في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي، لفظت سيدة فرنسا السابقة، مدام دانييل ميتران أنفاسها الأخيرة، لم تكن في بيتها الأول بباريس، المطل علي ميدان موبير، بل في بلدة توسان الصغيرة، وبيتها ككل بيوت المدن الصغيرة عبارة عن حديقة واسعة، وطوابق ثلاثة تتدرج في شكل هرمي. مدام دانييل هي زوجة الرئيس الراحل والمفكر الاشتراكي فرانسوا ميتران، وحياتها كانت تسير بالتوازي مع حياة فرانسوا. ولدت في نفس المدينة التي دفنت بمقابرها، توسان، من أسرة أغلبها من رجال القضاء والسياسيين، وفي سن السادسة عشرة شهدت احتلال النازي لفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، لكنها، ككل مواطنيها الشرفاء، انضمت إلي حركة المقاومة الشعبية، وتعرضت للاعتقال عدة مرات، وتفتح وعيها علي حقيقة كبري: لو تجمعت أطياف الشعب في جبهة واحدة، فلن تستطيع أكبرك القوي الرادعة أن تصمد أمامها. وبدأت في تجنيد من في ربيع العمر، مثلها وتحولت زميلاتها من طلاب الحقوق إلي ممرضات، وبعضهن حمل السلاح وراح يناضل، جنبا إلي جنب، مع ممثلي القوي السياسية وقتذاك، الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الاشتراكي، والتجمع الجمهوري الليبرالي الخ الخ. ووسط المعارك، تبلورت في كيان دانييل عاطفة أخري، لا تقل في تأجيجها عن عاطفة تحرير الوطن: عاطفة الحب الإنساني الكبير بكل معاني المشاركة الوجدانية، والمشاركة في مشروع الحياة، حياتها هي ومن أحبت وحياة كل المواطنين: لقد التقت بطالب حقوق شاب، يحلم بتغيير النظام السياسي - الاجتماعي، الذي انتهي بتسليم فرنسا للفوهرر، وذلك بتأليف حكومة فيشي الشاب اسمه: فرانسو ميتيران. بداية الطريق كانت بداية طريق طويل، شاق وصعب، والاصعب هو دانييل نفسها بالنسبة لزوجها: كثيرا ما كانت تعارضه، وحتي عندما حقق حزبهما الاشتراكي نجاحه الساحق في انتخابات 1978 وأصبح فرانسوا رئيسًا للجمهورية كانت دانييل تفاجئ الدبلوماسية الفرنسية بزيارات غير متوقعة: تارة لهوشي منه في فيتنام وتارة لحركات تحرير المغرب العربي، وهي التي ساعدت مفكر الثورة الجزائرية «مصطفي الأشرف» علي الإقامة بباريس، وذلك بعد سنوات من اختفائه، عقب إغلاق مكتب حركة تحرير المغرب العربي، وكان يحتل الطابق الثاني من العمارة التي بها مقهي الحلويات الشرقية، بباب اللوق، بالقاهرة. كان مصطفي الأشرف يصدر صحيفة: «البشير» بالعربية، ثم بالفرنسية (Le Messages) وذلك في فترة من أهم فترات التحول في تاريخ مصر المعاصر، ألا وهي فترة تكوين الجبهة الوطنية للنضال المسلح ضد الاحتلال البريطاني، وكان مكتب باب اللوق يضم ثوار الجزائر، وأغلبهم كان يدرس بكلية الآداب، بقسم اللغة العربية، ومنهم عثمان سعدي، الذي أصبح سفيرا للجزائر بالقاهرة، ومولوود قاسم الذي أصبح وزيرا للتعليم الابتدائي الأصولي، وانضم اليهما المناضل التونسي، إبراهيم طوبال. تسأل: ما علاقة هؤلاء بدانييل ميتران؟ الجواب هو أن حركات التحرير الوطني في شتي المستعمرات المقسمة بين انجلتراوفرنسا، كانت المحور الرئيسي في جمعية «فرنسا حرة (Frnce LLBre) التي أسستها سيدة فرنسا الأولي والتي كانت مصدر أرق لزوجها، الموزعة جهوده بين قطبين: الالتزام بوضعه كرئيس للجمهورية، ثم الالتزام برئاسة الحزب الاشتراكي. ولم يتوقف نشاط جمعية فرنسا الحرة إلي الآن، فمازالت تعمل الكوادر التي رتبها دانييل، وأغلبهم من مهاجرين هربا من اضطهاد الحكام الديكتاتوريين في بلادهم. سمة أخري تميز سيدة فرنسا، هي: البساطة والتواضع. حادث شخصي وليسمح لي القارئ بسرد حادث شخصي. في سنوات الهجرة التي قضيتها بباريس، كنت أقيم بشارع القديسة جنيفيف، بالحي اللاتيني، وكان علي أن اتجه إلي ميدان موبير نهاية الشارع كي استقل المترو، وظللت لسنوات المح ظاهرة غريبة: في الشارع المقابل لبيتي شارع صغير، عبارة عن ممر ينتهي إلي نهر السين، ويتصدر الشارع رجلان من رجال الشرطة، وعلي الأرض جنزير حديدي، وكان الكثيرون يعبرون هذا الممر دون أن يلتف لهم الشرطيان. وفي يوم كنت علي موعد مع المشرفة علي رسالتي عن الموسيقي والمسرح الفرعوني، عالمة الموسيقي ايديت فيبر، وعندما اوقفت سيارتها كي اركب، سألتها: «ماذا يفعل الشرطيان، هنا»؟ وابتسمت وقالت: هذا هو بيت فرانسو ميتيران رئيس الجمهورية وانتهت إلي المثل الذي يضربه رئيس جمهورية لمواطنيه وفي كثير من الأحيان، كنت أري فرانسوا ميتيران وقد تأبط ذراع صديق، وهما في نقاش حاد وخصب، ويسير رئيس الجمهورية وسط مقاهي الحي اللاتيني ولا أحد ينظر إليه، فالكل إخاء ومساواة. وعن طريق الصديق انال شونال، مستشار ميتيران لشئون الشرق الأوسط، تعرفتع لي مدام دانييل وسألتني عما يجمع أبحاثي، وقلت لها: «التيار الهرمي،القائم علي نصوص العلوم التي كانت تدرس في معابد الفراعنة، والتي وصلت إلي كوزيمو دي ميتيشي حاكم فلوراسا في القرن الرابع عشر، والتي استوعبها جوردانبوبرونو وجاليليو وانتهت إلي نظريات الحجرة المظلةم، أساس الكاميرا، وذلك بتجارب ديللا بورتاو دافنش« ونصوص ترجمت إلي اللاتينية لابن الهيثم». الجانب الآخر لم يكن قصدي مجرد «استعراض عضلات» بل كانت محاولة لكي «انكش» دانييل لتحدثني عن الجانب الآخر من حياتها، الجانب الذي لم يتناوله أي باحث، ولم يفطن إليه أحد: جانب العلوم المعرفية أو ما يسمي بالجنوطيسية (Ginostique). كنت اتتبع رحلاتها إلي أسوان، حيث يوجد مكان تتعامد فيه أشعة الشمس مع ما تشعه الطاقة البشرية من هالة ضوئية، والي الآن لم أعرف كيف يحدث ذلك، لكن دانييل كانت تعرف، وكان فرانسوا يعرف، وقبلهما أغان خان والبيجوم ونحن الآن في عصر اكتشاف العلاقة بين الطاقة والمادة، أي أننا نستعيد ما تركه لنا اسلافنا من ميراث ثقافي لا يعبأ به أحد عندنا، لا في جامعاتنا ولا في مجالات البحث العلمي، بل ينظرون إلي هذا التراث فاغري الأفواه، في بلاهة، بينما أوروبا الغربية قد أسست حضارتها علي تراث هرسي - توت المصري، والذي لم تنكر أوروبا دوره الخلاق، يكفي أن نذهب إلي كاتدرائية مدينة سيينا SIEENNA بإيطاليا لتجد لوحة تصور هرمس توت المصري وهو يشير إلي طلاب العلم، ونقرأ تحت اللوحة: «هرمس المصري الذي علم العالم الكتابة والفلك والموسيقي والعلوم الطبيعية». وكانت دانييل ميتيران موزعة اهتماماتها بين القطبين: قطب الحياة اليومية لكل شعوب العالم، وهو الجانب السياسي في حياتها، والذي أدي إلي تأسيس: «فرنسا - حرة». FRNCE LIBBE أما الجانب الآخر، فهو جانب روحاني- علمي، لا روحاني عيني ولا سلفي، بل جوهر الحقيقة. لتستمر جمعية فرنسا حرة في أداء رسالتها. وليعانق جمهورها أبناؤنا، شباب ثورة 25 يناير.