فى الزمن الماضى لم يكد يمضى ثلاثة أشهر على الانقلاب السورى على وحدة مصر وسوريا حتى جاء ثلاثة من قادته العسكريين إلى مصر فى 12 يناير 1962 يحتمون بها من مخاوف تهديد خارجى قادما خاصة من إسرائيل لها، لم يتشف الزعيم جمال من المنقلبين عليه، لم يقل «أرونا شطارتكم» أو «تستاهلوا الذى يجرى لكم» طبعا لم يدر بخلد عبدالناصر أو أى واحد من قادة الانقلاب أنه يمكن أن يتحالف مع أى قوة خارجية للقضاء عليهم. ما قاله عبدالناصر بالنص: أريدكم أن تعرفوا أنه مهما كان من أمر ما حدث أو سوف يحدث فإن الجمهورية العربية المتحدة بكل قواها المسلحة.. بكل إمكانياتها المادية وراء سوريا .. هذا الموضوع خارج عن أى مناقشة .. وهو فوق أى بحث وهذا أمر يجب أن تكونوا على ثقة منه واطمئنان.. لن تكون سوريا وحدها فى مواجهة إسرائيل أبدا. ولست وحدى الذى أقول ذلك، إنما هى إرادة الأمة العربية كلها والشعب المصرى ضمنها. لا تتصوروا لثانية واحدة أنكم بمفردكم .. ففى لحظة الخطر ستكون كل القوات المسلحة فى الجمهورية العربية المتحدة معكم فى المعركة، فنحن على استعداد لهذا الأمر منذ اليوم الأول للانفصال وخططنا كلها مرتبة على أساسه، لسنا فى حاجة إلى إصدار تصريحات حماسية فأنا واثق أن كل فرد فى الأمة العربية يعرف موقفنا كما أعرفه. «سنوات الغليان.. محمد حسنين هيكل». هكذا كان موقف جمال عبدالناصر جليا واضحا فى زمن يعرف ما الخطوط الحمراء التى يجب ألا يتخطاها أحد مهما كانت المبررات والضغوط واختلاف المواقف والعقائد ومهما كانت المشاحنات العربية وعندما اختفت الخطوط الحمراء وأصبحت الإشارات كلها خضراء تسمح لتجاوز كل ما هو أخلاقى ووطنى وقوى دون منار واحد يرشد وسط اختلاط المعايير والقواعد، أصبحت المواقف الوطنية مثل غير الوطنية التى تعمل لحساب دول معادية تاريخيا للمنطقة العربية، أصبح كل رأى عاهر يظهر دون أن يجد حتى «لى» للعنق تضررا منه بل كثيرا استحسانا بل يتساوى فى النقاش مع الآراء الشريفة، وسط هذا الاختلاط ظهرت مواقف مصر السياسة من قضية سوريا دون النظر إلى تاريخية المشهد كأنه مفتقد الصلة بالصراع العربى- الإسرائيلى دون النظر إلى الأجواء المحيطة به فى المنطقة من إيران شرقا إلى مصر غربا من الاتحاد الروسى شمالا إلى إسرائيل جنوبا .. دون أن يكون لديها معايير محددة تسمح بالحكم.. دون الالتفات إلى النوايا الخبيثة للاعبى المشهد.. لذلك اتسم الموقف المصرى سواء على المستوى الرسمى أو على مستوى البرلمان أو على مستوى الإعلامى على عدة غباوات. البعث الغباوة الأولى: النظر إلى الصراع الذى يدور فى سوريا على أنه بين حكم ديكتاتورى يمثله حزب البعث السورى تحت قيادة بشار الأسد وقوى المعارضة الديمقراطية فقط لا غير دون أن يكون من خلفه صراعات دولية للسيطرة على المنطقة حيث تسعى الولاياتالمتحدة إلى تطهير المنطقة من الجيوب الباقية التى تراها مازالت تحت السيطرة منذ أيام الحرب الباردة ويمكن أن تمثل تهديدا لنفوذها إذا استعاد القطب الآخر الروسى نفوذه القديم، وهذا التطهير تم فى العراق وليبيا والدور الآن على سوريا، على الجانب الآخر تحاول روسيا استعادة دورها فى المنطقة من خلال المحافظة على تلك الأنظمة التى مازالت غير خاضعة بشكل تام تحت النفوذ الأمريكى. إسرائيل على الخط الغباوة الثانية: النظر إلى الصراع الذى يدور فى سوريا إلى نظام يقتل شعبه دون النظر إلى أن إسرائيل على الخط بشدة بسبب سعيها المستمر إلى تأمين وجودها وأنها لا تقبل أن يكون هناك ند ولو صغير بعد خروج مصر من دائرة الصراع وهذا ما حققه حزب الله بتحرير جنوب لبنان عام 2000 ثم فشل إسرائيل تدمير وجوده فى غزوها لجنوب لبنان عام 2006 وكان لسوريا دور مهم في تدعيم حزب الله، لهذا تم الحشد اللبنانى للمطالبة بإخراج الجيش السورى من لبنان ثم تدبير حادثة قتل رئيس وزراء اللبنانى الحريرى واتهام سوريا بالمسئولية عن قتله بشهود لبنانين تبين فيما بعد أنهم شهود زور لم تتم محاكمتهم ومازالوا طلقاء حتى الآن وذلك لفرض عقوبات على النظام السورى ودفعه لتسليم قياداته للمحاكمة، لذلك لم يكن من الغريب أن يعرب نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل على رفضه للفيتو الروسى- الصينى على المشروع العربى المقدم لمجلس الأمن المطالب لتنحية الرئيس بشار عن الحكم. الغباوة الثالثة: عدم الشعور بأدنى شعور بالريبة والشك فى الموقف الأمريكى الداعم بشدة للمعارضة السورية والساعى لتقويض نظام حكم حزب البعث، باعتبار الموقف الأمريكى قائم على دعم النظم الديمقراطية.. برغم علاقة أمريكا الخاصة بإسرائيل التى تضمن تفوقها على جميع الدول العربية المحيطة فكيف يتمنى عدوك الخير لك. الغباوة الرابعة :عدم التعلم من تاريخ التجارب السابقة مثلنا مثل الفأر الذى يقع فى المصيدة لو أعادوا له التجربة آلاف المرات.. فنحن أيدنا بل تحالفنا مع الولاياتالمتحدة فى القضاء على نظام صدام حسين عام 2003 وما نتج عنه مليون قتيل وعراق مفكك وديمقراطية طائفية وعدم استقرار حتى الآن. ثم تدخلها فى ليبيا ما نتج عنه فى مدة لا تتجاوز سبعة أشهر 400 ألف مصاب و40 ألف قتيل . برغم هذه الأرقام المخيفة مازالت الغباوة هى هى تتوقع خيرا من أمريكا. الغباوة الرابعة: أن نترك قيادة العالم العربى لدول الخليج بقيادة قطر والمملكة العربية السعودية باعتبارها دولا تحب الشعوب العربية وتكره النظم الديكتاتورية مع أن نظمها هى الأخرى إن كانت تعطى شعوبها جزءآ من ثروتها نظرا لغناها فهى لا تعطى أى جزء من السلطة فكلها نظم تحكمها نظام الأسر بلا أى دستور ينظم علاقة الحكام بشعوبهم وبرلمان يراقب الحكم اللهم إلا البرلمان الكويتى الذى يتعرض للحل من حين إلى آخر. الخليج الغباوة الخامسة: هى أن نتصور أن دول الخليج تتحرك من وحى ضميرها بلا أيد خفية تحركهم على الساحة الدولية كالدمى برغم وجود قواعد عسكرية أمريكية على أراضى أكثر من دولة من دولهم. الغباوة السادسة: التظاهر ضد روسيا على المستوى الشعبى وممارسة الضغوط عليها على المستوى الرسمى لاستخدامها حق الفيتو لمنع التدخل الخارجى على سوريا .. مع أننا يجب أن نرحب بدور مستقل لروسيا بعيدا عن الاستراتيجية الأمريكية هى والصين ليوازن النفوذ الأمريكى فى المنطقة، لا ننسى كيف كان اختفاء دوره سهل لأمريكا تدمير العراق من بعدها ليبيا، وفرض سيطرتها على العالم العربى. الغباوة السابعة: أن نصدق كل ما يأتى عن طريق الإعلام الخليجى والخاض فيما يجرى فى سوريا وأن نسلم بكل ما يذكره المركز السورى لحقوق الإنسان.. وألا نتصور أن هذا إعلام موجه فى إطار الحرب على سوريا يذكرنا بما كان يمارس ضد صدام حسين باعتباره يمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة المحرمة، هذا ما ذكره التقرير الذى رفعته لجنة تقصى الحقائق برئاسة الفريق الدابى التى أرسلتها جامعة الدول العربية إلى سوريا بأن العنف متبادل بين الحكومة والمعارضة وأن كثيرا مما قيل عن فظائع الدولة السورية غير حقيقى بل ومفبرك، هذا ما تم التغافل عنه وطرح ما يسمى بالمبادرة العربية والتوجه بها إلى مجلس الأمن. الغباوة الثامنة: عدم مد النظر عرضيا لنرى أن الصراع مع سوريا هو جزء من الصراع مع إيران وبرنامجها النووى وفك الارتباط ما بين إيران والعراق وسوريا وحزب الله ليسهل ضرب إيران. الغباوة التاسعة: هى تصور أن الصراع هو شيعى- سنى.. أن الصراع حول أحقية على أم أبى بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه وسلم» مازال موجودا حتى الآن وأن الشحن الطائفى مبرأ من مقولة فرق تسد. الغباوة العاشرة: تصور أن الصراع الرئيسى فى المنطقة ضد الدول الديكتاتورية - مع أن كل دول المنطقة ديكتاتورية على رأسها الخليجية - وليس مع إسرائيل ومن خلفها أمريكا وأن الدول التى تبنى قوة وتستقل بقرارها السياسى هى أولى بالتحالف معها بغض النظر نحو طبيعة نظمها، وأن حصول إيران على قوة نووية وعسكرية عنصر فى صالحنا وليس ضدنا، هل مكتوب علينا كلما اقتربت دولة من دول المنطقة من تحقيق التوازن نتحالف عليها لضربها لأنها نظم ديكتاتورية؟! الغباوة الأولى بعد العاشرة: وهى غباوة التيار الإسلام السياسى فى مصر الذى يتصور أنه يمكنه التحالف مع أمريكا فى إسقاط النظم التى لا تعجبها خاصة التى لها تاريخ أسود مع هذا التيار فى مقابل أن تتركها لتصل إلى مجلس الشعب والحكم.. لأن أمريكا بعد ما تنهى موضوع إيران ستلتفت إليه لتقضى عليه. الغباوة الأخيرة: وهى غباوة المثقفين الذين لا يرون فى الدنيا غير حقوق الإنسان الفرد ويعتبرونه المعيار الوحيد للحكم على النظام ويحبون التشدق ويشعرو بمتعة الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان دون النظر لمعايير أخرى كحقوق الإنسان الأخرى الاجتماعية والاقتصادية وكقدرة الأنظمة على بناء صناعة متقدمة وتعليم متقدم وتكوين جيش قوى، وكمقدرتها على مجابهة السيطرة الأمريكية- الإسرائيلية على المنطقة العربية.