الأطفال يحتلون مقاما مميزا في عالم ستفن سبيلبرج السينمائي.. تأكد منذ نجاح فيلمه الأول عنهم «E.T» الذي يصور تعاطف الأطفال وفهمهم لمخلوق من الفضاء «رمته الأقدار بينهم».. بينما عجز الكبار عن التواصل معه. هذا الفيلم كان مؤشرا لأفلام أخري لعب «الطفل» بطولتها كفيلم مملكة الشمس المدهش الذي لم يأخذ الحق الذي يستحقه من الاهتمام وأخيرا ايقونة أدب الأطفال في أوروبا «تافنان» الذي ادخل هذا المخرج المتنوع المواهب في عالم الأطفال المليء، بالعجائب والقادر علي سحر كل من يدخله.. أو يحاول فهم ألغازه. هوس عذب وها هو فيلمه الأخير «حصان الحرب» المرشح لأكثر من جائزة أوسكار هذا العام بامتياز ليؤكد هذا الهوس العذب لدي صاحب «قائمة شنزلر» وسواها الأفلام السياسية والاجتماعية والبوليسية التي قدمها سبيلبرج ليتحفنا بها كل عام.. مؤكدا مكانته كواحد من كبار صناع السينما في الولاياتالمتحدة. الحصان.. يستخدم عموما كرمز جنسي في كثير من الأفلام، فهو رمز للذكورة المتسلطة المدهشة والمثيرة للخيال، كما في فيلم «أنفاس في عين ذهبية» الذي اخرجه جون هوشون عن قصة لكارسن ماك كيلرز.. أو رمز لهوس جنسي مسعور كما في الفيلم المغربي الجديد «الحصان».. أو حتي كوازع ضميري، أو كعين شاهدة علي حدث مخيف كما في فيلم Cquus المأخوذ عن مسرحية شجرة إلي جانب أفلام أخري بسيطة في معناها، تصور علاقة مراهقين صغار بجواد وما يترتب عليها من نتائج إنسانية حلوة، الأمثلة كثيرة، بل وأكثر من أن تحصي، ولكن هذه المرة جاءت معالجة سبيلبرج من وجهة نظر فيها الكثير من الرومانسية ومنها بعض السياسة والكثير من النظرات الإنسانية العميقة التي تجعل فيلمه يخرج عن نطاق الأفلام الموحية للنشء الصغير، ويسمو بطموحه إلي أكثر من ذلك بكثير، وهذا ما جعله مرشحا لكثير من جوائز الأوسكار لهذا العام. علاقة خاصة سبيلبرج ينطلق من فكرة صغيرة حلوة.. يطورها بطريقة درامية مسبوكة جيدا.. ليصل منها آخر الأمر إلي الهدف الذي رسمه لنفسه منذ البداية وهو أن يطلق صرخة مدوية ضد الحرب، وأن يركز علي الأواصر التي تربط بين البشر، حتي لو انتموا إلي معسكرين متعاديين حصان الحرب.. هي علاقة فتي بحصان، شهد ولادته منذ البداية، وعاش معه سنواته الأولي. ووقف تجاه «رأسمالية» شرسة تحاول السطو عليه من خلال تصوير أحوال مزرعة انجليزية في أوائل القرن، كل هذا الجزء الأول من الفيلم يضعنا في مناخ مناسب ونفسي لنقبل الأحداث المثيرة التي ستلي ذلك والتي ستنفجر عند اندلاع الحرب العالمية الأولي. المهرة السوداء في هذا الجزء يقدم سبيلبرج الفيلم علي مستويين.. مستوي البطل المراهق الصغير وأحلامه وعلاقته بهذا الجواد الذي اختاره صديقا ومشاركا وحليفا.. ومستوي الحصان نفسه الذي يتعامل معه الفيلم والسيناريو وكأنه بطل حقيقي لا يقل أهمية عن الأبطال البشر الذين يدورون حوله. علاقة الحصان بأمه.. وابتعاده عنها عند بيعه.. تمرده علي النظام المفروض عليه.. ثم علاقة الحب التي ستنشأ بينه وبين المهرة السوداء التي سيتعرف عليها خلال المعارك.. ثم محاولته للتمرد والهروب من القبور العسكرية «في واحدة من أجمل واعمق وأرق مشاهد الفيلم» ثم سقوطه جريحا بين الأسلاك الشائكة المكهربة، ومحاولة انقاذه من أحد الجنود الانجليز، يساعده في ذلك جندي ألماني، توافق معه علي إقامة هدنة خاصة بينهما لانقاذ الجواد من براثن الأسلاك، مدهش عميق في تأثير رسالته رغم ميلودراميته الظاهرية، والتي عرف المخرج الماهر كيف يتغلب عليها بقوة إحساسه السينمائي وبفضل تصوير مدهش وموسيقي خلابة، اعطت هذا المشهد الساذج ميلودراميا بعدا إنسانيا مؤثرا. المهم أننا نقارن.. عند نشوب الحرب العالمية الأولي، المراهق الصغير، لنتابع مسيرة الجواد والمغامرات «البيكارسكية» التي يمر بها.. علاقته الأولي مع المعارك.. ومع جو الحرب الذي لم يعتد هذا النظام القاسي والمعاملة الباردة وانعدام الحنان ومع ذلك لا يخلو الأمر من ضابط.. يحنو عليه ويساعده.. ثم خوضه المعركة الأولي معركة السيوف والجياد والتي تقدمها سبيلبرج باتقان سينمائي أخاذ.. يذكرنا بإرادته الأسطورية لمشاهدة المعارك في أفلام سابقة له لا تنسي. ثم علاقة الحصان بجنديين أخين أو صديقين فيهربان به وبحبيبته المهرة السوداء من أتون المعركة في مشاهد تلعب فيها الطبيعة دورا أساسيا.. وكاميرا المخرج الماهرة التي يقودها مصور بولندي فائق الموهبة.. واللجوء إلي الاختفاء في طاحونة هولندية، ولكن سرعان ما يتم القبض عليهما بطريقة قاسية وتحت وقع أمطار تبدو لنا كسياج من لهب. ألبوم صور والحقيقة أن سبيلبرج.. يستغل كل هذه المشاهد التي تتتابع أمامنا.. وكأنها «البوم» متحرك يصور وقائع حرب لا إنسانية يسيل فيها الدم هباء.. وتختفي الشمس الذهبية وراء غيوم ثقيلة معبأة بالحقد والكراهية. وأخيرًا.. تصل إلي مرحلة حاسمة في حياة الجواد عندما تعثر عليه مراهقة صغيرة مختبئًا في طاحونتها الهولندية.. فتمد له حبال الحنان والود ولكنها تدفع ثمن ذلك غاليا إذ ما إن تخرج به من مخبئه لينطلق كعادته مع الريح متنفسا هواء حريته.. حتي يقبض عليها ويخوض الجواد مرة أخري غمار الحرب القاسية منهكًا جريحا مذلولا يفكر بحرية لا ينالها.. وحرب يخوضها دون أن يدري لها سببا. لذلك ينفجر صبره أخيرا وينطلق محطما قيوده مجتازا نفوذ وكبرياء حقول الألغام أمام دهشة الجنود في كل من المعسكرين المتقاتلين.. إلا أنه يسقط جريحا بين الأسلاك الشائكة ليقرر أحد الجنود إنقاذه مهما كان الثمن.. يساعده علي ذلك كما قلنا جندي من الأعداء.. استطاع أن يري هو أيضا في هذا الجواد الجريح الباحث عن الحرية.. المتمرد علي كل الأنظمة والقوانين صورة عن نفسه المتمردة الجريحة التي تجرحها هي أيضا أسلاك لا مرئية. ليس مجرد فيلم «حصان الحرب» ليس فيلما كعادة الأفلام التي تطلقها هوليوود عن علاقة فرد من البشر بنوع من الحيوان مؤكدة معني إنسانيا ضيقا بعض الشيء.. و لكنه فيلم عن الحرب وعن أهوالها وعبثيتها وجنونها مقدمة من خلال عين حصان.. أعطيت بعدا دراميا لا محدودا ووضعت في إطار مغامرات «بيكارسكية» متعددة تتواصل مع بعضها بقوة لتصل منها آخر الأمر إلي هدف واحد هو إدانة الحرب بكل أنواعها وأشكالها وظروفها والوقوف إلي جانب الإنسان بقوة، بل بالإضافة إلي ذلك «أنسنة» الحيوان نفسه واعتباره طرفا من الأطراف الجريحة التي تدفع ثمن أهوال الحرب. هناك مشهد لا ينسي عبر عنه المخرج من خلال نظرات الحصان.. بعد أن تم إنقاذه من الأسلاك الشائكة وامتلأ جسده بالجروح فقرر الأطباء إعدامه برصاصة الرحمة هذه النظرة التي يلقيها الجواد علي مجتمع البشر. والتي استطاع المخرج أن يحملها كل الاتهام الذي يحمله في القلب والحرب أحالت البشر إلي نوع من الحيوانات التي لا تعرف الرحمة، والحيوانات إلي نوع من البشر يتحرك ضميره، وتقف كل أعضاء جسمه محاولة الاعتراض علي عبثية لا يعترف بها. قد تكون الحكاية «التوثيقية» التي أرادها الفيلم آخر الأمر بأن يجمع المراهق الذي دخل الحرب ولقائه بجواده الذي أنقذ من الموت في آخر لحظة ثم بيع مرة أخري بالمزاد.. لصاحب الطاحونة الذي أراد أن يحيي ذكري حفيدته التي استشهدت بعد أن عرف مدي تعلقها به.. ثم تخليه عن الحصان لصاحبه الأصلي. قد تكون هذه النهاية المرسومة بتعجل ستصل بنا إلي نهاية مريحة بعد مشاهدة القتل والحرب العنيفة، والتي استخدم فيها المخرج كل أدواته الفنية وكل تأثيره، بالطبع جاءت هذه النهاية محبطة إلي حد ما للبناء الدرامي المدهش الذي استغرقته مشاهد المعارك.. ودور الحصان فيها.. وعلاقته بالبشر المتحاربين. ولكن هذا لا يمنع الإساءة بالمستوي النفسي الكبير الذي توصل إليه المخرج الأمريكي الشهير وتعبيره عن حسه الإنساني وموقفه ضد الحروب واستغلاله المدهش لكل العناصر الفنية التي تحيط به من تصوير وموسيقي ومونتاج والتي وصلت إلي حد كبير من التأثير والإثارة. «حصان الحرب» يدخل معركة الأوسكار بقوة رغم الارتباك في بنائه الدرامي أحيانا ولكنه أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، حيث تتضافر النصوص بعضها لإعطاء «كلاَّ» مدهشا حتي لو كانت هناك قصص أقل إثارة من قصص أخري. لقد جمع سبيلبرج شخصيات عدة ومواقف عدة ومعارك عدة وأثار بشيء حول محور واحد هو محور «الحصان» أطلقه بقوة من سهول إنجلترا الشمالية وطاف به أرض المعارك في فرنسا وهولندا ورسم حوله نماذج لشخصيات متعارضة ومتناقضة، ولكنها دارت كلها في فلك واحد، فلك إدانة القسوة والهمجية وإسالة الدم وجعل من الحصان «عينا» شاهدت التهمة «وقالت» ببلاغة الكثير مما يعجز البشر أحيانا عن قوله.. و«فعلت» ما كنا جميعا نحلم بأن نفعله حتي لو امتلأت أجسادنا بالجراح.. من أسلاك شائكة وضعها مجتمعنا في طريقنا وجعلنا نحن أيضا نواجه الموت من خلال نظرة ولحظة ولا عتب عليه بعد ذلك.. أنه رسم لنا بعد هذا الاتهام الكبير أملا مرتجعا بنهاية سعيدة قد نصدقها أم لا.