تدعي الولاياتالمتحدة أنها تنشر الديمقراطية بسياستها عبر العالم فما مدي تحقق هذا الإدعاء؟ - الهدف الأساسي- ويكاد يكون الوحيد - للسياسة الأمريكية هو فرض الجزية علي العالم خاصة عالم الجنوب عن طريق السيطرة العسكرية عليه لاعتصار ثروات هذه البلاد وتحقيق أرباح هائلة نتيجة العلاقات الاقتصادية والسياسية غير المتكافئة لتعوض التدفقات المالية الداخلية التي يقومها البنك المركزي الأمريكي في شكل طبع أوراق بنكنوت لا يقابلها زيادة إنتاج حقيقي وباعتبار الدولار العملة الدولية الرئيسية في المعاملات الدولية فإنها تسدد فواتيرها بأوراق نقد "مضروبة" اقتصادياً لكنها تتيح لها الوفاء بالتزاماتها في نفس الوقت. ويعاني المجتمع الأمريكي حاليا من العجز الرهيب في ميزان مدفوعاته لتغطية نفقات استهلاكه المغالي فيه بقدرات إنتاجية لا تناسب هذا الإنفاق. وعلي هذا يخضع الجنوب بمجمله لما تفرضه الإمبريالية الأمريكية المتوحشة من تفكيك أي قدرة علي المقاومة الاقتصادية ، ويتضمن ذلك تخريب البني التحتية الصناعية والعلمية والاجتماعية عن طريق القهر السياسي والاقتصادي أو الحرب إذا لزم الأمر. وكذا تفكيك المقاومة السياسية والعسكرية بإقامة أنظمة تابعة أو مساندة القائم منها وتقويته في مواجهة خصومه الوطنيين ، وبذلك تلغي أية إمكانية لقيام الديمقراطية القادرة علي بعث أنظمة قادرة علي المواجهة الوطنية الشعبية. ومثال العراق مثال معاصر لما ندعي حيث لم يكن هدف واشنطن إلا نهب موارد البلاد البترولية وضمان أمن وسيادة إسرائيل. ولتحقيق ذلك تم تفكيك جميع القدرات الصناعية والعلمية المتطورة نسبياً فيه مما كان يجعله مرشحاً لأن يكون عاملا فاعلا في تشكيل النظام الإقليمي المرتقب. بل لقد بدأ العداء لصدام حسين في اليوم الذي فكر فيه بيع البترول باليورو بدلا من الدولار. رغم أن صدام قدم مهرا غاليا لصداقة الولاياتالمتحدة يوم أعلن الحرب علي إيران صبيحة ثورتها الوطنية الديمقراطية حيث أظهرت العداء لأمريكا من أول يوم. وتلقي الأسلحة من أمريكا والمال من السعودية حليفها القديم في المنطقة إلا أن ذلك لم يغفر له محاولة إرساء اقتصاد متنوع وجيش قوي يخل بقواعد التوازن الإمبريالي المرسوم للمنطقة بقيادة إسرائيل فأطاحت به رغم كل ما قدم ، وتحول صدم إلي "شيطان" جديد كان لابد من القضاء عليه اكتفاء بالشيطان الإيراني ممثلا في الثورة الإيرانية الخومينية والتي كانت صديقة لأمريكا أيام الشاه الذي كان يقوم بدور "شرطي الخليج" لرعاية مصالحها بالوكالة. - قبل تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بالانتصار الأمريكي دون قتال ، كانت الاستراتيجية الأمريكية كقائدة للحلف الإمبريالي العالمي تمارس اهتمامها بالمخزون الهائل للنفط في منطقة الخليج الذي يعتبر القوة المحركة للآلة الصناعية الرأسمالية ، وخوفا من تهديد سوفيتي محتمل للمنطقة ، كانت تطبق ما يسمي "مبدأ كارتر" بإنشاء قوة الانتشار السريع التي سميت بعد ذلك ب "قيادة القوات المركزية" للوصول قبل "العدو السوفيتي" إلي المنطقة الساخنة بهذه القوات المحدودة ، إذ أن وجودها ذاته يمنع القوة الأخري من التدخل خوفا من المواجهة الذرية المحتملة ، وذلك حتي تصل القوات الرئيسية إلي ساحة القتال. نقول بعد انهيار الاتحاد السوفيتي انتقلت الاستراتيجية الأمريكية إلي التواجد الثقيل المباشر في منطقة الأزمات بدلا من التمركز عن بعد. وهي تنفذ هذه الاستراتيجية برضاء أصحاب الأرض التابعين مثل السعودية والبحرين وقطر أو بفرضه فرضا كما حدث في العراق وما يحدث في أفغانستان ، هذا بالإضافة إلي المناورات العسكرية المشتركة مع باقي الأصدقاء التابعين ممن يدعون بدول الاعتدال" العربي لإعدادهم لأي أدوار محتملة ليس من بينها بالطبع قتال إسرائيل. دور طفيلي - استراتيجية التواجد العسكري الأمريكي الثقيل في العالم وفي منطقتنا العربية تتطلب أدوات اقتصادية تعززها ، فقامت الاستراتيجية الاقتصادية علي لعب دور "الطفيلي" علي مستوي العالم ككل. يتضح هذا في التجارة والاستثمار والنقد من أجل تحقيق "ريع" طفيلي. فتركز علي التخصص في التكنولوجيا المتقدمة وبيعها في المقام الأول بأسعار احتكارية لذلك توجه بالغ عنايتها وتشددها في موضوع حماية حقوق الملكية الفكرية خاصة في البرامج الحاسوبية والأدوية بينما تستورد أغلب المنتجات الاستهلاكية المصنعة أساسا في الصين. أما في الاستثمار فهي تستقطب استثمارات كبيرة من الخارج رغم عظم استثماراتها الخارجية. وتنقسم استثماراتها الداخلة إلي استثمارات مباشرة من خلال شراء الأجانب حصص الشركات الأمريكية وإلي استثمارات غير مباشرة من خلال شراء الحكومات الأجنبية للسندات وأذون الخزانة الأمريكية والتي تعتبر ديونا علي الحكومة الأمريكية. وحيث تستهلك أمريكا أكثر مما تسمح به مواردها فإن الفرق تموله بإصدار البنكنوت الدولاري. فهي إذن تعيش علي "ريع" السيطرة الاقتصادية والنقدية والعسكرية علي العالم باستخدام آلية "رجل الشرطة العالمي" ومن خلال استخدامها حلف الأطلنطي عند اللزوم ولمنح أوربا الغربية قطعة من كعكة الاستغلال العالمي. - يتم الترويج لتنفيذ هذه الاستراتيجيات الكونية بإطلاق خطاب دعائي ومقولات سياسية اقتصادية ثقافية وأخلاقية للسيطرة علي عقول ونمط تفكير حكومات وشعوب عالم الجنوب المستهدف ، من قبيل "النظام العالمي الجديد" وتصويره علي أنه الخيار الوحيد المفتوح أمام دول العالم شمالها وجنوبها لفتح آفاق التقدم والرفاهية (هكذا) لشعوبها ومثل "نهاية الأيديولوجيا والنظريات الشمولية" (يقصدون الماركسية تحديدا) وآليات السوق" و"التكيف الهيكلي" و"الشراكة" و"الانفتاح" و"ثقافة السلام" (يقصدون إنهاء العداء لإسرائيل والاستسلام لاغتصابها فلسطين والسيطرة علي مصير المنطقة العربية) وإحلال "ثقافة الثقة" محل "ثقافة الريبة" (بما يعني أن يثق المظلومون في عدل ظالميهم) وتقديس الملكية الخاصة ومن ثم تحريم تدخل الدولة في السوق لضبط توزيع الثروة والناتج المحلي بين الطبقات وترك الأمر لعقلانية السوق غير العاقل.وما إلي ذلك من مقولات ليبرالية ثبت فسادها تاريخيا حتي في أعتي الرأسماليات ، لكن يعاد بثها و"تشغيلها" لتمكين الكومبرادور الحاكم لأغلب دول الجنوب من الحكم المحقق لمصالح الاحتكارات الإمبريالية الكبري وعلي رأسها الاحتكارات الأمريكية. همش هذا التوجه من الناحية الفعلية دور الشعوب والبرلمانات في صنع القرار ، وأصبح البرلمان الحقيقي الذي يحكم العالم هو البرلمان الذي تنعكس فيه إرادة المقرضين والدائنين ، ولم يعد الاحتلال العسكري المباشر فقط هو وسيلة الرد الأمريكي علي اختيارات الشعوب. القوة الناعمة أما الاستراتيجية الأمريكية الداخلية للحكم المتوافقة مع الاستراتيجيات الكونية فهي تقيم حكما يمكن وصفه ب"الدولة البوليسية" أو "القهر الناعم" حيث ترصد الأجهزة كل الحركات والسكنات للشعب الأمريكي ثم الأجانب وبصفة خاصة مواطني دول الجنوب وفي القلب منها مواطني الدول العربية والإسلامية تحت ستار "مكافحة الإرهاب" التي هي في حقيقة الأمر مكافحة مقاومة الهيمنة الأمريكية علي العالم وفي القلب منه بلادنا العربية ومكافحة العدوان الإسرائيلي الدائم علينا. هذا من جانب ، وتعتمد بعد ذلك علي شعب لا تهتم بالمكان الذي جاء منه بينما تهتم بما يمكنه أن يقدمه ، شعب جاد يعمل ليلا ونهارا خاصة طبقته المتوسطة التي هي عماد المجتمع الأمريكي المنشغل بالتكنولوجيا والمال والسلاح. ولا وقت لديه للعبث أو التهاون. تسوده روح تقديس المال التي تصب لصالح تراكم النقود والأرباح والتي تؤول في النهاية إلي محتكري الثروة والسلطة الذين يديرون العالم من أجل تراكم الأرباح التي في سبيلها تتم الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية علي العالم خاصة عالم الجنوب الذي لم ينجح في أغلب حالاته في كسر هذا الطوق الجهنمي للإمبريالية العالمية بالقيادة الأمريكية المتصهينة.