مركز تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس بجامعة أسيوط يحصل على رخصة معتمدة 3 سنوات    رئيس جامعة أسيوط يعلن حصول «مركز تنمية أعضاء هيئة التدريس» على رخصة معتمدة (تفاصيل)    التموين تتابع توافر السلع وإنتاج الخبز المدعم في ثاني أيام العيد    هالة السعيد: 31.2 مليار جنيه استثمارات عامة موجهة لبورسعيد    إصابات خطيرة في صفوف جيش التشيك عقب حادث انفجار ذخيرة    رفع الأثقال، المنتخب البارالمبي يصل جورجيا للمشاركة في بطولة العالم    كرنفالات وهدايا بمراكز شباب الدقهلية في ثانى أيام عيد الأضحى (صور)    حيوانات الحديقة الدولية تجذب الزوار في ثاني أيام عيد الأضحى (صور)    إصابة 21 شخصا من أسرة واحدة في حادث تصادم بصحراوي الإسكندرية (صور)    أنجلينا جولي تفوز بجائزة توني عن فيلم The Outsiders: A New Musical    ذكرى وفاة الشعراوي، الأزهر يسلط الضوء على أبرز المحطات في حياة "إمام الدعاة"    رئيس هيئة الرعاية الصحية في جولة مفاجئة على مستشفيات القناة (صور)    مسئول أمريكي: بايدن على استعداد لإعادة فتح مخزون النفط حال استمرار ارتفاع أسعار البنزين    الآن.. سعر الدولار اليوم الإثنين 17 يونيو 2024 مقابل الجنيه في مصر    أخبار الأهلي: سر تعثر مفاوضات الأهلي مع ثنائي الدوري الروسي    إقبال كثيف على مراكز شباب المنيا في ثاني أيام عيد الأضحى    عاجل.. مفاجأة في تشكيل الزمالك المتوقع أمام المصري    نابولي يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن رحيل نجمه    «النقل»: تشغيل محطة شحن الحاويات بالقطارات في ميناء الإسكندرية قبل نهاية العام    شروط القبول ببرنامج نظم المعلومات الأثرية ب«آثار القاهرة»    رئيس بعثة الحج الرسمية: تفويج حجاج القرعة المتعجلين من منى لمكة المكرمة غدًا    ضبط صاحب مخزن بحوزته أقراص مخدرة وسبائك ذهبية بالقليوبية    الصين تتهم الفلبين بتعمد انتهاك مياهها الإقليمية    الإنفاق على الأسلحة النووية يرتفع مع تصاعد التوترات العالمية ليبلغ 91 مليار دولار    «بطل مسلسل إسرائيلي».. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    غدا.. عزاء الموزع الموسيقي عمرو عبدالعزيز في مسجد النزهة بمدينة نصر    أدعية أيام التشريق.. «الإفتاء» تحدد عددا من الصيغ المستحبة    الفرق بين التحلل الأصغر والأكبر.. الأنواع والشروط    نائبة الرئيس الأمريكي: أمتنا محظوظة بكونها موطنًا لملايين المسلمين    عميد طب القاهرة ومدير مستشفى الطوارئ يتفقدان مستشفيات قصر العينى    ب 400 جنيه إسترليني.. علماء يطورون سماعة رأس لعلاج أعراض متلازمة «صدمة الحب»    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى العريش العام في زيارة مفاجئة    مسؤولون بغزة: قوات الاحتلال قتلت أكثر من 16 ألف طفل خلال الحرب على القطاع    روسيا: لن نسمح بإعادة آلية فرض قيود على كوريا الشمالية في مجلس الأمن    اعرف آخر وقت لتقديم الأضحية ودعاء النبي وقت الذبح    وزيرة الهجرة تطلق «بودكاست» لتعريف المصريين بالخارج تاريخ حضارتهم    الغردقة تتألق صيفًا بنسب إشغال قياسية وإجراءات سلامة مشددة على الشواطئ    «لست محايدًا».. حسام فياض يكشف صعوبات مسرحية النقطة العميا    كيف تتجنب المشكلات العائلية خلال أيام العيد؟.. خبير التنمية البشرية يجيب    نصيحة في كبسولة.. الخطوات اللازمة لتجنب الإصابة بأمراض القلب    محافظ المنوفية: إطلاق مبادرة "الأب القدوة" ترسيخا لدور الأب    وزير الإسكان: جهاز تعمير وسط وشمال الصعيد يتولى تنفيذ 1384 مشروعا    وفاة خامس حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    7 معلومات عن الطيار حسن عدس المتوفى بعد الهبوط في جدة.. «مكملش 40 سنة وغير متزوج»    الرئيس السيسي يلتقى ولي العهد السعودي في لقاء أخوي    «المالية»: تخفيف الأعباء الضريبية عن محدودي ومتوسطي الدخل    حسم موقف سيرجو روبيرتو من الرحيل عن برشلونة    محافظ أسوان يتفقد المطعم السياحي متعدد الأغراض بعد التطوير    مصرع طفل صعقا بالكهرباء خلال شرب المياه من كولدير في الفيوم    إعلام فلسطينى: قصف إسرائيلى يستهدف المناطق الجنوبية لمدينة غزة    إسرائيل تبحث اتخاذ خطوات عقابية ضد السلطة الفلسطينية بينها الاستيطان    مدير مجازر الإسكندرية: استقبلنا 995 ذبيحة في أول أيام عيد الأضحى.. والذبح مجانًا    فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 17 - 6 - 2024 والقنوات الناقلة    الدولار يسجل 47.75.. أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه اليوم    المنيا تسجل حالة وفاه جديدة لحجاج بيت الله الحرام    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المومياء»..يتيم بين أفضل مائة فيلم عالمي
نشر في القاهرة يوم 13 - 12 - 2011

«يقول شادي: بدأت أرسم منذ طفولتي، رغم أنه ليس هناك فنان واحد في عائلتي. والحق أن أحداً لم يشجعني علي مزاولة هوايتي أو يمنعني عنها. ومن يطلع علي كتبي المدرسية آنئذ يري عجبا. فكل الأماكن الخالية من الصفحات كنت أزينها برسوم غريبة. جينات الفن وما أغفله شادي في كلماته السابقة هو علاقته الوثيقة بالمنيا بلد أسرته وتكرار زياراته، بشكل مكثف، لها وللصعيد وآثار قدماء المصريين، مما يجعل "جينات الفن" معجونة من الأصل في تكوينته الوراثية، بحيث لا يتطلب الأمر إلا أهون حث، حتي تتجلي "الموروثات". كان والد شادي يعمل بالمحاماة، وألحقه حين وصل سن المدرسة، بمدرسة أغنياء الإسكندرية "كلية فيكتوريا". وحاول شادي مبكرا أن يقرأ ولكن مكتبة والده كانت قاصرة علي كتب التاريخ والقانون الصعبة. وحين بلغ الثالثة عشرة لم يكن هناك مفر من القراءة، إذ رقد عامين كاملين في الفراش، لأن طول قامته المتزايد راح يعرض قلبه للخطر. يقول شادي: "بعد هذين العامين صارت حركتي أبطأ، وأصبحت انعزالياً إلي حد ما، عاطفياً جداً، وبليداً جداً في الدراسة". تخرج شادي في "كلية فيكتوريا"عام 1948، وهو يخطو في التاسعة عشرة، فسافر إلي باريس ولندن وروما لأول مرة. يقول: "كنت أريد أن أدرس المسرح ولكني لم أتمكن من ذلك، فعدت للالتحاق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة". وعلي العكس من فترة الدراسة في "كلية فيكتوريا"، حيث كان لا يقرأ ولا يهتم بالمعرفة، راح يقرأ بنهم حتي تخرج عام 1955 . وأتاحت الدراسة بقسم العمارة في كلية الفنون لشادي أن يكون تلميذا للمعماري الكبير حسن فتحي، فعرف الفنون الإسلامية من خلاله علي نحو جيد. عام 1956 جند شادي في الجيش. وكان هذا أول لقاء جاد يتعرف من خلاله وبالممارسة، وليس بمجرد القراءة، علي الناس بجميع فئاتهم وثقافاتهم الحقيقية. وحسب تعبيره: "أنت تتجمع مع زملائك في التجنيد بكل نوعياتهم في مكان واحد، وترتدون جميعاً "عفريتة" واحدة، وسواء أردت أو لم ترد فلابد أن تتفاهم مع الجميع وتعرفهم، وبعد قليل تجد نفسك قد تعودت عليهم وأصبحت واحداً منهم. وفي هذه التجربة المهمة جداً تعودت علي النظام وعلي ممارسة العمل الجسماني الشاق، وأخذت إجازة إجبارية من القراءة والكتابة والرسم، ليتجه عقلي اتجاهاً آخر تماماً. لقد أعطاني عام الجيش الفرصة لكي أفكر طويلا فيما يمكن أن أصنعه بعد ذلك. صلاح أبوسيف المهم أن شادي خرج من الجيش ليقدم علي خطوة عجيبة. طرق باب بيت المخرج الكبير صلاح أبو سيف دون سابق معرفة. قال له إنه جاره، يسكن نفس الشارع في الزمالك. ولما رحب صلاح به، عرفه بنفسه كمعماري تخرج بتقدير امتياز من كلية الفنون الجميلة، وأعرب عن رغبته العمل في السينما. قال له صلاح لا داعي للثرثرة حول هذا الموضوع، تجنبا للعراقيل، واصطحبه إلي الاستوديو كمساعد شخصي له، وظيفته أن يتفرج أثناء إخراج فيلم "الفتوة" (57/58)، وكل ما كان عليه، غير الفرجة، هو أن يدون الوقت الذي كانت تستغرقه كل لقطة! ثم استعان أبو سيف به كمساعد مخرج في أفلام "الوسادة الخالية" و"الطريق المسدود" و"أنا حرة". وعمل شادي بعد ذلك مساعدا مع حلمي حليم في "حكاية حب". أثناء الفيلم تغيب مهندس الديكور، كان شادي قد عمل مساعدا للمهندس رمسيس واصف عام 1957، فتشجع وقام بعمل ديكور أغنية عبد الحليم حافظ "حبك نار" ، ثم أكمل ديكور "حكاية حب" كله. مع توجهات شادي المعمارية والتشكيلية جاء الديكور طازجا، في صورة لم تعتدها سينما تلك الأيام. لفت الأنظار، مما دفع المنتجين للتعاقد معه علي تصميم وتنفيذ ديكورات مجموعة من الأفلام. لأن الممثل هو الواجهة النهائية التي تطالع الجمهور، ولأنه هو الذي "يقش" كل الشهرة في النهاية، يوجد ميل لا يقاوم لدي معظم ممارسي المهن الفنية للتحول إلي التمثيل. حاول المخرج حلمي حليم إغراء شادي بأن يكون واحدا من أبطال "غراميات امرأة" أمام سعاد حسني. لكن نداهة أخري كانت تشد شادي. كان قد تتلمذ علي يد ولي الدين سامح، أشهر من صمم الديكور السينمائي في بدايات السينما المصرية، عندما أوكلت آسيا لسامح تصميم ديكورات وملابس فيلم "الناصر صلاح الدين"، فاختار الأستاذ أن يساعده شادي عبد السلام. وأيام "واإسلاماه" (1961) سافر ولي الدين سامح إلي الخارج، فانفرد شادي بعمل ديكور الفيلم. انطلاقة كليوباترا عندما بدأ داريل زانوك إنتاج فيلمه التاريخي الشهير "كليوباترا" بطولة ريتشارد بيرتون وإليزابيث تيلور، قرر أن يصور بعض أحداثه في مواقعها التاريخية، وصنع شادي مع ولي الدين سامح السفينة التي خاضت معارك الفيلم. بعد "كليوباترا" ارتفعت سمعة شادي إلي عنان السماء، فصنع ديكورات أفلام شفيقة القبطية، الخطايا، ألمظ وعبده الحامولي، رابعة العدوية، أميرة العرب، أمير الدهاء، بين القصرين، السمان والخريف. أغلبها أفلام تدور أحداثها في ديكورات تاريخية والسبب كان نجاحه في "واإسلاماه" وعمله في "كليوباترا". رغم أن "واإسلاماه" (1960) هو الفيلم الذي فتح أبواب السينما علي مصراعيها أمامه فالغريب أن مشكلته مع الديكور، بل والسينما بدأت معه! كان رمسيس نجيب قد أنفق علي الفيلم بسخاء، حتي أنه كان أكبر إنتاج مصري في حينه، لكن مخرج الفيلم أندرو مارتن كان أمريكيا. عند إخراج فيلم تاريخي لا بد من المعرفة الدقيقة للتاريخ والعادات واللهجات. الممثلون كانوا يتكلمون العربية التي لا يفهمها المخرج، ولا يستطيع أن يتذوقها، وبالتالي لم يكن بمقدوره توجيههم، وهكذا رأي شادي أن المحاولة لم تنجح، وبدأ يقيم الديكور الذي عمله منفردا في هذا الإطار. ورويدا اكتشف أنه يضيع وقته في العمل بصناعة الديكور. يرسم ويعمل حوائط ونوافذ و...، ترهقه أيما إرهاق، ثم لا تستخدم علي النحو الذي توقعه. راحت المشكلة تؤرقه. شرنقة كافليروفيتش حين عمل شادي مستشارا تاريخيا لمشاهد وملابس الفيلم البولندي "فرعون" فوجئ بطريقة الإنتاج البولندية. إن عمله في فيلم "كليوباترا" كان أشبه بالعمل في مصنع تجميع، لم يكن له علاقة بمسرح العمل الفني. أدي وظيفته المحددة من بعيد لبعيد، أما العمل في "فرعون" فكان أقرب شبها بالعمل في مدرسة. في المدرسة البولندية شجع كافليروفيتش شادي حتي علي الوقوف وراء الكاميرا، بل وتركه يخرج إحدي لقطات "فرعون"! مع أريحية كافليروفيتش راحت الملابسات تتري. تشابكت خيوط متعددة، أخذت تنسج شرنقتها حول شادي. فن العمارة أساس كل الفنون ولي الدين سامح عمل في نهاية المطاف بالإخراج. لقد عمل هو نفسه مساعد مخرج مع صلاح أبو سيف وحلمي حليم و.. حان الوقت لا ليكون قيما علي التعبير عن رأيه فقط، بل وعلي توصيله للناس أيضا. إن إيزنشتين أكبر منظر للسينما في العالم بدأ سيرته مهندسا معماريا. العمارة مرآة حقيقية لحياة الإنسان بينما هو في بولندا (1963)، غارقا لشوشته في ديكورات الفراعنة وأزيائهم وإكسسواراتهم، راح الحنين يشده إلي مصر وصعيدها. إنه لم ينقطع عن الذهاب إلي بيته في المنيا طوال حياته. رغم ولادته في الإسكندرية الكوسموبوليتانية، وربما بسبب ذلك، أحب المنيا. أحب فيها كل شيء. المنازل. الملابس. طريقة الكلام. التقاليد والعادات. الصفات الأخلاقية. بات لون أهل الصعيد هو اللون الذي يريح عينيه. إنه صعيدي قح رغم ولادته في الإسكندرية. إن الصعيد هو مصر الحقيقية. مصر الفرعونية. قصة المومياوات في ليلة شتاء بولندية باردة جداً حمله التداعي إلي التفكير في المنيا والصعيد والفراعنة وقصة المومياوات. كان قد قرأ قصة اكتشافها في الدير البحري لأول مرة عام 1956، منشورة كمحضر بوليس في عدة كتب أجنبية. فقد اكتشفت مقبرة فيها عدة مومياوات، سرقت كلها، ثم أعيدت لتعرض في المتحف المصري، بعد أن تم التعرف علي شخصياتها، بدا الأمر وكأنها عادت للخلود ثانية، فمادام الاسم قد عرف وبقي، فنحن أمام العودة للحياة والخلود. يا من تذهب سوف تعود يا من تنام سوف تصحو يا من تمضي سوف تبعث. وهو يرتعد من البرد وسط الثلوج كان يفكر أين مناخ بولندا الثلجي من مناخ مصر ودفء صعيد مصر. بدأت رحلة المومياء تحفر في وجدانه. وفي عام 1965 ظهرت البذرة الأولي للفيلم. معالجة قصصية منظومة كالشعر من 40 سطرا كتبها علي لسان الغريب. بعدها بدأ يكتب السيناريو. كان هناك إحساس قوي يدفعه للكتابة بغض النظر عن تنفيذ الفيلم أو عدم تنفيذه. في البداية جاء السيناريو واقعياً تقليدياً تحت مسمي "دفنوا مرة ثانية" ثم عدله وعدل اسمه إلي "ونيس" (بطل الفيلم). لكنه لم يكن متعجلاً. راح يجرب، ويحاول الوصول حثيثا إلي الشكل الذي يراه ملائما تماماً للتعبير عن نفسه. في عام 1966 لاحت فرصة للعمل مع روبرتو روسيلليني، مصمما لديكور وملابس فقرة عن الحضارة المصرية في مسلسل "الصراع من أجل البقاء". كان الرجل يمتاز ببساطة التفكير السينمائي مع العمق في الوقت نفسه. لهذا ترك في نفس شادي بصمة لم يتركها أحد غيره من الناحية الفكرية. كانت الرغبة في الإخراج السينمائي تداعب شادي منذ زمن طويل، تأكدت الرغبة وراحت تلح عليه. وجد نفسه غير قادر علي عمل أي شيء غير الانهماك في التفكير بعالم فيلم "ليلة حساب السنين". جاءته بعض العروض لتصميم وتنفيذ ديكورات أفلام بأجور خيالية، لكنه وجد أنه سيكذب علي الآخرين ويكذب علي نفسه لو قبل. كان شادي يتردد بشكل دائم علي أصدقائه آدم حنين وجمال كامل في مجلة "صباح الخير". نشر علاء الديب تحقيقا عن "امرأة في جنوب مصر قتلت ابنها لأنه باع أرض والده، وألقت بجثته في بئر وجلست بجوار البئر ككتلة من السواد لا تتحرك، حتي عندما رفعها رجال الشرطة جلست الجلسة نفسها أثناء التحقيقات" لفت التحقيق نظر شادي وجذبته لغته. كان قد شاهد مسرحية «لعبة النهاية» لبيكت التي ترجمها الديب، ولفتته محاولة المترجم تطويع اللغة العربية الفصحي لأي مضمون، حتي السخرية والعبث. كان قد انتهي من كتابة سيناريو"المومياء وجهد في البحث عن كاتب للحوار، ووجد ضالته في علاء الديب فاتفقا علي التعاون في الوصول إلي لغة وسيطة مفهومة للجميع، وفي الوقت نفسه أن يكون فيها جمال ملائم لجمال الصورة التي يشكلها شادي في فيلمه. انتهت كتابة سيناريو "ليلة حساب السنين" فبدأت رحلة البحث عن طريقة لتنفيذه. ولكونه يعمل مع روسيلليني في مسلسل "الحضارة" عرض السيناريو عليه (1967). الفراشة تغادر الشرنقة بادر روسيلليني ثروت عكاشة أول أن التقاه: لديكم في مصر نابغ سينمائي كبير لا تستفيدون منه، فسأله ثروت عمن يقصد، وعندما كرر له اسم شادي عبد السلام قال ثروت إنه لم يسمع بمخرج سينمائي بهذا الاسم: "أنا لا أعرفه". تعجب روسيلليني: كيف تعرفه قبل أن يعمل فيلماً؟ دعوه يعمل وحينئذ ستعرفونه جيداً. إن لديه سيناريو رائع. كيف تغفلون هذا السيناريو ولا تنفذونه في الحال؟ استدعي ثروت عكاشة شادي يستوضح الأمر، وسمع منه حكاية "ليلة حساب السنين" (المومياء)، ثم قرأ السيناريو فأعجب به وأمر بشرائه فوراً، ودخل السيناريو مشاريع مؤسسة السينما. انفتحت الشرنقة وطار شادي.. كان قد أخرج عددا من الأفلام القصيرة أهمها "شكاوي الفلاح الفصيح" الذي يعد صرخة من أجل العدالة تثبت أنها قيمة تليدة قائمة دوماً. إن البردية التي تضمنت هذه القصة عمرها أربعة آلاف سنة. لكن المسألة في الفيلم ليست مجرد تاريخ أو إحياء بردية لها قيمة خاصة، رغم ضخامة هذه القيمة في ذاتها. إنه صرخة احتماء بالعدالة. وهي صرخة قائمة ولازمة في كل العهود. يقول شادي: ما حركني هو قيمة البردية نفسها. بردية عمرها أربعة آلاف سنة ومكتوبة بمنطق يمكن القول بأنه منطق حديث. نص أدبي رائع وواضح جداً. وهي أول قصة وجدت في التاريخ. طبعاً كان هناك (حواديت) وأساطير قبلها، لكنها كانت كلها تابعة للديانات القديمة. هذه القصة لا علاقة لها بذلك. مشكلة اجتماعية لمزارع بسيط يتجه بسلعته إلي السوق فيسرقه اللصوص. يطلب أن تأخذ العدالة مجراها. لكنه يجد السلطة صامتة فيهاجمها. يصرخ ويطالبها أن تكون علي مستوي المسئولية، موضحاً مواصفات الحاكم العادل، وهكذا حتي يسترد حقه. كان "شكاوي الفلاح الفصيح" تجسيداً سينمائياً رائعاً وفريداً من نوعه.. لوحة شاعرية بانورامية لفلاح مظلوم يبث شكاواه البالغة الفصاحة مطالبا بالعدل ورفع الظلم ومحملا الحاكم في شجاعة نادرة مسئولية إقرار العدل جدّ في إبداعها مع شادي طاقم فني حاذق. وهكذا في مارس 1968 بدأ
عبدالعزيز فهمي تصوير المومياء مع سمير عوف وصلاح مرعي وأنسي أبو سيف و...، تحت قيادة شادي بالطبع. بقيت إشارة إلي قصة فيلم "ليلة حساب السنين". يتحدث "ليلة حساب السنين" أو "المومياء" عن بعثة أثرية قامت بحفريات في وادي الملوك بطيبة عام 1881، وعن السكان الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلي بيع بعض الآثار في السوق السوداء ليتمكنوا من العيش. ومع تقديمه لقصة تتسم أحداثها بالعلاقات المتشابكة بين سارقي القبور الأجانب والمصريين يقوم الفيلم علي تحدي وجهات النظر الأوروبية التي سعت إلي نهب الآثار المصرية مدعية أنها تنقذها من أجل المحافظة علي التقدم العلمي. والفيلم يدين الأشخاص والمعاهد التي قامت بمساندة الحفريات. إن فيلم "المومياء" يرصد من أوله إلي آخره استيقاظ ضمير "ونيس" ولفظه لممارسات قبيلته من لصوص المقابر، والتضحية بمصدر رزق أهله مقابل إنقاذ الآثار والمومياوات المهددة. ومن يقرأ بين السطور يدرك بطبيعة الحال أن الفيلم في الظاهر عن "ونيس" وعشيرته ونابشي الآثار. ولكنه في الواقع عن مصر كلها التي كان شادي يتمني لها أن تحذو حذو "ونيس"، وتتجاوز مسألة التناول التجاري للحضارة، والتعامل معها كمجرد آثار، مما يعكس حسا وطنيا وانتماء قويا لمصر بحاضرها وماضيها. يقول شادي: "إنني حاولت في الواقع أن أعبر عن قضية عامة جداً لكنها تأخذ الطابع المصري، أي البيئة والحياة والتاريخ، الذي أعرفه وأحس به أكثر من غيره". إن الاهتمام المركزي لهذا الفيلم هو استكشاف الهوية الثقافية المصرية وهي هوية مركبة تنطلق من الفرعونية وتمتد حتي واقعنا الإسلامي ولغتنا العربية. الحضارة المصرية القديمة تجربة إنسانية وفكرية عميقة تستحق أن تدرس وتستلهم لتكون مصدرا للنهضة ولتقدم حضاري عظيم. هل لنا من بعض أقوال شادي البليغة الدلالة في نهاية المطاف: - إن العمل عندي هو الحياة. - أنا بطبيعتي بطيء أو متأمل في استيعاب الأشياء، لا أبدأ بسرعة، وانفعالي يستغرق وقتاً حتي يظهر. - إنني لا أعمل السينما علي أنها شيء استهلاكي. ولكني أعملها كوثيقة تاريخية للأجيال القادمة.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.