بعد العرضحال الأول والثاني اتضحت الآن نية المؤلف الأساسية وحيلته الذكية للحديث عن الدولة نفسها وليس عن حادثته الفردية. الحمير المسروقة بما عليها لم يعد لها أثر في كلماته لقد كانت مجرد ذريعة فنية يتوسل بها المؤلف للدخول في موضوعه الأصلي وهمّه الأساسي وهو الدولة والعلاقات الاجتماعية بداخلها. لاحظ أنه لم يتعرض لحادثة السرقة في العرضحال الأول والثاني كان فقط يشير من بعيد إلي الظلم الذي حاق به بشكل عام. لم يعد يترافع في قضيته الخاصة بل تحول إلي محام عام يترافع في قضية الأمة كلها. هذا هو المحور الأساسي في الكوميديا المصرية (الهم) ذلك الشعور الطاغي بالألم لما يحدث للذات وللآخرين. لكن أين الضحك إذن؟ أين البهجة التي لابد من وجودها لكي يكون الفن فنا والتي بدونها تتحول عرضحالات المصري القديم إلي مجرد نصائح إنسانية عامة مثل بقية النصوص التي تحفل بها كتب السياسة والاجتماع والقانون. الإجابة هي: رد الفعل. ممثلو الفكاهة المحترفون يعرفون جيدا أن رد الفعل وليس الفعل نفسه هو مصدر الضحك. الفلاح هنا ينافق يجامل يشكو ينصح يستجدي يشتم يصرخ يهس.. إلخ.. هذا هو الفعل وهو بالطبع يعتبر مصدرا جزئيا للضحك لكن أين رد الفعل؟ مصادر الضحك رد الفعل هو ما يفعله الطرف الآخر المحافظ رنزي ابن ميرو وكبار المسئولين. رد الفعل هنا هو انعدام الاستجابة وهو أقوي مصادر الضحك علي المسرح. ولكي أقرب المسألة إلي ذهنك سأذكرك بمشهد شهير في مسرحية "مدرسة المشاغبين" سهير البابلي المدّرسة كانت تنصح عادل إمام وهو أكبر المشاغبين في فصلها ثم انتقلت من النصح إلي التأنيب ثم إلي التعنيف والهجوم. بدأت سهير تؤلف خطبة طويلة ليست موجودة في النص. ولأن عادل كوميديان محترف لم يقاطعها لم يرد عليها لم يقابل فعلها بفعل آخر ولكن برد الفعل الصامت فقط. استمع إليها مندهشا ثم بدأ يرسم بملامح وجهه انفعالات شتي لا معني محدد لها فسحب بذلك بساط الفكاهة من تحت قدميها. سكت تماما مكتفيا برد الفعل الصامت. وبدأت الضحكات تتفجر في الصالة. واصلت سهير كلماتها الجادة العنيفة وواصل هو الصمت بمعني أدق واصل القيام بدوره كمصدر للضحك. هذا هو بالضبط ما فعله رنزي بن ميرو ومن معه في مواجهة عرضحالات الفلاح. كم هو مضحك أن تري إنسانا يتحدث إلي حائط أو بمعني أوضح يتحدث بأعظم الكلمات وأصدق الانفعالات إلي شخص يمثل دور الحائط. الضحك هنا ينبعث من المتفرج كوسيلة دفاعية لحماية جهازه النفسي من الدمار لسان حاله هنا يقول: الحمد لله .. أنا لست هذا الرجل المسكين الذي يصرخ في صحراء اللامبالاة ولكن علي أن أتنبه لما يقول لأنه يعبّر عن مأساتي أنا أيضا. الآن أعود بك إلي نص تلك البردية الرائعة مقدما لك العرضحال الثالث: " سيدي المحافظ.. مولاي. أنت رع إله السموات أنت ومجموعتك من كبار المسئولين. كل الناس تعتمد عليكم في معيشتها أنت فيضان النيل الذي يكسو الأرض بالخضرة ويجلب الخصب إلي الأرض البور. اقض علي قطّاع الطرق دافع عن الفقير لا تجعل من نفسك حاجزا في وجه الشاكين تأكد من إجراءات حمايتك لنفسك فالنهاية تقترب. إذا كنت تنشد السعادة فاسلك طبقا للمثل الذي يقول: إن فعل الحق أشبه بعملية التنفس للخياشيم. اضرب من يستحق الضرب عندئذ لن يتفوق عليك أحد في الحق. أليس من الممكن أن تكون ذراعا الكفتين في الميزان قد اختلتا؟ أليس من الممكن أن تكون الكفتان قد ابتعدتا عن خط الاتزان؟ أليس من الممكن أن تكون " تحوت" قد أشاحت بوجهها بعيدا عنك؟ هل ترغب في إطالة أمد الظلم؟ هل تريد أن تكون مثل هؤلاء الثلاثة؟ وإذا كان هؤلاء الثلاثة علي باطل فهل تريد أنت أن تكون أيضا علي باطل؟ لا تجزي الخير بالشر ولا تضع أحدهما مكان الآخر إن كلماتي تتصاعد بأكثر مما تتصاعد رائحة الياسمين بينما أنت لم تقدم لي إجابة حتي الآن. إنك إذا رويت النبات الصغير فسينمو ويتحول إلي دغل كثيف. لكن إذا سمحت له بالنمو أكثر من اللازم فسيتحول الأمر إلي كارثة. وإذا أنت وجهت الدفة بعكس مجري التيار فسيحملك ذلك بعيدا عن طريقك الصحيح. لابد أن تتأكد من أنك لا تسير في الطريق الذي يحدده اتجاه الدفة الخاطئ. لأن الاستقرار علي الأرض يتطلب أن تأخذ الاتجاه الصحيح. لا تكذب.. فأنت عظيم. لا تكن نزقا فأنت صاحب العقل الراجح. لا تقل الأكاذيب فأنت كفتا الميزان. لا ترتكب الأخطاء لأنك أنت الصح. انتبه إلي أنك مثل الميزان إذا كان الميزان مهتزا فهذا معناه إنك مهتز. لا تجنح إلي الشاطئ وأنت ممسك بحبل الدفة امسك الحبل بإحكام. عندما تهاجم لصا لا تسرق أنت لأن الرجل العظيم إذا كان جشعا لم يعد عظيما. لسانك سيكون كفتي الميزان قلبك سيكون الثقالة التي توجه المؤشر وشفتاك ستكونان أعمدة الميزان. إذا أشحت بوجهك بعيدا عن مرتكبي العنف من سيقضي علي هذه الأعمال التي تجلب العار؟ انتبه..أنت تشبه الغسال التعس بين الغسالين ذلك المخلوق الشره الذي يسبب الأذي لزملائه والذي يهمل في حق مخدومه من أجل صديقه عندما يأتي إليه ويكلفه بعمل ما. اسمعني.. أنت صاحب معدية يسمح بعبور النهر فقط لهؤلاء الذين يدفعون الأجر كاملا.. أنت تظهر الاستقامة بينما استقامتك ذاتها ليست مستقيمة.. أنت حداة بشرية تعيش علي صغار الطيور.. أنت طباخ يجد فرصته الوحيدة في الذبح الذبح الذي لا يتوقف. انتبه.. أنت راع لا يحمي قطيعه من الكارثة لماذا لا تحصي هذا القطيع وتحافظ عليه؟.. أنت تقاسي الكثير لما تفقده بسبب التمساح الملتهم.. آه أيها الأصم.. ألم تسمعني بعد؟ .. لماذا لم تتنبه لما أقوله لك الآن؟ لقد أبعدت اليوم التمساح الملتهم الذي كان يطارد القطيع.. متي ستفهم أن الحق قد اتضح وأن الباطل قد سقط صريعا علي الأرض.. لا تطمئني للغد قبل أن يأتي لأن البشر لا يعرفون ما يخبئه لهم الغد من حظ سيئ». نص مسرحي وهنا يفصح نص البردية عن هويته بكل وضوح ويقول: أنا نص مسرحي. وذلك عندما يتوقف البطل عن مواصلة عرضحاله ويتدخل كاتب البردية ليصف الحركة والفعل والمكان أو كما نقول نحن بلغة هذه الأيام الإرشادات المسرحية"Stage directions فنجده يقول حرفيا " هذا الفلاح قال هذه الكلمات للمحافظ رنزي ابن ميرو عند بوابة قاعة المحكمة. وهنا أمر المحافظ رنزي اثنين من أتباعه بالتعامل مع هذا الفلاح بالكرابيج فضرباه بكرابيج مصنوعة من مؤخرة وجلدا كل مكان في جسمه" فمضي الفلاح يقول: ابن ميرو يخدع نفسه عيناه لا تريان ما يراه الجميع وأذناه لا تسمعان .. ويسمع ويفهم كل ما يقال له علي نحو خاطئ.. اسمع.. أنت مدينة بلا حاكم وجماعة بلا مسئول وسفينة بلا ربان وفصيلة من الجنود بغير ضابط مسئول.. اسمع.. أنت قاض يسرق وأنت رئيس مدينة يحصل علي الهدايا وأنت محافظ مكلّف بالقضاء علي السرقة فأصبح مثالا يحتذي بين اللصوص. هنا نتوقف عن قرأة البردية ونقول: أنت تذكر بالطبع أن الملك طلب من المحافظ أن يمتنع عن حل مشكلة الفلاح وأن يتركه يتكلم بكامل حريته ومع ذلك نري أن المحافظ تدخل مرتين الأولي عندما قال للفلاح: هل تنفد بجلدك أم أطلب من خدمي أن يلقوا بك بعيدا؟ حدث ذلك في العرضحال الثاني ثم نراه بعد ذلك يكلف اثنين من أتباعه بجلده بالكرابيج بينما هو يقدم عرضحاله الثالث. لماذا لم يتقيد المحافظ بتنفيذ أوامر الملك؟ الواقع أن المحافظ يلعب دوره من الناحية السياسية بمهارة هو يتدخل بالقدر الذي يدفع بالفلاح إلي المزيد من الشكوي والإفصاح وليس إلي الحد الذي يدفعه إلي السكوت. هو نوع من الاستفزاز المحسوب الذي يمارسه عادة رجال الدولة. ولقد ناقشت هذه المسألة مع الأستاذ نجيب محفوظ رحمه الله فكان من رأيه أن المحافظ تصور في البداية أن الفلاح سيكون مصدرا للحكمة والبلاغة والنقد الخفيف فقط ولكنه فوجئ بهجومه يتعدي الحدود ففقد أعصابه وضربه. ربما يكون هذا التفسير أيضا صحيحا لكن ما يهمني من ناحية التكنيك الفني في هذا المشهد هو أن النص يضيف هنا دليلا جديدا علي هويته الحقيقية وهو أنه نص مسرحي. لو أنه قصة أو رواية كان مستحيلا علي الفلاح أن يتكلم بعد جلده من شخصين بكرابيج مصنوعة من جلد خرتيت في كل مكان علي جسمه. لو أن هذا الفعل في قصة أو رواية لكان من المحتم علي القصاص أن يقول" وأخذوا الفلاح بعد ذلك ليعالجوه من آثار الضرب" لم يحدث للفلاح إذن الأذي الواقعي الذي يحتمه الضرب، هو ضرب إذن لا يترتب عليه أذي حقيقي والضرب الذي لا يؤذي أحدا هو الضرب المسرحي فقط أي التظاهر بالضرب. والتظاهر بضرب الضحية وردود فعلها المبالغ فيه كما هو معروف في الفكاهة المصرية مصدر أصيل من مصادر الضحك في الكوميديا الشعبية. أنت تذكر في بداية البردية عندما سرق " الشحوتي" الفلاح وضربه تذكر أن الفلاح صرخ من الألم فقال له الشحوتي: اخرس.. ما تعرفش إنك هنا في وادي إله السكات؟ فرد عليه: نعم يا خويا.. طب اديني الحمير بتاعتي وخد السكات بتاعك. أما في العرضحال الثالث فقد سكت تماما وأبدي تماسكا وثباتا جديرين بالإعجاب وقال: ابن ميرو بيخدع نفسه.. مش شايف اللي إحنا شايفينه.. ولا سامع اللي احنا سامعينه.. وبيفهم كل حاجة بتتقال له غلط. الفلاح هنا يجلد المحافظ بنعومة وسخرية خفيفة قاتلة فنراه لأول مرة يغفل ذكر اسمه الأول فيقول مباشرة: ابن فلان.. وهي صيغة سخرية معروفة عند الفلاح المصري عندما يقول الواد ابن فلان أو ابن فلانة عمل كذا. صواعق بليغة هذه النغمة الناعمة الخافتة في الحوار، هذه السخرية الخفيفة التي تدل علي معاناة حقيقية وعلي صلابة روحية عالية هذا الصوت الخافت أشبه بالعزف الناعم لفصيلة الوتريات في الأوركسترا ثم فجأة تندفع الأوركسترا كله في عزف قوي جميل تشترك فيه كل الآلات بقوة وصلابة وعذوبة. هذا هو بالضبط ما فعله الفلاح وهو ينهي مونولوجه البديع. فبعد هذه السخرية الناعمة الهادئة حشد كل قوته ثم انقض فجأة علي المحافظ بصواعق مروعة من الجمل القصيرة البليغة. المهم هنا إنها صواعق تفجر الضحك أيضا لأن المتفرج سيراها عملية جلد عكسية الفلاح هنا يجلد المحافظ بكرابيج الكلمات بعد أن جلده الأخير بالكرابيج الحقيقية. كما أن عقل المتفرج سيستحضر بطريقة قد لا تكون واعية بداية المونولوج العرضحال هناك تناقض فاهي حاد بين البداية والنهاية إذ أنه من المضحك جدا أن تبدأ حديثك مع مسئول كبير بقولك: أنت رع.. إله السموات.. وأنت الفيضان الذي يكسو الأرض بالخضرة ثم تنهي حديثك بعدها بدقائق بقولك: أنت مدينة بلا حاكم.. وقاض حرامي.. إلخ. الواقع أن اللحظات الأخيرة في العرضحال الثالث تحتوي علي عناصر عديدة للفكاهة. وهي أشبه بالروافد الكثيرة التي تندفع مكونة مجري واحدا هادرا للضحك. إن حجم التناقضات الحادة أمام عينيك أكبر من أن تقاومها بغير الضحك.. هذا هو الفلاح المسروق النبيل البليغ المنافق القوي العاجز المضروب الضارب الحكيم المصر اليائس المداح الذمام الشتام.. المهذب. هنا ينشأ سؤال: أليست هذه العناصر نفسها كفيلة بإصابة المتفرج باكتئاب بالغ يخرجه من دائرة الضحك والفرجة الممتعين إلي دائرة الإحباط؟ الإجابة : كلا. سيظل المتفرج مستمتعا بكل ما يحدث أمامه لسبب بسيط هو أنه يعلم أن هذه الأفعال المؤلمة التي تحدث أمام عينيه ستنتهي علي خير. لأن الملك وهو أعلي درجات السلطة والمسئولية يعرف حقيقة المشكلة منذ البداية وسينتصر للفلاح المظلوم في النهاية. المتفرج علي يقين بالنهاية السعيدة. تماما كطما تشاهد فيلما لبطل محبوب يتعرض فيهل أخطار هائلة أنت تنفعل وتتوحد مع البطل وتشعر بالخوف عليه غير أنه خوف لا يؤثر في استمتاعك بالفرجة لأن جزءا من عقلك سيظل ينبهك إلي أن البطل سينجو. هذا هو الفن العظيم تندمج فيه حقا لكن لا خوف علي جهازك النفسي ففي اللحظة المناسبة إذا تحول الاندماج إلي خطر نفسي ستستمع إلي صوت خافت قادم من مكان ما في عقلك يقول لك: لا تتألم ألما حقيقيا لأن ما تراه ليس الحقيقة ولكنه إيهام بها بمعني أن هذا الشخص الذي يذبح أمامك لا يذبح حقا. والفن العظيم يجيد اللعب ببراعة في مساحة الاندماج هذه ويرسم حدودها بدقة. وهي مهمة غاية في الصعوبة فأنت تقول للمتفرج: صدق الصورة التي أرسمها لك لكي تستمتع بالفرجة ثم وبطريقة أشبه بالسحر إذا كان ما تقوله مؤلما عليك أن تحمي جهازه النفسي من الألم الحقيقي ذلك الألم الذي يخرجه عن الاندماج. هذا هو ما تفعله الكوميديا المصرية الراقية مجسدة في هذه العرض حالات مبدعة: سأعرض لك (الهم) بشرط ألا أجعلك مهموما ثم سأحمل عنك هذا (الهم) وأعطيك فرصة الفرجة عليه مقابل أن تعطيني الاهتمام بالقضية التي أعرضها عليك.