مدير تعليم الفيوم يُعلن نتيجة مسابقة 100معلم مُتمكن مُبدع 2 على مستوى المحافظة    البيت الفني للمسرح ينعى الفنان لطفي لبيب    "مدبولي": مصر تكبدت خسائر كثيرة منذ بدء الأزمة في قطاع غزة    الكونغ فو يحصد 12 ميدالية ويتوج بالكأس العام بدورة الألعاب الأفريقية للمدارس    بنتايج يعود للتدريبات الجماعية مع الزمالك    المتهم بارتكاب أفعال فاضحه لجارته بالبساتين ينفي الواقعة    تأجيل دعوى عفاف شعيب ضد المخرج محمد سامي بتهمة السب والقذف    "التعليم" تنفي شائعة تغيير إجابات البابل شيت: تصحيح الثانوية العامة إلكتروني صارم    ضربتها لتقويمها..إنتحار طفلة بالفيوم بالحبة السوداء.. والأم تتهم الجدة بتعذيبها    "أنا الذي".. طرح ثالث أغاني الكينج محمد منير مع "روتانا" على "يوتيوب" (فيديو)    في شهرين فقط.. تامر حسني يجني 99 مليون مشاهدة بكليب "ملكة جمال الكون"    إلغاء ندوتي تكريم محيي إسماعيل وأشرف عبد الباقي بالمهرجان القومي المسرح    "الصحة" تنفي زيادة مساهمة المريض في تكلفة الأدوية بالتأمين الصحي    مستوطنون يقاطعون كلمة سموتريتش ويطالبون بإقالته    وزير الخارجية: مفاوضات غزة جارية.. وبعض المسائل تتطلب جدية وإرادة سياسية من إسرائيل    مقتل 3 جنود جراء إصابة صاروخ روسي موقع تدريب للجيش الأوكراني    محافظ المنيا يتابع نوادي تحسين القراءة والكتابة ويدعم مبادرات التعليم الآمن    اجتماع موسع بشركة الصرف الصحي بالإسكندرية استعدادا لموسم الأمطار    مصر تفتح أبوابها للاستثمار الخليجي: تفاوض نشط وحوافز غير مسبوقة لتعزيز الشراكة الاقتصادية    عاجل.. تشكيل النصر الرسمي لمواجهة تولوز وديا    ناجلسمان: تير شتيجن سيظل الحارس الأول للمنتخب الألماني    وزارة الثقافة تعلن تسجيل مصر مبنى متحف الخزف الإسلامي في سجل التراث المعماري والعمراني العربي    مصر تواجه تونس في ختام الاستعدادات لبطولة العالم لكرة اليد تحت 19 عامًا    رئيس جامعة المنيا يحفّز الأطقم الطبية قبيل زيارة لجان اعتماد مستشفيي الكبد والرمد الجامعيين    ركود السوق يهبط بأسعار الأجهزة الكهربائية 35%.. والشعبة: لا تشترِ إلا عند الحاجة    أهمية دور الشباب بالعمل التطوعي في ندوة بالعريش    برواتب تصل ل50 ألف جنيه.. فرص عمل في البوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية    توقعات الأبراج في شهر أغسطس 2025.. على برج الثور الاهتمام بالعائلة وللسرطان التعبير عن المشاعر    محافظ المنوفية تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس الشيوخ 2025 ب 469 لجنه انتخابية    ترامب: الهند ستدفع تعريفة جمركية بنسبة 25% اعتبارًا من أول أغسطس    التحقيق مع صانعة محتوى شهرت بفنانة واتهمتها بالإتجار بالبشر    سباحة - الجوادي يحقق ذهبية سباق 800 متر حرة ببطولة العالم    حركة فتح: إعلان نيويورك إنجاز دبلوماسى كبير وانتصار للحق الفلسطينى    زياد الرحباني... الابن السري لسيد درويش    أحمد درويش: الفوز بجائزة النيل هو تتويج لجهود 60 عاما من العمل والعطاء    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بمجلس الشيوخ    تغطية الطرح العام ل "الوطنية للطباعة" 8.92 مرة في ثالث أيام الاكتتاب    جامعة بنها الأهلية تختتم المدرسة الصيفية لجامعة نانجينج للطب الصيني    مصنعو الشوكولاتة الأمريكيون في "ورطة" بسبب رسوم ترامب الجمركية    ختام موسم توريد القمح في محافظة البحيرة بزيادة 29.5% عن العام الماضي    "زراعة الشيوخ": تعديل قانون التعاونيات الزراعية يساعد المزارعين على مواجهة التحديات    ضبط 30 كجم مخدرات وتنفيذ 609 أحكام في دمياط وأسوان    النيابة العامة: الإتجار بالبشر جريمة تتعارض مع المبادئ الإنسانية والقيم الدينية    الرعاية الصحية تعلن تقديم أكثر من 2000 زيارة منزلية ناجحة    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة    ما حكم كشف وجه الميت لتقبيله وتوديعه.. وهل يصح ذلك بعد التكفين؟.. الإفتاء تجيب    أبو مسلم: جراديشار "مش نافع" ولن يعوض رحيل وسام ابو علي.. وديانج يمتلك عرضين    علي جمعة يكشف عن حقيقة إيمانية مهمة وكيف نحولها إلى منهج حياة    هل التفاوت بين المساجد في وقت ما بين الأذان والإقامة فيه مخالفة شرعية؟.. أمين الفتوى يجيب    ما معنى (ورابطوا) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟.. عالم أزهري يوضح    ملك المغرب يؤكد استعداد بلاده لحوار صريح وأخوي مع الجزائر حول القضايا العالقة بين البلدين    ترامب يكشف عن تأثير صور مجاعة قطاع غزة على ميلانيا    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    رسميًا.. جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 بعد تصريحات وزارة المالية (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المومياء»..يتيم بين أفضل مائة فيلم عالمي
نشر في القاهرة يوم 13 - 12 - 2011

«يقول شادي: بدأت أرسم منذ طفولتي، رغم أنه ليس هناك فنان واحد في عائلتي. والحق أن أحداً لم يشجعني علي مزاولة هوايتي أو يمنعني عنها. ومن يطلع علي كتبي المدرسية آنئذ يري عجبا. فكل الأماكن الخالية من الصفحات كنت أزينها برسوم غريبة. جينات الفن وما أغفله شادي في كلماته السابقة هو علاقته الوثيقة بالمنيا بلد أسرته وتكرار زياراته، بشكل مكثف، لها وللصعيد وآثار قدماء المصريين، مما يجعل "جينات الفن" معجونة من الأصل في تكوينته الوراثية، بحيث لا يتطلب الأمر إلا أهون حث، حتي تتجلي "الموروثات". كان والد شادي يعمل بالمحاماة، وألحقه حين وصل سن المدرسة، بمدرسة أغنياء الإسكندرية "كلية فيكتوريا". وحاول شادي مبكرا أن يقرأ ولكن مكتبة والده كانت قاصرة علي كتب التاريخ والقانون الصعبة. وحين بلغ الثالثة عشرة لم يكن هناك مفر من القراءة، إذ رقد عامين كاملين في الفراش، لأن طول قامته المتزايد راح يعرض قلبه للخطر. يقول شادي: "بعد هذين العامين صارت حركتي أبطأ، وأصبحت انعزالياً إلي حد ما، عاطفياً جداً، وبليداً جداً في الدراسة". تخرج شادي في "كلية فيكتوريا"عام 1948، وهو يخطو في التاسعة عشرة، فسافر إلي باريس ولندن وروما لأول مرة. يقول: "كنت أريد أن أدرس المسرح ولكني لم أتمكن من ذلك، فعدت للالتحاق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة". وعلي العكس من فترة الدراسة في "كلية فيكتوريا"، حيث كان لا يقرأ ولا يهتم بالمعرفة، راح يقرأ بنهم حتي تخرج عام 1955 . وأتاحت الدراسة بقسم العمارة في كلية الفنون لشادي أن يكون تلميذا للمعماري الكبير حسن فتحي، فعرف الفنون الإسلامية من خلاله علي نحو جيد. عام 1956 جند شادي في الجيش. وكان هذا أول لقاء جاد يتعرف من خلاله وبالممارسة، وليس بمجرد القراءة، علي الناس بجميع فئاتهم وثقافاتهم الحقيقية. وحسب تعبيره: "أنت تتجمع مع زملائك في التجنيد بكل نوعياتهم في مكان واحد، وترتدون جميعاً "عفريتة" واحدة، وسواء أردت أو لم ترد فلابد أن تتفاهم مع الجميع وتعرفهم، وبعد قليل تجد نفسك قد تعودت عليهم وأصبحت واحداً منهم. وفي هذه التجربة المهمة جداً تعودت علي النظام وعلي ممارسة العمل الجسماني الشاق، وأخذت إجازة إجبارية من القراءة والكتابة والرسم، ليتجه عقلي اتجاهاً آخر تماماً. لقد أعطاني عام الجيش الفرصة لكي أفكر طويلا فيما يمكن أن أصنعه بعد ذلك. صلاح أبوسيف المهم أن شادي خرج من الجيش ليقدم علي خطوة عجيبة. طرق باب بيت المخرج الكبير صلاح أبو سيف دون سابق معرفة. قال له إنه جاره، يسكن نفس الشارع في الزمالك. ولما رحب صلاح به، عرفه بنفسه كمعماري تخرج بتقدير امتياز من كلية الفنون الجميلة، وأعرب عن رغبته العمل في السينما. قال له صلاح لا داعي للثرثرة حول هذا الموضوع، تجنبا للعراقيل، واصطحبه إلي الاستوديو كمساعد شخصي له، وظيفته أن يتفرج أثناء إخراج فيلم "الفتوة" (57/58)، وكل ما كان عليه، غير الفرجة، هو أن يدون الوقت الذي كانت تستغرقه كل لقطة! ثم استعان أبو سيف به كمساعد مخرج في أفلام "الوسادة الخالية" و"الطريق المسدود" و"أنا حرة". وعمل شادي بعد ذلك مساعدا مع حلمي حليم في "حكاية حب". أثناء الفيلم تغيب مهندس الديكور، كان شادي قد عمل مساعدا للمهندس رمسيس واصف عام 1957، فتشجع وقام بعمل ديكور أغنية عبد الحليم حافظ "حبك نار" ، ثم أكمل ديكور "حكاية حب" كله. مع توجهات شادي المعمارية والتشكيلية جاء الديكور طازجا، في صورة لم تعتدها سينما تلك الأيام. لفت الأنظار، مما دفع المنتجين للتعاقد معه علي تصميم وتنفيذ ديكورات مجموعة من الأفلام. لأن الممثل هو الواجهة النهائية التي تطالع الجمهور، ولأنه هو الذي "يقش" كل الشهرة في النهاية، يوجد ميل لا يقاوم لدي معظم ممارسي المهن الفنية للتحول إلي التمثيل. حاول المخرج حلمي حليم إغراء شادي بأن يكون واحدا من أبطال "غراميات امرأة" أمام سعاد حسني. لكن نداهة أخري كانت تشد شادي. كان قد تتلمذ علي يد ولي الدين سامح، أشهر من صمم الديكور السينمائي في بدايات السينما المصرية، عندما أوكلت آسيا لسامح تصميم ديكورات وملابس فيلم "الناصر صلاح الدين"، فاختار الأستاذ أن يساعده شادي عبد السلام. وأيام "واإسلاماه" (1961) سافر ولي الدين سامح إلي الخارج، فانفرد شادي بعمل ديكور الفيلم. انطلاقة كليوباترا عندما بدأ داريل زانوك إنتاج فيلمه التاريخي الشهير "كليوباترا" بطولة ريتشارد بيرتون وإليزابيث تيلور، قرر أن يصور بعض أحداثه في مواقعها التاريخية، وصنع شادي مع ولي الدين سامح السفينة التي خاضت معارك الفيلم. بعد "كليوباترا" ارتفعت سمعة شادي إلي عنان السماء، فصنع ديكورات أفلام شفيقة القبطية، الخطايا، ألمظ وعبده الحامولي، رابعة العدوية، أميرة العرب، أمير الدهاء، بين القصرين، السمان والخريف. أغلبها أفلام تدور أحداثها في ديكورات تاريخية والسبب كان نجاحه في "واإسلاماه" وعمله في "كليوباترا". رغم أن "واإسلاماه" (1960) هو الفيلم الذي فتح أبواب السينما علي مصراعيها أمامه فالغريب أن مشكلته مع الديكور، بل والسينما بدأت معه! كان رمسيس نجيب قد أنفق علي الفيلم بسخاء، حتي أنه كان أكبر إنتاج مصري في حينه، لكن مخرج الفيلم أندرو مارتن كان أمريكيا. عند إخراج فيلم تاريخي لا بد من المعرفة الدقيقة للتاريخ والعادات واللهجات. الممثلون كانوا يتكلمون العربية التي لا يفهمها المخرج، ولا يستطيع أن يتذوقها، وبالتالي لم يكن بمقدوره توجيههم، وهكذا رأي شادي أن المحاولة لم تنجح، وبدأ يقيم الديكور الذي عمله منفردا في هذا الإطار. ورويدا اكتشف أنه يضيع وقته في العمل بصناعة الديكور. يرسم ويعمل حوائط ونوافذ و...، ترهقه أيما إرهاق، ثم لا تستخدم علي النحو الذي توقعه. راحت المشكلة تؤرقه. شرنقة كافليروفيتش حين عمل شادي مستشارا تاريخيا لمشاهد وملابس الفيلم البولندي "فرعون" فوجئ بطريقة الإنتاج البولندية. إن عمله في فيلم "كليوباترا" كان أشبه بالعمل في مصنع تجميع، لم يكن له علاقة بمسرح العمل الفني. أدي وظيفته المحددة من بعيد لبعيد، أما العمل في "فرعون" فكان أقرب شبها بالعمل في مدرسة. في المدرسة البولندية شجع كافليروفيتش شادي حتي علي الوقوف وراء الكاميرا، بل وتركه يخرج إحدي لقطات "فرعون"! مع أريحية كافليروفيتش راحت الملابسات تتري. تشابكت خيوط متعددة، أخذت تنسج شرنقتها حول شادي. فن العمارة أساس كل الفنون ولي الدين سامح عمل في نهاية المطاف بالإخراج. لقد عمل هو نفسه مساعد مخرج مع صلاح أبو سيف وحلمي حليم و.. حان الوقت لا ليكون قيما علي التعبير عن رأيه فقط، بل وعلي توصيله للناس أيضا. إن إيزنشتين أكبر منظر للسينما في العالم بدأ سيرته مهندسا معماريا. العمارة مرآة حقيقية لحياة الإنسان بينما هو في بولندا (1963)، غارقا لشوشته في ديكورات الفراعنة وأزيائهم وإكسسواراتهم، راح الحنين يشده إلي مصر وصعيدها. إنه لم ينقطع عن الذهاب إلي بيته في المنيا طوال حياته. رغم ولادته في الإسكندرية الكوسموبوليتانية، وربما بسبب ذلك، أحب المنيا. أحب فيها كل شيء. المنازل. الملابس. طريقة الكلام. التقاليد والعادات. الصفات الأخلاقية. بات لون أهل الصعيد هو اللون الذي يريح عينيه. إنه صعيدي قح رغم ولادته في الإسكندرية. إن الصعيد هو مصر الحقيقية. مصر الفرعونية. قصة المومياوات في ليلة شتاء بولندية باردة جداً حمله التداعي إلي التفكير في المنيا والصعيد والفراعنة وقصة المومياوات. كان قد قرأ قصة اكتشافها في الدير البحري لأول مرة عام 1956، منشورة كمحضر بوليس في عدة كتب أجنبية. فقد اكتشفت مقبرة فيها عدة مومياوات، سرقت كلها، ثم أعيدت لتعرض في المتحف المصري، بعد أن تم التعرف علي شخصياتها، بدا الأمر وكأنها عادت للخلود ثانية، فمادام الاسم قد عرف وبقي، فنحن أمام العودة للحياة والخلود. يا من تذهب سوف تعود يا من تنام سوف تصحو يا من تمضي سوف تبعث. وهو يرتعد من البرد وسط الثلوج كان يفكر أين مناخ بولندا الثلجي من مناخ مصر ودفء صعيد مصر. بدأت رحلة المومياء تحفر في وجدانه. وفي عام 1965 ظهرت البذرة الأولي للفيلم. معالجة قصصية منظومة كالشعر من 40 سطرا كتبها علي لسان الغريب. بعدها بدأ يكتب السيناريو. كان هناك إحساس قوي يدفعه للكتابة بغض النظر عن تنفيذ الفيلم أو عدم تنفيذه. في البداية جاء السيناريو واقعياً تقليدياً تحت مسمي "دفنوا مرة ثانية" ثم عدله وعدل اسمه إلي "ونيس" (بطل الفيلم). لكنه لم يكن متعجلاً. راح يجرب، ويحاول الوصول حثيثا إلي الشكل الذي يراه ملائما تماماً للتعبير عن نفسه. في عام 1966 لاحت فرصة للعمل مع روبرتو روسيلليني، مصمما لديكور وملابس فقرة عن الحضارة المصرية في مسلسل "الصراع من أجل البقاء". كان الرجل يمتاز ببساطة التفكير السينمائي مع العمق في الوقت نفسه. لهذا ترك في نفس شادي بصمة لم يتركها أحد غيره من الناحية الفكرية. كانت الرغبة في الإخراج السينمائي تداعب شادي منذ زمن طويل، تأكدت الرغبة وراحت تلح عليه. وجد نفسه غير قادر علي عمل أي شيء غير الانهماك في التفكير بعالم فيلم "ليلة حساب السنين". جاءته بعض العروض لتصميم وتنفيذ ديكورات أفلام بأجور خيالية، لكنه وجد أنه سيكذب علي الآخرين ويكذب علي نفسه لو قبل. كان شادي يتردد بشكل دائم علي أصدقائه آدم حنين وجمال كامل في مجلة "صباح الخير". نشر علاء الديب تحقيقا عن "امرأة في جنوب مصر قتلت ابنها لأنه باع أرض والده، وألقت بجثته في بئر وجلست بجوار البئر ككتلة من السواد لا تتحرك، حتي عندما رفعها رجال الشرطة جلست الجلسة نفسها أثناء التحقيقات" لفت التحقيق نظر شادي وجذبته لغته. كان قد شاهد مسرحية «لعبة النهاية» لبيكت التي ترجمها الديب، ولفتته محاولة المترجم تطويع اللغة العربية الفصحي لأي مضمون، حتي السخرية والعبث. كان قد انتهي من كتابة سيناريو"المومياء وجهد في البحث عن كاتب للحوار، ووجد ضالته في علاء الديب فاتفقا علي التعاون في الوصول إلي لغة وسيطة مفهومة للجميع، وفي الوقت نفسه أن يكون فيها جمال ملائم لجمال الصورة التي يشكلها شادي في فيلمه. انتهت كتابة سيناريو "ليلة حساب السنين" فبدأت رحلة البحث عن طريقة لتنفيذه. ولكونه يعمل مع روسيلليني في مسلسل "الحضارة" عرض السيناريو عليه (1967). الفراشة تغادر الشرنقة بادر روسيلليني ثروت عكاشة أول أن التقاه: لديكم في مصر نابغ سينمائي كبير لا تستفيدون منه، فسأله ثروت عمن يقصد، وعندما كرر له اسم شادي عبد السلام قال ثروت إنه لم يسمع بمخرج سينمائي بهذا الاسم: "أنا لا أعرفه". تعجب روسيلليني: كيف تعرفه قبل أن يعمل فيلماً؟ دعوه يعمل وحينئذ ستعرفونه جيداً. إن لديه سيناريو رائع. كيف تغفلون هذا السيناريو ولا تنفذونه في الحال؟ استدعي ثروت عكاشة شادي يستوضح الأمر، وسمع منه حكاية "ليلة حساب السنين" (المومياء)، ثم قرأ السيناريو فأعجب به وأمر بشرائه فوراً، ودخل السيناريو مشاريع مؤسسة السينما. انفتحت الشرنقة وطار شادي.. كان قد أخرج عددا من الأفلام القصيرة أهمها "شكاوي الفلاح الفصيح" الذي يعد صرخة من أجل العدالة تثبت أنها قيمة تليدة قائمة دوماً. إن البردية التي تضمنت هذه القصة عمرها أربعة آلاف سنة. لكن المسألة في الفيلم ليست مجرد تاريخ أو إحياء بردية لها قيمة خاصة، رغم ضخامة هذه القيمة في ذاتها. إنه صرخة احتماء بالعدالة. وهي صرخة قائمة ولازمة في كل العهود. يقول شادي: ما حركني هو قيمة البردية نفسها. بردية عمرها أربعة آلاف سنة ومكتوبة بمنطق يمكن القول بأنه منطق حديث. نص أدبي رائع وواضح جداً. وهي أول قصة وجدت في التاريخ. طبعاً كان هناك (حواديت) وأساطير قبلها، لكنها كانت كلها تابعة للديانات القديمة. هذه القصة لا علاقة لها بذلك. مشكلة اجتماعية لمزارع بسيط يتجه بسلعته إلي السوق فيسرقه اللصوص. يطلب أن تأخذ العدالة مجراها. لكنه يجد السلطة صامتة فيهاجمها. يصرخ ويطالبها أن تكون علي مستوي المسئولية، موضحاً مواصفات الحاكم العادل، وهكذا حتي يسترد حقه. كان "شكاوي الفلاح الفصيح" تجسيداً سينمائياً رائعاً وفريداً من نوعه.. لوحة شاعرية بانورامية لفلاح مظلوم يبث شكاواه البالغة الفصاحة مطالبا بالعدل ورفع الظلم ومحملا الحاكم في شجاعة نادرة مسئولية إقرار العدل جدّ في إبداعها مع شادي طاقم فني حاذق. وهكذا في مارس 1968 بدأ
عبدالعزيز فهمي تصوير المومياء مع سمير عوف وصلاح مرعي وأنسي أبو سيف و...، تحت قيادة شادي بالطبع. بقيت إشارة إلي قصة فيلم "ليلة حساب السنين". يتحدث "ليلة حساب السنين" أو "المومياء" عن بعثة أثرية قامت بحفريات في وادي الملوك بطيبة عام 1881، وعن السكان الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلي بيع بعض الآثار في السوق السوداء ليتمكنوا من العيش. ومع تقديمه لقصة تتسم أحداثها بالعلاقات المتشابكة بين سارقي القبور الأجانب والمصريين يقوم الفيلم علي تحدي وجهات النظر الأوروبية التي سعت إلي نهب الآثار المصرية مدعية أنها تنقذها من أجل المحافظة علي التقدم العلمي. والفيلم يدين الأشخاص والمعاهد التي قامت بمساندة الحفريات. إن فيلم "المومياء" يرصد من أوله إلي آخره استيقاظ ضمير "ونيس" ولفظه لممارسات قبيلته من لصوص المقابر، والتضحية بمصدر رزق أهله مقابل إنقاذ الآثار والمومياوات المهددة. ومن يقرأ بين السطور يدرك بطبيعة الحال أن الفيلم في الظاهر عن "ونيس" وعشيرته ونابشي الآثار. ولكنه في الواقع عن مصر كلها التي كان شادي يتمني لها أن تحذو حذو "ونيس"، وتتجاوز مسألة التناول التجاري للحضارة، والتعامل معها كمجرد آثار، مما يعكس حسا وطنيا وانتماء قويا لمصر بحاضرها وماضيها. يقول شادي: "إنني حاولت في الواقع أن أعبر عن قضية عامة جداً لكنها تأخذ الطابع المصري، أي البيئة والحياة والتاريخ، الذي أعرفه وأحس به أكثر من غيره". إن الاهتمام المركزي لهذا الفيلم هو استكشاف الهوية الثقافية المصرية وهي هوية مركبة تنطلق من الفرعونية وتمتد حتي واقعنا الإسلامي ولغتنا العربية. الحضارة المصرية القديمة تجربة إنسانية وفكرية عميقة تستحق أن تدرس وتستلهم لتكون مصدرا للنهضة ولتقدم حضاري عظيم. هل لنا من بعض أقوال شادي البليغة الدلالة في نهاية المطاف: - إن العمل عندي هو الحياة. - أنا بطبيعتي بطيء أو متأمل في استيعاب الأشياء، لا أبدأ بسرعة، وانفعالي يستغرق وقتاً حتي يظهر. - إنني لا أعمل السينما علي أنها شيء استهلاكي. ولكني أعملها كوثيقة تاريخية للأجيال القادمة.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.