الشعب لم يسقط النظام فحسب ولكن أسقط معه نظرية البطل المخلص لصالح نظرية الشعب المخلص وينتصر لرؤية صمويل بيكيت الذي عري الجمع المنتظر لجودو الذي لم ولن يأتي . لم يكن هناك من بطل أو زعيم سار وراءه الناس ولكنها بطولة جماعية كتبتها وأخرجتها ونفذتها الجماهير . المشهد الأول نهار خارجي : أول جمعه بعد المعجزة العمل يجري علي قدم وساق لإعداد المنصات منذ الصباح الباكر استعدادا لجمعة النصر لا من أجل التزيين أو التجميل ولكن لاستقبال ضيوف بعينهم . الشيخ جاء من أقصي الأرض ليؤم الناس ، القيادي البارز في الجماعة المحظورة سابقا يصول ويجول علي المنصة في حماية الشباب من أشاوس الجماعة يمنعون كل من تسول له نفسه الاقتراب من المنصة، الولي الفقيه يخطب من عاصمته البعيدة محددا لنا هوية الثورة كابنة وليدة لثورته الأم ، قنوات فضائية من كل حدب وصوب ، بالاختصار الجميع جاء كما قال شاعر العامية أحمد فؤاد نجم حتي (يلغوص في البرام) ...وبالاختصار أيضا تبدلت الأدوار فصناع الحدث وأبطاله بدأوا في النزول من علي المسرح الي مقاعد المتفرجين وصعد أبطال جدد الي المسرح فلكل مرحله أبطالها . ثقوب الغربال للغربال نصيب وافرمن أمثالنا الشعبية فتارة له شدة مرحلية وهو جديد وتارة يتم تشبيه المطمئنة للرجال بالمطمئنة لاحتفاظه بالماء ، أما أصدق ما قيل في الغربال فهو أن عدم الرؤية من خلاله تعني انعدام البصر مجازا والمقصود هي البصيرة كان واضحا لكل ذي عينين (بصيرة) أن تيار الاسلام السياسي علي اختلاف أطيافه ومسمياته (فأيبك هو آقطاي وآقطاي هو أيبك) قادم وبقوة وبأيسر جهد فقطار الثورة سهل الركوب و في الزحام تتوه الروح الأصلية التي حكمت الميدان في ثمانية عشر يوما ويخبو المزاج العام الذي منع رفع شعار ديني واحد من 25 يناير الي 11 فبراير. وكانت أولي المؤشرات هي نتيجة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية التي كانت بروفة لقدرة الحشد والتأثير في الانتخابات البرلمانية ولكن لم يري الكثيرون تلك الحقيقة وفسروا نتيجة الاستفتاء علي أن غالبية من قالوا نعم قالوها للاستقرار لا تأثرا بدعاية قادة غزوة الصناديق ، بل وتوقع الكثيرون بهدوء الملهمين وثقة الباحثين أن تيار الاسلام السياسي لن يحصل في الانتخابات علي أكثر من 30 واذا بنتيجة الانتخابات تكاد تتطابق مع نتيجة الاستفتاء فنسبة من قالوا نعم استفتاء «تنوين علي الهمزة» هي نسبة المقاعد التي حصدها تيار الاسلام السياسي انتخابا «تنوين علي الألف» وكان هذا هو الدرس الأول في احترام ما يراه المرء من خلال الغربال . الخازوق بدأت المأساة بلجنة التعديلات الدستورية التي ترأسها الفقيه القانوني وضمت بين اعضائها المحامي المنتمي للجماعة المحظورة سابقا لتفرز اللجنة بندا أشبه بالخازوق الذي يصعب انتزاعه وهو البند الخاص بسلطة البرلمان في تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وبعد نتيجة الاستفتاء أصبح لهذا الخازوق شرعية واستند التيار الرافض لوضع الدستور قبل الانتخابات الي شرعية الخازوق . ولما جاءت وثيقة السلمي كمحاولة لنزع الخازوق كان من المفترض أن يستثمرها التيار المؤيد للدولة المدنية لتشكيل حائط صد في مواجهة تيار الاسلام السياسي و اذا بالأخير وبمنتهي المهارة يغلف رفضه لوثيقة السلمي بغلاف أخلاقي وطني مصدرا المادتين التاسعة والعاشرة كسبب للرفض ومواريا السبب الحقيقي وهو انتزاع سلطة تشكيل لجنة الدستور من أيدي البرلمان المتوقع حصوله فيه علي الأغلبية وهنا لعبت أغلب القوي السياسية لصالح هذا التيار وحاربت له معركته بضراوة وبسالة في رفض وثيقة السلمي ، وحتي بعد أن أبدي المجلس الأعلي للقوات المسلحه تراجعا عن المادتين التاسعة والعاشرة واستعدادا للتفاوض حولهما لم تستثمر القوي الليبراليه الفرصه ولم تضغط في اتجاه التعامل مع الوثيقة تفاوضا وتعديلا منعا لفرض دستور بواسطة أغلبية تيار بعينه ، ولكنه الرفض التام أو الموت الزؤام. أما بعد خلاصة التجربة الي الآن تشير الي أن فصيل الاسلام السياسي يعمل وفق منهج وبرنامج عمل ، وأن قدرته علي المناورة وسرعة الحركه لا تقل بأي حال عن قدرته التنظيمية ومن المتوقع استمرار تفوقه الانتخابي لفترة ليست بالقليلة اذ أن الموجة العامة للشعب مضبوطة الي حد كبير علي ما يبثه هذا التيار من اشارات ومن اللافت أن في لحظات الخطر والتناحر التي مرت بها البلد كان هذا التيار يمثل الي حد بعيد صوت العقل والمنطق -بغض النظر عن الدافع- ومثل البعض من من يواجهون للأسف في بعض الأحيان شكلا من اشكال المراهقة السياسية. لذلك فإن التيارات الوسطية والليبرالية والثوريه تحتاج إعادة تنظيم للصفوف وتوحيد للجهود وتحديد الأهداف وبرامج العمل للوصول الي تلك الأهداف حتي لا يأتي علي تلك التيارات وقتا يجدون فيه أنفسهم يلقون أحلي الأشعار وينشدون أروع الأغنيات الحماسيه في المنتديات الثقافيه بينما أصحاب التيار الآخر يحكمون السيطره علي مؤسسات الدوله ويكسبون أرضا كل يوم وقد لا تتبقي يومها حتي المنتديات الثقافيه الا وفق ضوابط سلفيه .