"ستة أعمال سردية، تتراوح بين القصة والرواية، صنع الكاتب المصري "يحيي مختار"، مجده الأدبي ووضع اسمه علي خريطة السرد العربي،هذه حقيقة لا يخطئها قارئ مدقق، أو ناقد منصف، ولكن الشهرة أو وضع المبدع في دائرة الدراسة والنقد أو الضوء الاعلامي أو الترجمة.. هذه الأشياء لها حسابات أخري، بعيدة عن الموهبة والجدية والتفرد ...الكاتب في مصر الآن، وخاصة في العقدين الأخيرين، لا تصنعه موهبته أو إبداعه، بل تصنعه شلته ودائرة مقايضاته" ولد " يحيي مختار " في ديسمبر 1936 في قرية "الجنينة والشباك" في النوبة القديمة، وبعد سبع سنوات رحل إلي القاهرة، ملتحقا بوالده، ونشر أول قصة قصيرة عام 1957 وكتب أول قصة نوبية عام1970، بعد رواية " الشمندورة " لرائد الأدب النوبي "محمد خليل قاسم "، وصدرت أول مجموعة قصصية له بعنوان "عروس النيل"، وحصل " مختار " - بهذه المجموعة علي جائزة الدولة التشجيعية عام 1992،وهي الجائزة الوحيدة التي حصل عليها هذا الكاتب الموهوب. النوبة الجديدة النوبة عنده ليست هي المكان الضيق المحدد جغرافيا، والمهمش تحت ظروف التهجير، ومطموس الهوية بسبب عمليات الاقتلاع المستمرة، هذا الكاتب أبدع نوبة جديدة مختلفة عن الواقع المغاير والمترسب في ذاكرة المثقفين النوبيين، عالم هذا الكاتب أسطوري إلي حد ما، أغلبه غيبي وصوفي، تغلفه الرقة والشفافية، أعطي للنوبة عالما آخر يشع رحابة وإنسانية، ومنحها ذلك المطلق : صفاء الرؤية ويقين الخلاص النهائي من درن النفس وصرامة الواقع. في منجزه الإبداعي، هناك دائما محاولة مستمرة لإعادة ما ضاع واختفي، إعادته رمزيا ودلاليا، شيخا أو قطبا أو رجلا ذ ا كرامات أتي بأفعال خارقة. ثمة عالم واحد مؤطر بقرية "الجنينة والشباك" موطن الكاتب. والشخصيات والتيمات في أعماله لا جدال أنها واقعية، كوجود قريته وأضرحة شيوخها، وثمة شخصيات نكاد نعرفها حق المعرفة، ثمة أماكن وأضرحة موجودة في إبداعه كتيمات محورية، دلالة علي واقعية عالمه المغمور والغارق. كويلا «كويلا» مجموعة قصصية صدرت حديثا عن مكتبة الأسرة وسبق نشرها في سلسلة أصوات أدبية حين كان يتولي أمرها الروائي محمد البساطي، وهي تضم خمس قصص قصيرة . في قصة " الجدار الزجاجي والزمان النوبي " مثالا يوحي العنوان علي تيمة الذوبان والأفول والانصهار في شمولية ورحم الأم/الوطن، لا يكف الراوي "عثمان حجية " محاولاته لإعادة مفردات من عالمه، لامساك شيء ينفلت ويغيب، كمحاولة نقل قريته، بدءاً من المرسم الذي بدا ماثلا لكل شيء يمت لعالم الجنوب وجعله ينبض بالذكريات وجعله متحفا للحنين السرمدي، ويعيد عالمه كذلك في صوت المطرب النوبي المهاجر بعيدا الذي يغني أغاني مترعة بالحزن والحنين إلي النوبة، ويعبق مرسمه بالبخور، أي يستوحي عالمه الإبداعي من عالم واقعي مغمور وغائب لكنه مخزون في الذاكرة، يعود الفنان من رحلته السنوية بإحساس وإلهام جديد، يرسم لوحاته التي تعكس أضواء شمس الجنوب، وفوق شواهد الأرض وشعاع معبد " أبو سنبل" وما يبعثه من حرك وحيوية كنواة تنبت منها وحولها القري القديمة مرة أخري كالبذرة الصالحة التي لا تفسد ولا تموت . إن مأساة "كويلا" في قصة تحمل اسمه هي إشكالية كل مخلص ومتقن لعمله إلي حد العبادة، تمكن " كويلا "بإيقاعاته الفريدة وانتقالاته الناعمة من إراحة الراقصات وجعلهن يرقصن بمتعة فائقة طوال الليل، كأنهن في جلسات علاج أو في خلوات شيوخ المتصوفين أو هن داخل حلقة الزار في الطب الشعبي، لاقي "كويلا " مصيره من الضرب الذي أفضي به إلي الموت، لا بسبب إيقاعاته، كما زعم القوم أو لنظراته التي تفضح ستر النساء، وما يؤلم "كويلا" ان قومه لم يدركوا قيمة ما يقدمه من أجلهم، إيقاعات "التار" تحول النساء إلي كائنات رقيقة تبوح أجسادهن بإشارات حسية حارة، ويصبح رقصهن ليس رقصا بل معاقرة اللذة علي رءوس الأشهاد، ويأتين بحركات لا يفعلنها في المضاجع، تكاد أصوات غنجهن تصخب علي إيقاعات "التار"، قدرة "كويلا " تفوق قدرة الرجال، هذا سبب الكارثة، فإيقاعاته تجعل النساء يأتين بما لا يستطيع الرجال معهن بالأحضان والقبل ووشوشة الشهوة، ان كويلا يفك أسر وكبت هؤلاء النسوة المقموعات ويطلق العنان لهم للبوح ويساعدهن علي العلاج. إن مأساة "كويلا" الفتي الفقير الذي لا يملك الجاه أو القوة إلا انه متفرد في مهنته ومؤمن بها، ويشعر ان إيقاعاته ليست إلا صدي صوت قادم من السماء والنهر ويظل يبحث "كويلا " عن شيء فريد وعميق داخله، ولا يعرف كنهه ويريحه هذا الشعور بأن إيقاعاته هي صوت السماء الذي يسمعه، وهو وحده مكلف بإذاعته إلي الناس. علي نحو ما تتعانق المحبة والعشق، مثلما تتعانق الحياة والموت في جدلية السرمد والفناء، تتعانق لحظة موت الأطفال بلحظات الجماع الجسدي بين الأم الولود التي لا يعيش لها أطفال، كما في قصة " ماء الحياة"، إن محاولات الزوج إنقاذ زوجته من لدغة عقرب، ليتوحد معها في الألم، يشفط السم من جسدها لينقله إلي جسده، وتعكس رغبة الزوج الملحة لإعادة الزوجة، رغم إصرارها علي الرحيل إلي أطفالها الذين رحلوا في المهد، "تتلي" الزوجة تريد جماع روح زوجها الذي يسكب في أعماقها ماء الحياة، رغم تعدد حالات الفقد والرحيل، الزوج يعرف تماما أن عالمه ذاهب إلي زوال،لذا يأخذ بكل مفردات الحياة في محاولة إعادة ما فقد، من جماع الزوجة بعد فقد كل مولود، إلي إشعال المسرجة ووضعها قرب رأس الراحلة، ثم يذهب إلي النهر، كرمز للخصوبة والديمومة، يغتسل من الحزن ويشعر أن ملك الموت اقترب ليتوحد مع " تتلي "الزوجة، الأرض البكر القادرة علي الاستمرار . في قصة "سراديب النور"التي يسميها الكاتب حكاية نوبية، يوجز فيها سمة أساسية في حياة النوبيين وهي التواصل والحفاظ علي الماضي وعلي ارث الأجداد ورفاتهم، في هذه القصة يمزج الكاتب بين أقوال بطل القصة الشيخ "حسن فقير" وبين أقوال حكماء المصريين ونصائحهم الصالحة للعصر من قبيل : لا تبعدوا عن النهر،عليك تقليد الأجداد، تأمل كلماتهم المدونة في المخطوطات، تختلط الحكمة وتمتد إلي السلف الصالح ...إلخ. هذا بعض ملامح من الكاتب المصري الموهوب " يحيي مختار" وهو جزء من عالم ثري، عبر عنه بصدق وبساطة عن معاناة الإنسان المصري في تلك البقعة من أرض الوطن، يحاول الكاتب في كل كتاباته إعادة مكان الطفولة وفضائه الهارب والمتبدد، وما قوضته معاول الهدم والاقتلاع، وكانت عملية لا مناص منها لتنمية الوطن. يؤكد "يحيي مختار" إن نظرته إلي تراث أهله النادر، وأجله هب العالم لإنقاذه والمحافظة عليه من الغرق والاندثار في كل كتاباته ومواقفه، أنه ضد ما يثار حول مسألة الأقليات، وأن ثقافة أهله وتراثهم هو جزء أصيل من روافد الثقافة المصرية ولا ينبغي فصل الرافد عن المنبع.