العائلة المصرية في برلين: مشاركة إيجابية للجالية المصرية في انتخابات «النواب»    "إسماعيل" يستقبل فريق الدعم الفني لمشروع تطوير نظم الاختبارات العملية والشفهية بالجامعة    محافظ كفر الشيخ يتفقد أعمال تطوير محور 30 يونيو    وزير الإسكان يعقد اجتماعاً لمتابعة موقف مشروعات مبادرة "حياة كريمة"    خبير: صناعة التعهيد خلقت فرص عمل كبيرة للشباب وجذبت استثمارات أجنبية لمصر    وزير المالية: إجراءات استثنائية لخفض الدين مع الحفاظ على الانضباط المالي    بعد حادث رئيس الأركان.. رئيس المباحث الجنائية الليبي يزور مكتب المدعي العام في أنقرة    إسرائيل تتحدى العالم: لن ننسحب أبدًا وسنحمى مستوطناتنا    باجو المدير الفني لمنتخب الكاميرون : لن أحفز اللاعبين قبل مواجهة كوت ديفوار    الكرملين: موسكو قدمت عرضا لفرنسا بخصوص مواطن فرنسي مسجون في روسيا    انطلاق مباراة الزمالك وسموحة بكأس عاصمة مصر    تأييد حبس عبد الخالق فاروق 5 سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة    إصابة 6 أشخاص إثر مشاجرة بالشوم والعصي بقنا    جمارك السلوم تحبط محاولة لتهريب كمية من البذور الزراعية الموقوف تصديرها    مصطفى شوقي يطرح «اللي ما يتسمّوا» من كلماته وألحانه | فيديو    ختام مبهج ل «الأقصر للتحطيب»    خبير تشريعات: جولة الإعادة أكدت صعود المستقلين وبروز ملامح البرلمان الجديد    قائمة الإعفاءات الجديدة لدخول قاعات المتحف المصري الكبير    استشاري: الربط بين التغذية والبروتوكول العلاجي يسرّع الشفاء بنسبة 60%    برلمانية: الاستحقاق البرلماني الأخير يعكس تطورًا في إدارة العملية الانتخابية    محافظ الدقهلية يتفقد سوق الخواجات في المنصورة ويقرر غلق جميع المحال المخالفة لاشتراطات السلامة المهنية    فيديو B-2 وتداعياته على التحرك الإسرائيلي المحتمل ضد إيران ( تحليل )    تراجع معظم أسواق الخليج وسط ‍تداولات محدودة بسبب العُطلات    نائب محافظ الجيزة يتفقد المراحل النهائية لتشغيل محطة رفع الصرف الصحى بدهشور    عاجل- المركز الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي بيع مصانع الغزل والنسيج ويؤكد استمرار المشروع القومي للتطوير دون المساس بالملكية    الجزائرى محمد بن خماسة آخر عقبات الإسماعيلى لفتح القيد في يناير    اتحاد الكرة يحذر من انتهاك حقوقه التجارية ويهدد باتخاذ إجراءات قانونية    وزير الخارجية: التزام مصر الراسخ بحماية حقوقها والحفاظ على استقرار الدول المجاورة    محافظة قنا تواصل تطوير طريق قنا–الأقصر الزراعي بإنارة حديثة وتهذيب الأشجار    كوروكوتشو: مصر واليابان تبنيان جسرًا علميًا لإحياء مركب خوفو| حوار    صندوق التنمية الحضرية يعد قائمة ب 170 فرصة استثمارية في المحافظات    إزالة مقبرة أحمد شوقي.. ماذا كُتب على شاهد قبر أمير الشعراء؟    طلاق لميس الحديدي وعمرو أديب رسميًا بعد أكثر من 25 عام زواج    هل للصيام في رجب فضل عن غيره؟.. الأزهر يُجيب    الجيش السوداني يصدّ محاولة اختراق للدعم السريع قرب الحدود مع مصر وقصف جوي يحسم المعركة    محافظ الدقهلية: تقديم أكثر من 13 مليون خدمة صحية خلال 4 أشهر    بشير التابعي يشيد بدور إمام عاشور: عنصر حاسم في تشكيلة المنتخب    البابا تواضروس يهنئ بطريرك الكاثوليك بمناسبة عيد الميلاد    ادِّعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها.. الأزهر للفتوي يوضح    الوطنية للانتخابات: إبطال اللجنة 71 في بلبيس و26 و36 بالمنصورة و68 بميت غمر    جامعة بدر تستضيف النسخة 52 من المؤتمر الدولي لرابطة العلماء المصريين بأمريكا وكندا    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي    كرة طائرة - بمشاركة 4 فرق.. الكشف عن جدول نهائي دوري المرتبط للسيدات    مصادرة 1000 لتر سولار مجهول المصدر و18 محضرا بحملة تموينية بالشرقية    سيول وثلوج بدءاً من الغد.. منخفض جوى فى طريقه إلى لبنان    حسام حسن: ⁠طريقة لعب جنوب أفريقيا مثل الأندية.. وجاهزون لها ولا نخشى أحد    الصحة تعلن اختتام البرنامج التدريبي لترصد العدوى المكتسبة    من هو الفلسطيني الذي تولي رئاسة هندوراس؟    فحص نحو مليون من ملفات جيفرى إبستين يثير أزمة بالعدل الأمريكية.. تفاصيل    عبد الحميد معالي ينضم لاتحاد طنجة بعد الرحيل عن الزمالك    نائب وزير الصحة تتفقد منشآت صحية بمحافظة الدقهلية    لليوم الثاني.. سفارة مصر بإيران تواصل فتح لجان التصويت بجولة الإعادة للدوائر ال19 الملغاة    أمن القليوبية يكشف تفاصيل تداول فيديو لسيدة باعتداء 3 شباب على نجلها ببنها    وزيرا «التضامن» و«العمل» يقرران مضاعفة المساعدات لأسر حادثتي الفيوم ووادي النطرون    حكم تعويض مريض بعد خطأ طبيب الأسنان في خلع ضرسين.. أمين الفتوى يجيب    هل يجب الاستنجاء قبل كل وضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    أحمد سامي يقترب من قيادة «مودرن سبورت» خلفًا لمجدي عبد العاطي    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المومياء»..يتيم بين أفضل مائة فيلم عالمي
نشر في القاهرة يوم 13 - 12 - 2011

«يقول شادي: بدأت أرسم منذ طفولتي، رغم أنه ليس هناك فنان واحد في عائلتي. والحق أن أحداً لم يشجعني علي مزاولة هوايتي أو يمنعني عنها. ومن يطلع علي كتبي المدرسية آنئذ يري عجبا. فكل الأماكن الخالية من الصفحات كنت أزينها برسوم غريبة. جينات الفن وما أغفله شادي في كلماته السابقة هو علاقته الوثيقة بالمنيا بلد أسرته وتكرار زياراته، بشكل مكثف، لها وللصعيد وآثار قدماء المصريين، مما يجعل "جينات الفن" معجونة من الأصل في تكوينته الوراثية، بحيث لا يتطلب الأمر إلا أهون حث، حتي تتجلي "الموروثات". كان والد شادي يعمل بالمحاماة، وألحقه حين وصل سن المدرسة، بمدرسة أغنياء الإسكندرية "كلية فيكتوريا". وحاول شادي مبكرا أن يقرأ ولكن مكتبة والده كانت قاصرة علي كتب التاريخ والقانون الصعبة. وحين بلغ الثالثة عشرة لم يكن هناك مفر من القراءة، إذ رقد عامين كاملين في الفراش، لأن طول قامته المتزايد راح يعرض قلبه للخطر. يقول شادي: "بعد هذين العامين صارت حركتي أبطأ، وأصبحت انعزالياً إلي حد ما، عاطفياً جداً، وبليداً جداً في الدراسة". تخرج شادي في "كلية فيكتوريا"عام 1948، وهو يخطو في التاسعة عشرة، فسافر إلي باريس ولندن وروما لأول مرة. يقول: "كنت أريد أن أدرس المسرح ولكني لم أتمكن من ذلك، فعدت للالتحاق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة". وعلي العكس من فترة الدراسة في "كلية فيكتوريا"، حيث كان لا يقرأ ولا يهتم بالمعرفة، راح يقرأ بنهم حتي تخرج عام 1955 . وأتاحت الدراسة بقسم العمارة في كلية الفنون لشادي أن يكون تلميذا للمعماري الكبير حسن فتحي، فعرف الفنون الإسلامية من خلاله علي نحو جيد. عام 1956 جند شادي في الجيش. وكان هذا أول لقاء جاد يتعرف من خلاله وبالممارسة، وليس بمجرد القراءة، علي الناس بجميع فئاتهم وثقافاتهم الحقيقية. وحسب تعبيره: "أنت تتجمع مع زملائك في التجنيد بكل نوعياتهم في مكان واحد، وترتدون جميعاً "عفريتة" واحدة، وسواء أردت أو لم ترد فلابد أن تتفاهم مع الجميع وتعرفهم، وبعد قليل تجد نفسك قد تعودت عليهم وأصبحت واحداً منهم. وفي هذه التجربة المهمة جداً تعودت علي النظام وعلي ممارسة العمل الجسماني الشاق، وأخذت إجازة إجبارية من القراءة والكتابة والرسم، ليتجه عقلي اتجاهاً آخر تماماً. لقد أعطاني عام الجيش الفرصة لكي أفكر طويلا فيما يمكن أن أصنعه بعد ذلك. صلاح أبوسيف المهم أن شادي خرج من الجيش ليقدم علي خطوة عجيبة. طرق باب بيت المخرج الكبير صلاح أبو سيف دون سابق معرفة. قال له إنه جاره، يسكن نفس الشارع في الزمالك. ولما رحب صلاح به، عرفه بنفسه كمعماري تخرج بتقدير امتياز من كلية الفنون الجميلة، وأعرب عن رغبته العمل في السينما. قال له صلاح لا داعي للثرثرة حول هذا الموضوع، تجنبا للعراقيل، واصطحبه إلي الاستوديو كمساعد شخصي له، وظيفته أن يتفرج أثناء إخراج فيلم "الفتوة" (57/58)، وكل ما كان عليه، غير الفرجة، هو أن يدون الوقت الذي كانت تستغرقه كل لقطة! ثم استعان أبو سيف به كمساعد مخرج في أفلام "الوسادة الخالية" و"الطريق المسدود" و"أنا حرة". وعمل شادي بعد ذلك مساعدا مع حلمي حليم في "حكاية حب". أثناء الفيلم تغيب مهندس الديكور، كان شادي قد عمل مساعدا للمهندس رمسيس واصف عام 1957، فتشجع وقام بعمل ديكور أغنية عبد الحليم حافظ "حبك نار" ، ثم أكمل ديكور "حكاية حب" كله. مع توجهات شادي المعمارية والتشكيلية جاء الديكور طازجا، في صورة لم تعتدها سينما تلك الأيام. لفت الأنظار، مما دفع المنتجين للتعاقد معه علي تصميم وتنفيذ ديكورات مجموعة من الأفلام. لأن الممثل هو الواجهة النهائية التي تطالع الجمهور، ولأنه هو الذي "يقش" كل الشهرة في النهاية، يوجد ميل لا يقاوم لدي معظم ممارسي المهن الفنية للتحول إلي التمثيل. حاول المخرج حلمي حليم إغراء شادي بأن يكون واحدا من أبطال "غراميات امرأة" أمام سعاد حسني. لكن نداهة أخري كانت تشد شادي. كان قد تتلمذ علي يد ولي الدين سامح، أشهر من صمم الديكور السينمائي في بدايات السينما المصرية، عندما أوكلت آسيا لسامح تصميم ديكورات وملابس فيلم "الناصر صلاح الدين"، فاختار الأستاذ أن يساعده شادي عبد السلام. وأيام "واإسلاماه" (1961) سافر ولي الدين سامح إلي الخارج، فانفرد شادي بعمل ديكور الفيلم. انطلاقة كليوباترا عندما بدأ داريل زانوك إنتاج فيلمه التاريخي الشهير "كليوباترا" بطولة ريتشارد بيرتون وإليزابيث تيلور، قرر أن يصور بعض أحداثه في مواقعها التاريخية، وصنع شادي مع ولي الدين سامح السفينة التي خاضت معارك الفيلم. بعد "كليوباترا" ارتفعت سمعة شادي إلي عنان السماء، فصنع ديكورات أفلام شفيقة القبطية، الخطايا، ألمظ وعبده الحامولي، رابعة العدوية، أميرة العرب، أمير الدهاء، بين القصرين، السمان والخريف. أغلبها أفلام تدور أحداثها في ديكورات تاريخية والسبب كان نجاحه في "واإسلاماه" وعمله في "كليوباترا". رغم أن "واإسلاماه" (1960) هو الفيلم الذي فتح أبواب السينما علي مصراعيها أمامه فالغريب أن مشكلته مع الديكور، بل والسينما بدأت معه! كان رمسيس نجيب قد أنفق علي الفيلم بسخاء، حتي أنه كان أكبر إنتاج مصري في حينه، لكن مخرج الفيلم أندرو مارتن كان أمريكيا. عند إخراج فيلم تاريخي لا بد من المعرفة الدقيقة للتاريخ والعادات واللهجات. الممثلون كانوا يتكلمون العربية التي لا يفهمها المخرج، ولا يستطيع أن يتذوقها، وبالتالي لم يكن بمقدوره توجيههم، وهكذا رأي شادي أن المحاولة لم تنجح، وبدأ يقيم الديكور الذي عمله منفردا في هذا الإطار. ورويدا اكتشف أنه يضيع وقته في العمل بصناعة الديكور. يرسم ويعمل حوائط ونوافذ و...، ترهقه أيما إرهاق، ثم لا تستخدم علي النحو الذي توقعه. راحت المشكلة تؤرقه. شرنقة كافليروفيتش حين عمل شادي مستشارا تاريخيا لمشاهد وملابس الفيلم البولندي "فرعون" فوجئ بطريقة الإنتاج البولندية. إن عمله في فيلم "كليوباترا" كان أشبه بالعمل في مصنع تجميع، لم يكن له علاقة بمسرح العمل الفني. أدي وظيفته المحددة من بعيد لبعيد، أما العمل في "فرعون" فكان أقرب شبها بالعمل في مدرسة. في المدرسة البولندية شجع كافليروفيتش شادي حتي علي الوقوف وراء الكاميرا، بل وتركه يخرج إحدي لقطات "فرعون"! مع أريحية كافليروفيتش راحت الملابسات تتري. تشابكت خيوط متعددة، أخذت تنسج شرنقتها حول شادي. فن العمارة أساس كل الفنون ولي الدين سامح عمل في نهاية المطاف بالإخراج. لقد عمل هو نفسه مساعد مخرج مع صلاح أبو سيف وحلمي حليم و.. حان الوقت لا ليكون قيما علي التعبير عن رأيه فقط، بل وعلي توصيله للناس أيضا. إن إيزنشتين أكبر منظر للسينما في العالم بدأ سيرته مهندسا معماريا. العمارة مرآة حقيقية لحياة الإنسان بينما هو في بولندا (1963)، غارقا لشوشته في ديكورات الفراعنة وأزيائهم وإكسسواراتهم، راح الحنين يشده إلي مصر وصعيدها. إنه لم ينقطع عن الذهاب إلي بيته في المنيا طوال حياته. رغم ولادته في الإسكندرية الكوسموبوليتانية، وربما بسبب ذلك، أحب المنيا. أحب فيها كل شيء. المنازل. الملابس. طريقة الكلام. التقاليد والعادات. الصفات الأخلاقية. بات لون أهل الصعيد هو اللون الذي يريح عينيه. إنه صعيدي قح رغم ولادته في الإسكندرية. إن الصعيد هو مصر الحقيقية. مصر الفرعونية. قصة المومياوات في ليلة شتاء بولندية باردة جداً حمله التداعي إلي التفكير في المنيا والصعيد والفراعنة وقصة المومياوات. كان قد قرأ قصة اكتشافها في الدير البحري لأول مرة عام 1956، منشورة كمحضر بوليس في عدة كتب أجنبية. فقد اكتشفت مقبرة فيها عدة مومياوات، سرقت كلها، ثم أعيدت لتعرض في المتحف المصري، بعد أن تم التعرف علي شخصياتها، بدا الأمر وكأنها عادت للخلود ثانية، فمادام الاسم قد عرف وبقي، فنحن أمام العودة للحياة والخلود. يا من تذهب سوف تعود يا من تنام سوف تصحو يا من تمضي سوف تبعث. وهو يرتعد من البرد وسط الثلوج كان يفكر أين مناخ بولندا الثلجي من مناخ مصر ودفء صعيد مصر. بدأت رحلة المومياء تحفر في وجدانه. وفي عام 1965 ظهرت البذرة الأولي للفيلم. معالجة قصصية منظومة كالشعر من 40 سطرا كتبها علي لسان الغريب. بعدها بدأ يكتب السيناريو. كان هناك إحساس قوي يدفعه للكتابة بغض النظر عن تنفيذ الفيلم أو عدم تنفيذه. في البداية جاء السيناريو واقعياً تقليدياً تحت مسمي "دفنوا مرة ثانية" ثم عدله وعدل اسمه إلي "ونيس" (بطل الفيلم). لكنه لم يكن متعجلاً. راح يجرب، ويحاول الوصول حثيثا إلي الشكل الذي يراه ملائما تماماً للتعبير عن نفسه. في عام 1966 لاحت فرصة للعمل مع روبرتو روسيلليني، مصمما لديكور وملابس فقرة عن الحضارة المصرية في مسلسل "الصراع من أجل البقاء". كان الرجل يمتاز ببساطة التفكير السينمائي مع العمق في الوقت نفسه. لهذا ترك في نفس شادي بصمة لم يتركها أحد غيره من الناحية الفكرية. كانت الرغبة في الإخراج السينمائي تداعب شادي منذ زمن طويل، تأكدت الرغبة وراحت تلح عليه. وجد نفسه غير قادر علي عمل أي شيء غير الانهماك في التفكير بعالم فيلم "ليلة حساب السنين". جاءته بعض العروض لتصميم وتنفيذ ديكورات أفلام بأجور خيالية، لكنه وجد أنه سيكذب علي الآخرين ويكذب علي نفسه لو قبل. كان شادي يتردد بشكل دائم علي أصدقائه آدم حنين وجمال كامل في مجلة "صباح الخير". نشر علاء الديب تحقيقا عن "امرأة في جنوب مصر قتلت ابنها لأنه باع أرض والده، وألقت بجثته في بئر وجلست بجوار البئر ككتلة من السواد لا تتحرك، حتي عندما رفعها رجال الشرطة جلست الجلسة نفسها أثناء التحقيقات" لفت التحقيق نظر شادي وجذبته لغته. كان قد شاهد مسرحية «لعبة النهاية» لبيكت التي ترجمها الديب، ولفتته محاولة المترجم تطويع اللغة العربية الفصحي لأي مضمون، حتي السخرية والعبث. كان قد انتهي من كتابة سيناريو"المومياء وجهد في البحث عن كاتب للحوار، ووجد ضالته في علاء الديب فاتفقا علي التعاون في الوصول إلي لغة وسيطة مفهومة للجميع، وفي الوقت نفسه أن يكون فيها جمال ملائم لجمال الصورة التي يشكلها شادي في فيلمه. انتهت كتابة سيناريو "ليلة حساب السنين" فبدأت رحلة البحث عن طريقة لتنفيذه. ولكونه يعمل مع روسيلليني في مسلسل "الحضارة" عرض السيناريو عليه (1967). الفراشة تغادر الشرنقة بادر روسيلليني ثروت عكاشة أول أن التقاه: لديكم في مصر نابغ سينمائي كبير لا تستفيدون منه، فسأله ثروت عمن يقصد، وعندما كرر له اسم شادي عبد السلام قال ثروت إنه لم يسمع بمخرج سينمائي بهذا الاسم: "أنا لا أعرفه". تعجب روسيلليني: كيف تعرفه قبل أن يعمل فيلماً؟ دعوه يعمل وحينئذ ستعرفونه جيداً. إن لديه سيناريو رائع. كيف تغفلون هذا السيناريو ولا تنفذونه في الحال؟ استدعي ثروت عكاشة شادي يستوضح الأمر، وسمع منه حكاية "ليلة حساب السنين" (المومياء)، ثم قرأ السيناريو فأعجب به وأمر بشرائه فوراً، ودخل السيناريو مشاريع مؤسسة السينما. انفتحت الشرنقة وطار شادي.. كان قد أخرج عددا من الأفلام القصيرة أهمها "شكاوي الفلاح الفصيح" الذي يعد صرخة من أجل العدالة تثبت أنها قيمة تليدة قائمة دوماً. إن البردية التي تضمنت هذه القصة عمرها أربعة آلاف سنة. لكن المسألة في الفيلم ليست مجرد تاريخ أو إحياء بردية لها قيمة خاصة، رغم ضخامة هذه القيمة في ذاتها. إنه صرخة احتماء بالعدالة. وهي صرخة قائمة ولازمة في كل العهود. يقول شادي: ما حركني هو قيمة البردية نفسها. بردية عمرها أربعة آلاف سنة ومكتوبة بمنطق يمكن القول بأنه منطق حديث. نص أدبي رائع وواضح جداً. وهي أول قصة وجدت في التاريخ. طبعاً كان هناك (حواديت) وأساطير قبلها، لكنها كانت كلها تابعة للديانات القديمة. هذه القصة لا علاقة لها بذلك. مشكلة اجتماعية لمزارع بسيط يتجه بسلعته إلي السوق فيسرقه اللصوص. يطلب أن تأخذ العدالة مجراها. لكنه يجد السلطة صامتة فيهاجمها. يصرخ ويطالبها أن تكون علي مستوي المسئولية، موضحاً مواصفات الحاكم العادل، وهكذا حتي يسترد حقه. كان "شكاوي الفلاح الفصيح" تجسيداً سينمائياً رائعاً وفريداً من نوعه.. لوحة شاعرية بانورامية لفلاح مظلوم يبث شكاواه البالغة الفصاحة مطالبا بالعدل ورفع الظلم ومحملا الحاكم في شجاعة نادرة مسئولية إقرار العدل جدّ في إبداعها مع شادي طاقم فني حاذق. وهكذا في مارس 1968 بدأ
عبدالعزيز فهمي تصوير المومياء مع سمير عوف وصلاح مرعي وأنسي أبو سيف و...، تحت قيادة شادي بالطبع. بقيت إشارة إلي قصة فيلم "ليلة حساب السنين". يتحدث "ليلة حساب السنين" أو "المومياء" عن بعثة أثرية قامت بحفريات في وادي الملوك بطيبة عام 1881، وعن السكان الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلي بيع بعض الآثار في السوق السوداء ليتمكنوا من العيش. ومع تقديمه لقصة تتسم أحداثها بالعلاقات المتشابكة بين سارقي القبور الأجانب والمصريين يقوم الفيلم علي تحدي وجهات النظر الأوروبية التي سعت إلي نهب الآثار المصرية مدعية أنها تنقذها من أجل المحافظة علي التقدم العلمي. والفيلم يدين الأشخاص والمعاهد التي قامت بمساندة الحفريات. إن فيلم "المومياء" يرصد من أوله إلي آخره استيقاظ ضمير "ونيس" ولفظه لممارسات قبيلته من لصوص المقابر، والتضحية بمصدر رزق أهله مقابل إنقاذ الآثار والمومياوات المهددة. ومن يقرأ بين السطور يدرك بطبيعة الحال أن الفيلم في الظاهر عن "ونيس" وعشيرته ونابشي الآثار. ولكنه في الواقع عن مصر كلها التي كان شادي يتمني لها أن تحذو حذو "ونيس"، وتتجاوز مسألة التناول التجاري للحضارة، والتعامل معها كمجرد آثار، مما يعكس حسا وطنيا وانتماء قويا لمصر بحاضرها وماضيها. يقول شادي: "إنني حاولت في الواقع أن أعبر عن قضية عامة جداً لكنها تأخذ الطابع المصري، أي البيئة والحياة والتاريخ، الذي أعرفه وأحس به أكثر من غيره". إن الاهتمام المركزي لهذا الفيلم هو استكشاف الهوية الثقافية المصرية وهي هوية مركبة تنطلق من الفرعونية وتمتد حتي واقعنا الإسلامي ولغتنا العربية. الحضارة المصرية القديمة تجربة إنسانية وفكرية عميقة تستحق أن تدرس وتستلهم لتكون مصدرا للنهضة ولتقدم حضاري عظيم. هل لنا من بعض أقوال شادي البليغة الدلالة في نهاية المطاف: - إن العمل عندي هو الحياة. - أنا بطبيعتي بطيء أو متأمل في استيعاب الأشياء، لا أبدأ بسرعة، وانفعالي يستغرق وقتاً حتي يظهر. - إنني لا أعمل السينما علي أنها شيء استهلاكي. ولكني أعملها كوثيقة تاريخية للأجيال القادمة.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.