننشر الأسعار والأماكن    بالصور- محافظ القليوبية يتفقد سير العمل في مشروعات "حياة كريمة" بشبين القناطر    غدا بدء التشغيل التجريبي بالركاب لمحطات الجزء الثالث من المرحلة الثالثة من الخط الثالث لمترو الأنفاق    بالصور- تطهير الترع الرئيسية بالبحيرة استعدادا للزراعات الصيفية    وزير الخارجية التركي: قتل إسرائيل الفلسطينيين بشكل ممنهج "إبادة جماعية"    الخارجية السعودية: عدوان إسرائيل أضعف النظام الدولي    شولتس: ألمانيا لن تعود إلى جيش الخدمة العسكرية الإلزامية    التشكيل - بواتنج يعود للاتحاد.. والبدري يقود هجوم سموحة في دربي الإسكندرية    أخبار الأهلي : كولر يستقر على مهاجم الأهلي في نهائي أفريقيا    أخبار الأهلي : رسالة نارية من أحمد شوبير لحسام وابراهيم حسن    وفاة الملاكم البريطانى شريف لوال بعد انهياره فى أول نزال احترافى في المملكة المتحدة    إلغاء امتحان طالب صفع معلما على وجهه بالغربية    اليوم.. التعليم تنشر فيديو توضيحي لطريقة الإجابة على البابل شيت    وائل كفوري يطرح «لآخر دقة» على يوتيوب    الخميس.. انطلاق فعاليات مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة في دورته الثالثة على مسرح الهناجر    مبادئ كتابة السيناريو في ورشة ابدأ حلمك بالإسكندرية    يعلمون أنهم على الباطل.. عبدالله رشدي يعلق على تهديد يوسف زيدان بشأن مناظرة "تكوين"    الموافقة على موازنة القومى لحقوق الإنسان، ومطالبات برلمانية بوقف إهدار المال العام في بند الصيانة    الهجمات الإسرائيلية على غزة: أحمد أبوالغيط يعبر عن استنكار جامعة الدول العربية    ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي في الإسكندرية    قرار حاسم من «التعليم» ضد 5 طلاب بعد تسريبهم الامتحان على «السوشيال ميديا»    داعية إسلامي: يوضح ما يجب على الحاج فعله فور حصوله على التأشيرة    تنطلق الأربعاء 15 مايو.. جدول امتحانات الصف الثالث الإعدادي الأزهرية 2024 بالمنيا    نموذج RIBASIM لإدارة المياه.. سويلم: خطوة مهمة لتطوير منظومة توزيع المياه -تفاصيل    المصريون في الكويت يبحثون طرق قبول أبنائهم في الجامعات المصرية    البنتاجون يرفض التعليق على القصف الأوكراني لمدينة بيلجورود الروسية    درجة الحرارة الآن.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء 14-5-2024 (تفاصيل)    خلال 24 ساعة.. ضبط 14028 مخالفة مرورية متنوعة على الطرق والمحاور    ضبط المتهمين بترويج العقاقير المخدرة عبر «الفيس بوك»    كوريا الجنوبية تعزز جاهزية الجيش للرد على جميع التهديدات    توقعات إيجابية للاقتصاد المصري من المؤسسات الدولية لعام 2024/ 2025.. إنفوجراف    محافظ كفر الشيخ: اعتماد المخططات الاستراتيجية ل 23 قرية مستحدثة    بمناسبة يومها العالمي، وزارة الثقافة تفتح أبواب المتاحف مجانا عدة أيام    بسبب أعمال التطهير، خريطة ومواعيد انقطاع المياه في الدقهلية غدا    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية الهندسة    السيد عبد الباري: من يحج لأجل الوجاهة الاجتماعية نيته فاسدة.. فيديو    رئيس جامعة القاهرة: زيادة قيمة العلاج الشهري لأعضاء هيئة التدريس والعاملين 25%    تنظيم مقابل الخدمات بالمستشفيات الأبرز، تعرف على توصيات لجنة الصحة بالبرلمان    طريقة عمل وافل الشيكولاتة، لذيذة وسهلة التحضير    جامعة القاهرة تقرر زيادة قيمة العلاج الشهري لأعضاء هيئة التدريس والعاملين    5 أبراج تتميز بالجمال والجاذبية.. هل برجك من بينها؟    طرح فيلم «بنقدر ظروفك» في دور العرض 22 مايو    جيسوس يحسم مستقبله مع الهلال السعودي    مصر تدين الهجوم الإرهابي الذي وقع في محافظة صلاح الدين بالعراق    السجن المشدد من عام إلى 5 سنوات ل4 متهمين بالسرقة وحيازة مخدرات بالمنيا    رئيس جامعة بنها يترأس لجنة اختيار عميد كلية الهندسة    مفتي الجمهورية يتوجَّه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى «كايسيد» للحوار العالمي    صوامع وشون القليوبية تستقبل 75100 طن قمح    توقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة يدخل أسبوعه الثاني    تعرف على إرشادات الاستخدام الآمن ل «بخاخ الربو»    المندوه يتحدث عن التحكيم قبل نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    ما مواقيت الحج الزمانية؟.. «البحوث الإسلامية» يوضح    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. دار الإفتاء تجيب    لطفي لبيب: عادل إمام لن يتكرر مرة أخرى    برشلونة يسترد المركز الثاني بالفوز على سوسيداد.. ورقم تاريخي ل تير شتيجن    طارق الشناوي: بكاء شيرين في حفل الكويت أقل خروج عن النص فعلته    ميدو: هذا الشخص يستطيع حل أزمة الشحات والشيبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد إبراهيم منصور.. أحد أعمدة الثقافة الثورية في كابوس السيريالية القذافية!
نشر في القاهرة يوم 24 - 04 - 2012

«أشخاص حول القذافي» هو عنوان الكتاب الذي كتبه «عبدالرحمن شلقم» وزير الخارجية الليبي السابق، وصدر منذ أسابيع عن دار الفرجاني للنشر في طرابلس وهو يتناول دور عدد من الشخصيات التي برزت علي الساحة السياسية في العهد الجماهيري.. ومن هذا الكتاب اخترنا هذا الفصل عن منظر الثورة الليبية وأحد قادة اللجان الثورية «أحمد إبراهيم منصور القذافي» هذا الشخص من أعمدة الخيمة ومن أي زاوية نظرت إليه ومن أي مسافة ستري فيه قذافياً، ليس بمعني النسب إلي معمر القذافي فقط، وإنما إلي «المكون» القذافي القبلي والعائلي والسلوكي وفي المستخرج النمطي الشامل للكائن أيضاً فهو من رأسه إلي أخمص قدمه يشع بالحالة «السريالية» القذافية في تجلياتها البدوية المفتعلة والمنفعلة، قال معمر القذافي مهدداً شباب ثورة ليبيا من أنتم؟ وقدم الجواب: أنتم «الجرذان» وفي المقابل قرأ الصحيفة التي كتبها بقلم أوهامه: «أنا الثورة، أنا المجد، أنا بدوي ثائر في الصحراء من الخيمة، ولم يدر أن الثوار سيدوسون علي فقاقيع أوهامه». قلت في سطور سابقة إن في داخل كل واحد من أبناء القذاذفة معمر القذافي صغير أو كبير ولكن في داخل أحمد إبراهيم القذافي القحصي هذا، رتلاً من معمر القذافي لهم وجوه مختلفة وأصوات متعددة الدرجات تنوعت ألوانهم وتبدلت يختفي بعضها تاركاً مكاناً لآخر أو آخرين. ولد أحمد إبراهيم مثل كثير من أبناء قبيلة القذافي في تشاد، في أسرة فقيرة لأب متزوج بأكثر من امرأة، كان راعياً يعيش هو ونساؤه بين حظائر الأغنام وسط شح الطعام والماء، وكان القذاذفة في تشاد يخضعون لسلطة اجتماعية أدبية أخري هي سلطة التراتب القبلي وهيمنة مشايخ هذه القبائل. ولد أحمد وقضي شطراً من طفولته بين مراتب ومدارج المعاناة تقامسته دوائر الهيمنة والإخضاع والتسلط، بعد اكتشاف النفط في ليبيا في مطلع ستينات القرن الماضي وانحسار رقعة الفقر والفاقة بدأت قوافل «العائدون» تزحف علي ليبيا من الجنوب ومن الشرق والغرب، جاء القادمون من تشاد يعلو وجوههم غبار الصحراء ترهقهم سنوات الجوع، تغشاهم مكونات الجهل وتعشش في حناياهم ظلمات الجاهلية، يتندر الناس في سبها وهي المدينة الكبري في الجنوب الليبي، التي تكدس فيها آلاف القادمين من تشاد من القبائل الليبية، أحد هؤلاء العائدين قال: الناس هنا يكثرون من استعمال كلمتين هما الحلال والحرام، وأنا لا أفهم ما تعني أي منهما وصف الناس في سبها وهم المتدينون، هؤلاء «العائدون» بالجاهلية وتندروا لعدم معرفتهم لأبجديات ماحدث في الدنيا وما أنتجته المدينة الحديثة من أبسط المنتجات. مفاصل وفواصل جاء أحمد الطفل مع إخوته ووالده وزوجات أبيه في شحنات غصت بالشيوخ والأطفال والفتيان، ليجدوا أنفسهم أول مرة وسط ما نسميه بالمدينة إلي بيئة مختلفة في كل شيء. دخل بعدها أحمد إلي المدرسة الابتدائية وهناك اصطدم بعالم جديد غريب، أطفال يجلسون علي الكراسي، أمامهم كتب وكراسات وهناك يقف رجل يسمونه الأستاذ يكتب كلمات وأرقاماً علي لوحة سوداء تتوسط حائط الفصل. هنا يعبر الناس عن أنفسهم بطريقة أخري ويعبرون عن وجودهم بأسلوب جديد، الشيء الوحيد الذي انتقل معه من نجوع تشاد إلي البنايات الحمراء في سبها هو التراتبية الاجتماعية وخيط التبعية ونسق التواصل بين المكونات القبلية. يعلم أبناء قبيلة القذاذفة أن من أحضرهم من تشاد إلي سبها هو «البي» أو والي فزان، وهو رأس قبيلة أولاد سليمان، من عائلة سيف النصر، الذي يدين له القذاذفة بالولاء وهو ولي النعمة والأمر، نقلهم من تشاد إلي سبها أعطاهم ما يسد الرمق، وما يساعدهم علي بناء بيت من الطوب أخد صغارهم إلي المدارس وأدخل كبارهم إلي الوظائف الحكومية، من يستطيع فك الحرف حُشر في صفوف البوليس، ومن هم دون ذلك تم تدبير مكان لهم كغفراء وفراشين في الدوائر الحكومية. خميرة البؤس هذه التي تجمعت فقاعاتها علي ضفاف الطفولة في نجوع تشاد، ثم انتفخت في معسكر الطوب والخيام الرثة في «البناية الحمراء» بسبها هذه الخمائر هي التي ظلت ناقوس الاضطراب الذي يرن في شعور أو لا شعور أحمد إبراهيم الذي أصبح يوماً وبلا انتظار أو حتي حلم ابن عم القائد معمر القذافي حاكم ليبيا وماليء الدنيا وشاغل الناس. أحمد إبراهيم من مواليد تشاد في عام 1956 تقريبا، هناك حيث كان لا يوجد سجل للمواليد، ففي الوديان حيث النجوع التي ترفع فيها الخيام وتطوف حولها الأغنام لا ورق ولا قلم ولا كاتب يخط وقائع الولادة أو الزواج والطلاق، درس في سبها وعندما كان في بداية المرحلة الإعدادية وصل معمر إلي السلطة وطاف في حي القذاذفة بمنطقة «المنشية» بسبها هواء جديد جاءت تمعه نسائم القوة لهؤلاء القادمين من وديان تشاد وصحاريها، وتغيرت خطوات وحركات هؤلاء أصحبوا غير ماكانوا عليه منذ أيام مضت، تهاوت التراتبية التي كانوا يعيشون في ظلها، ارتفعت رءوس وغابت رءوس أخري في المعتقل، كان أحمد من المسارعين إلي رفع رأسه ليعلن عن وجوده وعن ميلاده الجديد في المكان والزمان أيضاً، فقد وهب لهم تولي معمر القذافي ابن عمهم الذي ترعرع هو أيضاً هنا في سبها، وهب لهم درجات علي سلم لم يروه من قبل ولم تتحرك أقدامهم فوقه، كان من حق غيرهم فكيف يقترب من هذا السلم ويبدأ بصعود الدرج؟ منذ الأيام الأولي لثورة أيلول/ سبتمبر رفع القذافي شعار: الحرية - الاشتراكية- الوحدة، المعبر عن الاتجاه القومي العربي، ثم أسس تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، استنساخاً للتوجه المصري الناصري. لقد كان أحمد إبراهيم «نبتة» تنقلت بين ترب الاختلاف، المكاني والاجتماعي والتراتبي والثقافي أيضاً، استمر هذا الحراك الذي وجد نفسه فيه وانغرس فيه أيضاً من تشاد بكل أطيافها الحياتية القاسية، إلي رحلة طويلة عبر الصحراء نحو سبها من وصاية آل سيف النصر الاجتماعية إلي الصعود المفاجئ لقبيلته، بل وبيت القحوص الذي ينحدر منه ابن عمه معمر الذي أصبح رجل ليبيا الأقوي. «أول ما شطح، نطح» فبعد بداية صلابة أظفاره والارتفاع نحو المرحلة الثانوية اختار لنفسه لوناً فكرياً مخالفاً للون الرسمي، فأعلن انتماءه للتيار الإسلامي وبدأ يرفع صوته داعياً لهذا التيار ما دفع جهاز الأمن في سبها إلي شد أذن هذا الولد المنحرف فكريا وطالته صفعات ناعمة تحسبا للونه القبلي، وجاءته النصائح وبعض الصرخات العائلية التي تحذر من خطورة استمراره بهذا الطريق، لكنه لم يتردد في افتعال المعارك التي تجذب إليه الأنظار وتجعل أصابع بعض زملائه تشير إليه، ربما علم من أقاربه بقصة بداية ابن عمه معمر الذي انطلق من سبها وبالتحديد من مدرستها معارضاً أو مشاغباً وعرف باسمه بين الطلاب في تلك المرحلة، فأراد أن يتحسس أثر أقدام معمر، وأن يعبُر الدرب نفسه. بعد حصوله علي الشهادة الثانوية- القسم الأدبي- توجه إلي مدينة بنغازي للالتحاق بكلية الحقوق وكانت الاجراءات عندئذ تقضي بالمقابلة الشخصية للطالب قبل توجيهه إلي الكلية التي تناسبه، كانت لجنة المقابلة الشخصية تستدعي إلي المكتب الذي تجري فيه المقابلة طالبين معاً، دخل أحمد إبراهيم برفقة أخي إدريس شلقم، أجريت لهما المقابلة وقررت اللجنة أن يلتحق أحمد بكلية الآداب، وأخي إدريس بكلية الحقوق، رأي أحمد في ذلك هزيمة بل إهانة له فهو الذي يري في نفسه الشاب المتميز يحرم من تحقيق رغبته وهكذا أمام رفيق له، ولقد سألت أخي إدريس مرة عن سبب كره أحمد إبراهيم له فذكر لي هذه الواقعة وقال إن أحمد يتحاشي اللقاء به بسبب ماكان في تلك المقابلة. انتقل أحمد من سبها إلي بنغازي، بمرحلة مفصلية في ليبيا، كانت جامعة بنغازي حلقة تحلق داخلها إرهاصات لمعارضة الحكم العسكري في ليبيا، كان مجلس قيادة الثورة يقود البلاد بروح الحماسة والطموح، وبدأ معمر القذافي يطلق العنان لأفكار القومية التي تحوصلت عند المشاريع الوحدوية الفورية، واعتقد اعتقاداً راسخاً أن أي صوت يعلو باتجاه المعارضة هو بمثابة الكفر السياسي الذي يستحق الرد عليه بعنف يصل إلي حد القتل، في تلك الفترة أقصد النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، كان بيان جربة الذي وقعه معمر القذافي مع الرئيس التونسي الحبيب أبورقيبية، ثم إعلان طرابلس واتحاد الجمهوريات العربية بين ليبيا ومصر وسويا، كان الاندفاع نحو كل الصيغ الوحدوية يملأ سماء ليبيا وأراضيها ويرتفع في إذاعاتها. كان الطلبة في بنغازي وطرابلس يلهب،م في منطقة اعتبرها القذافي محرمة علي من سواه حتي علي زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار الذين أوصلوه إلي السلطة في أول سبتمبر 1969، عندما فاتحه هؤلاء الضباط عن ضرورة نقل البلاد إلي حكم مدني مؤسس علي الدستور، والسماح بقيام أحزاب سياسية ركض معمر القذافي إلي مدينة زوارة وأعلن الثورة الشعبية وقلب الطاولة علي رفاقه في مجلس قيادة الثورة، وبدأ يخطط للانفراد بالسلطة وتهميش أعضاء مجلس قيادة الثورة وإبطال مفعول تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار. انزعج معمر القذافي من ارتفاع أصوات الطلبة في جامعتي طرابلس وبنغازي، اعتقد أن السيطرة علي أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار أسهل بكثير من السيطرة علي توجهات الطلاب، فبدأ بتشكيل حلقات من الطلاب الذين أسماهم بالثوريين وأمرهم بمواجهة المعارضة التي تتسع كل يوم داخل جامعة بنغازي، يحمل في داخله الولع بالظهور والمخالفة هي الأقدر علي جذب الأضواء قام بالاتصال بعدد من الطلاب المناوئين للثورة وبخاصة من ذوي التوجهات الإسلامية، لكن ابن عمه الذي اكتشف فيه تلك الرغبة قربه منه، وجعله علي يمينه دائماً في بعض المناسبات. أذكر أننا كنا مجموعة من الصحفيين والمثقفين في لقاء مع معمر القذافي عام 1976 بطرابلس في قصر الشعب، قصر الملك سابقاً، وعند مغادرة القذافي مكان الاجتماع دعاه إلي الركوب معه في السيارة التي يستقلها، علق بعض الحاضرين علي أن تلك الحركة هي مؤشر ورسالة للحاضرين بقصر المسافة التي تفصل بين معمر وأحمد. أمر معمر بعض الطلاب الذين اقتربوا من أفكاره أن ينظموا أنفسهم، وأن يستعدوا لمواجهة واسعة وحتمية مع الطلاب المعترضين علي التدريب العسكري، والمطالبين بقيام اتحاد طلبة مستقل، الهادفين إلي تشجيع الطلاب علي الخروج في مظاهرات من أجل تحقيق مطالبهم التي ستقود إلي المطالبة علناً بإنهاء الحكم العسكري، وإقامة نظام دستوري والتركيز علي مصالح ليبيا الداخلية والتوقف عن القفز من مكان إلي آخر تحت شعارات قومية ووحدة عربية فورية. تولي أحمد إبراهيم مهمة تنظيم لقاءات معمر مع عدد من الطلاب الذين توسم فيهم الحماسة الثورية والإخلاص للأخ العقيد، ونجح في تجنيد طلاب من بينهم «الطيب الصافي» «ومصطفي الزائدي» و«يونس معافه» و«هدي بن عامر» وغيرهم وبعض الموظفين العاملين داخل جامعة بنغازي وخارجها، كانت المخابرات الليبية قد قامت بتجنيد بعض الطلاب مبكرا وتم تشكيل غرفة عمليات من هؤلاء لإدارة المواجهة مع طلاب الجامعة، وحدد يوم 7 أبريل 1976 لبداية المواجهة في داخل الحرم الجامعي، وتم فرز مئات من الجنود الشباب وأدخلوا إلي الجامعة علي أنهم طلاب، وبدأت المواجهة بين الطرفين، وانتهت المعركة غير المتكافئة بهزيمة الطلاب. بدأت بعد ذلك حركة واسعة للخلاص من قيادات الطلاب، وطرد عدد كبير منهم من الجامعة، ثم نقلت المعركة إلي جامعة طرابلس ، وأشرف عليها الرائد «عبدالسلام جلود» شخصيا وجرت حركة تطهير واسعة بين طلاب جامعة طرابلس، أصبح «أحمد إبراهيم منصور القذافي» قائدا لحركة 7 أبريل الطلابية، وأصبح مرجعا لقيادة الطلاب الثوريين المرتبطين مباشرة بالعقيد. كان يتنقل فكريا وحركيا بين شخصيات ثورية مختلفة ، فطورا تتلبسه روح «جيفارا» يقلد حركاته، ويقتبس شيئا من شطحاته الثورية العالمية، ويدعي التقشف والزهد في المال والمنصب وبعد الثورة الإيرانية، افتعل التماهي مع شخوصا، بدءا من آية الله الخميني إلي خلخالي، وعندما أقيمت المحاكم الثورية إثر حملة المداهمات، ترأس عددا من هذه المحاكم ومثل أمامه عدد من المسئولين الحكوميين ورؤساء الشركات والمؤسسات العامة ورجال الأعمال تحدث بلغة المحقق والمدعي العام والقاضي، واطلقت الشعارات ورفع عقيرته بالتهديدات لمن يجلسون أمامه من المتهمين التعساء، تحدث في إحدي المحاكمات عن المؤامرة الأوروبية ضد العرب، وأن قوي الاستعمار تريد تدمير الأمة العربية، وأسست شبكة كبيرة من العملاء
من أجل تخريب الذات العربية لأن الإمبريالية الأوروبية تري في العرب أمة من الهمج المتوحشين، وردد كلمات باللغة الفرنسية تذكرها من أيام طفولته في تشاد، كان يتحرك فوق كرسيه الدوار متقمصا شخصية الجلاد الإيراني خلخال كان ذلك في مطلع ثمانينات القرن الماضي. بعد إعلان قيام سلطة الشعب في مارس 1977 وبداية التآكل لمؤسسات الدولة الليبية، وتدافع القذاذفة للسيطرة علي قطاعات الدولة، خصوصا بعد تأميم القطاع الخاص، وإقامة الأسواق العامة، وما عرف بالمنشآت، كان كل قذافي يلهث وراء المال، والسلطة هي الطريق الأقرب لمخازن الثروة، وبدأت المتاجرة والمضاربة في كل شيء كان أحمد إبراهيم يعتقد كامل الاعتقاد أن لديه مؤهلات لا يمتلكه سواه من ابناء عمومته، وهي الثقافة أو الفكر، أراد أن يكون القلم سوطه الذي يجلد به الليبيين ويخيف به ابناء عمومته الذين تنفذوا في المفاصل العسكرية والأمنية، كان طموح أحمد منذ البداية، أن ينصب نفسه قيمًا علي الفكر والثقافة والصحافة في ليبيا، استطاعت صحيفة الأسبوع السياسي والأسبوع الثقافي، أن تمثلا صوتا داخل المجتمع الليبي كان للمطبوعتين ما لهما وعليهما أيضا، لكن الشيء الذي لا يمكن إنكاره أنهما أبرزتا أقلاما ليبية شابة وواعدة، أغلب هؤلاء الكتاب لم يكونوا صدي للكتاب الأخضر الذي ألفه معمر القذافي وجندت له الكثير من الأقلام في الداخل، وتطوع غيرها، وكذلك في الخارج، وعقدت الندوات المتعاقبة محليا وعربيا ودوليا للدعاية له. حاول أحمد بكل الطرق أن يستولي علي المطبوعتين ، ولم يأل جهدا لإقناع ابن عمه معمر بتكليفه برئاسة تحريرهما، ولكن معمر لأسباب عدة لم يستمع له، أرسل أحمد أكثر من مقالة لنشرها في الأسبوع السياسي، وتم نشر مقالتين فقط في باب «الضوء الأخضر» وهو باب مخصص للمبتدئين الهواة، وغضب من ذلك غضبا شديدا. وما زاد من غضبه أن الطالبات في جامعتي طرابلس وبنغازي عبرن عن إعجابهن ببعض كتاب الصحيفتين واعتبر أحمد أن تلك إهانة لا يمحوها إلا الإعدام أو السجن. وعندما كان بعض الشباب المثقفين والكتاب يعقدون ندوة في بنغازي، وبينهم عدد من كتاب صحيفة الأسبوع السياسي والثقافي، قام أحمد إبراهيم ومعه عدد من أعضاء اللجان الثورية، بالهجوم عليهم وضربهم ثم اعتقلوا ورحلوا إلي طرابلس لمحاكمتهم. ألقي القبض علي في طرابلس، بصفتي رئيس تحرير سابق للمطبوعتين وجري التحقيق معي بنيابة أمن الثورة من طرف محمد بن يونس، ولكن أفرج عني بتدخل مباشر من معمر القذافي، ووضعت في الإقامة الجبرية بمنزلي الكائن بحي دمشق مدة ستة أشهر، اقترح أحمد إبراهيم ومعه كل من ميلاد الفقهي وصالح إبراهيم إعدامي بمناسبة 7 أبريل، يوم الاحتفال بثورة الطلاب التي تم فيها التخلص من طلاب جامعة بنغازي المناوئين للنظام، لكن معمر القذافي تدخل مرة أخري ومنعهم من ذلك. استدعاني معمر القذافي ذات صباح ، وأنا مازلت رئيسا لتحرير صحيفة الأسبوع السياسي والأسبوع الثقافي إلي مقر مجلس قيادة الثورة في طرابلس، كان ذلك في أواخر عام 1979 دخلت إلي مكتب إبراهيم بجاد، الذي كان يتولي آنذاك مسئولية الشئون الإعلامية بالقيادة، ووجدته بغاية التوتر والاضطراب، قال إن الأمر حساس وخطير، وإن العقيد بحالة غضب شديد، وكرر «ربي يستر، ربي يستر» وأضاف أن العقيد يتهمك أنك سلمت المطبوعتين للشيوعيين ويتوعدك بأشد العقوبة، وفي الأثناء دخل العقيد، ورفض مصافحتي وبادرني بالقول:« صحيت يا فالح، أنت نائم علي أودانك والشيوعيون احتلوا الصحيفتين» وبدأ بتقليب بعض أعداد الصحيفتين وخطوط حمراء تحت بعض الأسطر، ليؤكد صحة ما يقول، وقرأ كلمات مثل «الاستغلال»، «الطبقة العاملة»، «فائض القيمة»، «البرجوازية»، «صراع الطبقات» «غرامشي» .. وغيرها قلت له :« إننا نعمل من أجل تحقيق الاشتراكية، وإقامة العدالة الاجتماعية، هناك كلمات تتقاسمها القواميس السياسية، تجد استعمالا لها في كل المجتمعات وفي النهاية فإن كل ما ينشر في المطبوعتين، إما أن تكون أنت قد وجهت به مباشرة ، أو عن طريق الأخ إبراهيم بجاد، أو تم الاتفاق عليه في الاجتماع الأسبوعي لهيئة التحرير، وعلي كل حال فأنا رئيس التحرير المسئول عن كل ما ينشر في الصحيفتين ، أما عن انتماء هؤلاء الكتاب أو بعضهم لحزب شيوعي أو غيره فتلك ليست مسئوليتي» وقف وقال:«إذا أنا أكذب؟!» قلت «معاذ الله، ولكني لا أستطيع أن أشهد زورا ويا أخ العقيد لو أنا أشهد ضد هؤلاء زورا، وتقومون بإعدامهم فإنني سأنتحر» خرج غاضبا نظر إلىّ إبراهيم بجاد مضطربا، وقال :«كيف تقول هذا الكلام للأخ العقيد يا عبدالرحمن؟! هل أنت مجنون» قلت له «يا أخ إبراهيم هذا موضوع خطير وحساس، ولابد من أن نكون صرحاء مع الأخ العقيد، ولا نتركه يرتكب فعلا قاسيا ضد هؤلاء الشباب الأبرياء، أنا واثق أن أحمد إبراهيم هو من قام بتعبئة الأخ العقيد ضد هؤلاء، ويجب أن لا نسمح بما يحدث». بعد أيام سافرت إلي بولندا، ومنها إلي لندن حيث علمت أنه قد تم إعفائي من رئاسة تحرير الصحيفتين. عدت إلي ليبيا، وبعد أيام بدأ القبض علي كتاب المطبوعتين، استدعاني عبدالعاطي العبيدي، رئيس اللجنة الشعبية العامة ( رئيس الوزراء) وقال إن الأخ العقيد أمر بإعفائي من الصحيفتين، وتعيين سعد مجبر مكاني وأخبرني أن تعليمات الأخ العقيد تقضي بتعييني في أي مكان اختاره، قلت له أنني أرغب في مواصلة دراستي بالولايات المتحدة الأمريكية، وافق عبدالعاطي فورا. بعد أيام قال لي عبدالعاطي بصراحة إن التعليمات من الأخ العقيد تقضي بعدم سفري إلي الخارج، ومنعي من الكتابة في أي مطبوعة تصدر خارج ليبيا. بعد ذلك بأسبوعين تعرضت لحادث سير شنيع أصبت فيه بكسور في الرأس، والكتف والذراع والضلوع وبقيت تحت العلاج أسابيع في مستشفي «الخضراء» بطرابلس زارني في المستشفي المحامي الراحل عبدالرحمن الجنزوري واستدعاني للشهادة في قضية «التنظيم الشيوعي» المتهم فيه كتاب الأسبوع السياسي والأسبوع الثقافي أخذت إلي المحكمة علي سرير متحرك، أمام قاعة المحكمة وجدت كلا من أحمد إبراهيم القذافي وآخرين من حركة اللجان الثورية، كنت شاهد النفي الوحيد، التف حولي المذكورون وطلبوا مني عدم الشهادة، لأن في ذلك خيانة للثورة، دخلت إلي قاعة المحكمة لم يستدعني القاضي للشهادة أصر المحامي الجنزوري علي الاستماع لشهادتي، ولكن القاضي «بن لامين» رفض، فقلت له بصوت عال وبغضب:«أريد أن أدلي بشهادتي، وهذا حق عليك وعلي» فرد:«أسكت وإلا أدخلتك القفص» قلت:« أنا لا أمانع في ذلك» فجأة دخل الممرضان المرافقان لي وأخرجاني من قاعة المحكمة. كان أحمد إبراهيم هو المهندس والمنفذ لتلك المأساة التي حكم فيها بالمؤبد علي أكثر المتهمين الذين قضوا عشر سنوات في السجن ظلما وبهتانا، تلبس شخصية الثوري المتشدد علي طريقة ثوار أمريكا اللاتينية من الياسريين العنيفين، لإشباع رغبات في ذاته، وتقربا من ابن عمه العقيد، وجريا في حلبة السباق مع ابناء عمه من القذاذفة. في شهر مايو 1983 نشر أحمد مقالة في جريدة الجماهيرية تحت عنوان «أيها الصرصار، هذا عطر» والمقصود بالصرصار كان خليفة إحنيش ، والعطر قصد به نفسه، وقصة هذه المقالة هي أن خليفة إحنيش وجد أحمد إبراهيم في إحدي دوائر الدولة العليا ومن الطبيعي في نظر خليفة احنيش أن لا يصل «عيل» مثل أحمد إبراهيم إلي هذا المكان ، واحتدم النقاش بينهما وانتهي بصفعة قوية من خليفة إحنيش علي وجه أحمد إبراهيم أمام مجموعة من الموظفين، فأوعز القذافي لأحمد بالرد وكانت هذه المقالة التي أثارت غضب خليفة وهدد بسجن أحمد ولكن القذافي منعه. تلك كانت لعبة معمر ضرب طامع بطامح ، أو العكس، وليس هناك قواعد لهذه اللعبة المستمرة سوي تشخيصه لمكونات كل شخصية واستخدامها بالطريقة التي يحددها وفي الوقت الذي يراه. استعمل معمر بعض المكونات التي وجدها ناضجة في شخصية أحمد، وطوع العقد والرواسب فيه، وقام في الوقت نفسه بإضافة بعض المساحيق والمحاليل الضاربة والحارقة والمتفجرات إلي ما وجده في صحن نفسية أحمد، قرّبه وأبعده كافأة وعاقبه أبرزه وطمسه اشعله وأطفأه ليكون دائما علي مقاس الثقب وعلي وثيرة الإيقاع المنتقي. كانت الجامعات الليبية بالنسبة إلي معمر القذافي مصدر صداع وقلق، بل خوف ورعب، لم يغب ملف الطلاب يوما عن طاولة معمر القذافي، فأبدع ما لم يخطر علي بال بشر، فبعد ما سمي بثورة الطلاب في 7 ابريل، أطلق القذافي شعار «الجامعة الطلابية» وأمر أن يتولي الطلاب إدارة الجامعات، وأن يكون عمداء الكليات من الطلاب، ثم ارتفع شعار الجامعة يخدمها طلابها، ملئت الكليات المختلفة بعناصر الأمن، وشنت حملة واسعة لتجنيد الطلاب في أجهزة الأمن المختلفة، وغيرت المناهج بما يقود إلي إبطال مفعول في عقول الطلاب، ولم يتوقف معمر القذافي عن زيارة الكليات المختلفة، وفي كل زيارة يلقي خطابا يدعو فيه إلي الحد من تسليط الأساتذة علي عقول الطلاب، ويأمر بفتح كل الكليات لكل من يريد الدخول إليها، من دون ضوابط منهجية تحت شعار حرية الإنسان في اختيار ما يريد، وكل ما يخالف ذلك هو نوع من العنف والتسلط وقمع حرية الإنسان، ووصل الأمر إلي أن قال ذات مرة: ماذا يمنع الطالب الذي يحمل الشهادة الثانوية من القسم الأدبي من الدخول إلي كلية الطب؟ ولماذا يقبل المتفوقون فقط كمعيدين في الجامعات، وتعطي لهم الفرص وحدهم لمواصلة الدراسات العليا؟ وقع اختيار معمر علي أحمد إبراهيم ليتولي تنفيذ هذه الأفكار الثورية غير المسبوقة، وأضاف أحمد ملحا إلي الحامض، ككل مرة ليؤكد القائد أنه الثائر المتشدد الذي لا يقبل بأنصاف الحلول، وبأنه القادر علي الإتيان بما لم يفعله الأوائل فبعد الغارة الجوية الأمريكية علي بيت القذافي في عام 1986، أصدر أحمد وزير التعليم قرارا بإلغاء تدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية في مراحل التعليم كلها في ليبيا، ولا يزال جيل كامل من الليبيين يعانون ثقل هذا القرار، وجعل الكثير من الجامعات الأجنبية تقلل من قيمة شهادات الطلاب الليبيين، ومن الطرائف التي تدفع إلي الضحك قدر ما تدفع إلي البكاء، ذلك الأسلوب الذي انتهجه أحمد إبراهيم في اختيار الطلاب الموفودين للدراسة في الخارج، فكان يستعرض بنفسه أسماء الطلاب المتفوقين المرشحين للدراسة العليا في الخارج، الاسم الذي يحمله الطالب هو الفيصل الحاسم في قرار الإيفاد من عدمه، فلو كان اسم الطالب مثلا «صفوت» أو «سمير» أو «زكي» فهذا يعني أنه ينحدر من أسرة برجوازية رجعية، وبالتالي فهو مضاد للثورة ويكفيه ما حصل عليه من تعليم، أما إذا كان اسم الطالب «المبروك» «أبوعجيلة» «رحيل»، «الخير».. فذلك يعني أنه ينحدر من أسرة كادحة مرتبطة بالثورة، حرم أهلها من التعليم، وليس من بين أفرادها من يحمل لقب دكتور، ولم يخف أحمد إبراهيم اعتزازه بهذا الأسلوب الثوري المبتكر، وكان يردده أمام الملأ من دون الشعور بأي حرج، بل كان مصدر اعتزاز وافتخار، بل شن حركة تطهير واسعة بين الأساتذة الليبيين وغير الليبيين الذين اعتبرهم من الرجعيين الذين لا يؤمنون بالنظرية العالمية الثالثة، وكان أحمد قد أعلن إيمانه بهذا النهج منذ أن كان طالبا يقود حركة الثورة الطلابية في الجامعة، فقد اعتقل عددا من كبار الأساتذة العرب، من بينهم عبدالرحمن بدوي أستاذ الفلسفة المعروف، الذي يعد من المؤسسين لمكتبة فلسفية عربية واسعة وغنية. وطرد هذا العالم من ليبيا وقد تحدث بالتفصيل عن تجربته المرة هذه، وتحت شعار الثورة لم يتردد في حرمان مئات الطلاب من حقهم بالدراسة بحجة أنهم من أعداء ثورة الفاتح، وأحمد إبراهيم هو الذي أوعز إلي محمد شرف الدين الذي كان يتولي وزارة الإعلام بحرق الآلات الموسيقية الغربية بعد الغارة الجوية الأمريكية علي منزل العقيد القذافي في عام 1986، وكان شرف الدين تلميذا نجيبا لأحمد إبراهيم ضمن حركة اللجان الثورية. كان سيف الإسلام معمر القذافي كثير التندر علي أحمد إبراهيم، ولا يخفي كراهيته له، كان يسميه أحمد «البهيم» أي الحمار، وقد سألت مرة سيف عن إصراره تسميته بذلك، فتحدث مطولا عن الأضرار التي سببها للتعليم في ليبيا، ويجمع الليبيون تقريبا علي أن أحمد إبراهيم قد ألحق بالشباب الليبيين ضررا لا يمكن جبره بتخريبه لقطاع التعليم في ليبيا. تعالت الانتقادات لأحمد إبراهيم، واتسعت دائرة الكراهية له، وبعد أن سطع نجم سيف الإسلام معمر
القذافي، وارتفعت عقيرته بالنقد المتواصل لأحمد، اضطر معمر أن يقذفه إلي أعلي ويضعه في منصب ليس له صلاحيات تنفيذية وإن كان من الناحية السياسية والبروتوكولية أعلي من منصب الوزارة، أي في أمانة مؤتمر الشعب العام، وبالتحديد أمين شئون المؤتمرات الشعبية، وفي هذا الموقع يستطيع أحمد أن يمارس عقيدته، أو عقدته، وهي التنظير والخطابة لسلطة الشعب التي يقول إنه يؤمن بها ويوقف حياته لها. اعتاد القذافي في السنوات الأخيرة أن يقضي جل وقته في مسقط رأسه بسرت التي أرادها أن تكون بؤرة سياسية وحلقة حياة خاصة. يتحدثون إلي «القائد» ويستعيدون حكايات وروايات عن أيام القبيلة التي صارت المالكة لليبيا، يستعرضون الأمجاد المضافة علي يد القائد إلي هام أمجادهم الماضية، ولا تنتهي الجلسات من دون الوقوف عند بعض الأسماء في دائرة الإدارة الليبية العليا، وعند أصحاب المال، وتتعالي الأصوات حول بعض ما يجب فعله من تقريب بعض الأسماء وإبعاد أخري كانت تلك الجلسة القبلية بمثابة حلقة القرارات الاستراتيجية وكان لأحمد إبراهيم مكان المنظر الاستراتيجي. اعتلي أحمد إبراهيم مركب النظرية العالمية الثالثة، والكتاب الأخضر، والجماهيرية وسلطة الشعب والديمقراطية المباشرة فكلفه معمر برئاسة مركز دراسات الكتاب الأخضر، هناك في هذا المركز سيجد الملعب الذي يركض فيه وراء الكلمات والتعبيرات، أمامه مفازات من الفراغ الذي يطلق فيه ما طاب له من المقولات والأفكار الرجراجة. في السنوات الأخيرة، رفع سيف الإسلام معمر القذافي شعار ليبيا الغد، وأسهب في الحديث عن الحرية والإصلاح، وأقام العديد من الأجسام الإعلامية، ودعا إلي المنابر السياسية وأفاض بالحديث عن التعبير والتوجه إلي الليبرالية، مستشهدا ومرددا المفاهيم الغربية، وعلم الليبيون أن أطروحات سيف هي مضمون برنامجه للتوريث، ولم يخف أحمد معارضته لهذا بحجة أن النظرية العالمية الثالثة ضد التوريث وتتعارض مع أي طرح ليبرالي، وارتفعت الأصوات، وتصادمت في الأعلي، وبرز جناح من القذاذفة يناضر أحمد إبراهيم وذلك يعني ضمنيا معارضة مشروع سيف، وكان هذا الأخير يطلق علي العائلة التي ينتمي إليها أحمد «المناصير» أي آل منصور، وهو جد أحمد، وبدأت الهوة تتسع وتتحرك إلي أن وصلت إلي داخل بيت معمر القذافي نفسه، وبدأ المعتصم، أحد أبناء القذافي، يعبر عن استساغته لأطروحات أحمد إبراهيم ولم يكن ذلك حبا به قدر ما كان اعتراضا علي مشروع توريث سيف الإسلام، الذي كان بعض أبناء قبيلة القذاذفة يرون فيه مخططا رسمه عبدالله السنوسي، الذي احتضن سيف منذ طفولته، وحرك حوله الكثير من القوي للتأثير فيه ودفعه نحو الأفكار التي كان يرددها، ثم بدأ يحاول تنفيذها رد سيف الإسلام برفع صوت النقد والسخرية من أحمد إبراهيم الذي وجد نفسه في موقف يصعب الدفاع عنه، وفي الوقت نفسه يستحيل التراجع، هو لا يتجرأ علي التصادم مع ابن معمر القذافي، وبالذات سيف حاول بعض المقربين من أبناء العائلة ترتيب لقاءات بين أحمد وسيف وصوروا أن العدو المشترك لهم جميعا هو عبدالله السنوسي الذي يريد استعمال سيف كقفاز يضرب به قبيلة القذاذفة ويرفقها من مدخل وعده بوراثة القيادة بعد أبيه، فإذا صار الأمر لسيف «الغر» بحسب تحليلهم، فسيقوم عبدالله السنوسي بإهداء مركب القيادة إلي ابن عمه عبدالسلام جلود، الذي كان مرة الرجل الثاني، بفضل معمر القذافي، وسيصبح الرجل الأول بفضل ابن عمه عبدالله السنوسي. وجد أحمد نفسه وحيدا فوق حلبة لم يحسب ارتفاعها بدقة، وهو الآن علي رأسه مملكة نظرية لا سلطة فيها ولا مال - مركز دراسات الكتاب الأخضر - فهل يستطيع أن يخوض معركة بسلاح الكلمات؟ أيقن هذا الرجل الذي انهكته المعارك الكرتونية التي خاضها علي مدي عقود أنه أمام بوابة النهاية، وقد يصحو يوما ليجد نفسه في عالم آخر علي يد عبدالله السنوسي الذي لا يخفي كرهه له، وهو سيد المؤامرات وملك الدم، والقادر علي أن يهمس بأذن معمر القذافي في أي ليلة في جلسة عائلية بين صفية زوجة القذافي، وشقيقتها فاطمة زوجة عبدالله، لم يبق لأحمد المرعوب، إلا مملكة الكلمات، فاخترع كيانا يمكن أن يكون خندقه الذي يتحصن فيه من غضب سيف الإسلام الذي قد يشهره عليه عبدالله السنوسي في ليلة ظلماء، أسس نادي أصدقاء الكتاب الأخضر، وعلل هذاالتأسيس بأنه الصيغة التي لا ينفر منها العالم، وتجعل التفاف المفكرين والمثقفين حول الكتاب الأخضر مبررة ومقبولة، وعمل أحمد علي حشد الكثير من الليبيين إلي محفله الجديد، ولنقل حول خندقه، الذي رأي فيه الحصن الذي يبعده عن سهام سيف وعبدالله، ولكنه أدرك أن كل العصي قد تكسرت، وقبع في سرت حزينا كظيما، يسترجع وهم الأيام، وكيف استخدمه ابن عمه حتي وهن العظم منه واشتعل الرأس واللحية شيبا. هذه لعنات الحياة التي قلما ينجو منها من لا يجيد قدح ملكة الوعي في داخله، لقد أمر أحمد إبراهيم أحد إخوته بقتل أختهما عندما ضبطت مع أحدهم بالجرم المشهود، وصمت كالجماد علي ما حدث بين أخته الأخري وابن عمه القائد.. يا لها من مفارقة، هنا قتل باسم الشرف، وهناك صمت باسم الثورة. هذا الشخص الذي يشكل أحد أعمدة خيمة السلطة الثورية القبلية القذافية، يختزل مرحلة، ويجسد حالة، جاء من وهم إلي وهم، طار من ملكوت الفاقة إلي كمون التعاسة، تنقل بين العنف والدم والظلم، طبقات الوهم المخادع ظن أنه أخذ كل شيء بأسلوب قطاع الطرق، استعمله ابن عمه معمر القذافي كما يستعمل الساحر الأرانب والطيور، يخرجها مرة من جيبه، وأخري من كمه، يصفق الحاضرون ثم يسدل الستار. اليوم لا معمر ولا أحمد ولا سيف ولا عبدالله، ولا محفل للكلام، حروف الرصاص تكتب بأيدي الثوار سطورا أخري، ويكتب الدم نظرية الحرية فوق صفحات تراب الوطن، اليوم لا أصدقاء للكتاب الأخضر، ولا خندقاً يحمي من مدافع الحقيقة، هرب الوهم وتلاشت الأشباح وانبلج الوطن. يوم 23 أكتوبر 2011 دك شباب الثوار جمر القذافي الأخير في منطقة سرت 2 طلعوا عليه وعلي الحفنة التي تدافع عنه طلوع البركان، هرب معمر «الجرذ» المنزوع المهزوم يجري مثل أرنب مجنون، دخل إلي ماسورة مجاري، جذبه شاب صغير من شعره الحقيقي، لا باروكة ولا مساحيق إنه يوم الهول يوم القصاص بهت المهزوم سال دمه بيد ليبيا كان أحمد إبراهيم يقبع مذعورا في جحر بسرت. أخذ ثوار مصراتة، تدلت لحيته البيضاء الطويلة علي صدره، ظهر أمام شاشات التليفزيون يتحدث عن لحظات القبض عليه عندما بدأ الثوار التحقيق معه، نصحهم بتأسيس مؤتمرات شعبية! لم يفق التعيس من كابوس «السريالية القذافية»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.