مع الانتهاء من انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس ومن انتخابات المجلس التشريعي في المغرب ومن المرحلة الأولي للانتخابات البرلمانية المصرية، باتت كل المؤشرات تؤكد اكتساح التيارات الإسلامية وكأن الربيع العربي الذي بدأ بثورة الياسمين في تونس وانتقل إلي البلدان العربية الأخري كان بادرة لهذه التيارات حتي تستنفر تنظيماتها السياسية للانتقال إلي السلطة بعد سنوات من التهميش والتنكيل والمنع من قبل الأنظمة السابقة. النبوءة الإيرانية وتحيلنا التطورات الانتخابية الأخيرة في كل من تونس ومصر والمغرب إلي التصريحات الإيرانية عقب اندلاع الثورة المصرية والتي جاءت علي لسان علي أكبر صالحي، وزير الخارجية الإيراني، الذي قال "من خلال معرفتنا للشعب المصري الثوري الكبير وصانع التاريخ فإننا علي ثقة بأنه سيضطلع بدوره جيداً في إيجاد شرق أوسط إسلامي يتعلق بالأحرار ومريدي العدالة والاستقلال في المنطقة بصورة جيدة". ونقل صالحي وجهة نظر النظام الإيراني الذي يري أن ثورات الشعوب العربية الواحدة تلو الأخري ما هي إلا مقدمة لمجيء حكومات إسلامية تغير شكل الشرق الأوسط تماماً وشكل تحالفاته الإقليمية والدولية. ربما تكون الأطروحة الإيرانية أقرب للتحقق في الوقت الراهن بسبب عدة عوامل كانت متوقعة علي رأسها تفتيت المعارضة السياسية التي أضعفت عمداً علي مدي سنوات من الابعاد السياسي ولم تنجح في تجاوز انقساماتها الداخلية أو تقديم برامج سياسية قوية تحظي بقاعدة قوية من التأييد الشعبي. وتعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في المغرب في الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي تتويجاً للوعود الإصلاحية التي قدمها العاهل المغربي تحت ضغط المطالب الشعبية. وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد أعلن في السابع عشر من يونية الماضي عن مشروع إصلاحات دستورية تشمل تقليص سلطات الملك الواسعة وتعزيز سلطات الحكومة مع احتفاظ الملك برئاسة الدولة وقيادة الجيش وإدارة السياسة الخارجية وتعيين القضاء وسلطة حل البرلمان. كما اشتمل مشروع الدستور الجديد علي عدة محاور في مقدمتها الملكية البرلمانية، واعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة إلي جانب اللغة العربية، وترسيخ ضمان حقوق الإنسان، والالتزام بالمواثيق الدولية التي صدّقت عليها المغرب. ومن بين الحقوق التي أكد العاهل المغربي علي التوجه لحمايتها مساواة الرجل والمرأة، وتوفير شروط المحاكمة العادلة وتجريم التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وكل أشكال التمييز والممارسات المهينة للكرامة الإنسانية وضمان حرية التعبير والرأي، وحق الولوج إلي المعلومات وتقديم العرائض. وارتبطت الإصلاحات أيضاً بالوضع الدستوري لرئيس الحكومة الذي يتم تعيينه من الحزب المتصدر لانتخابات مجلس النواب ويعطيه الدستور صلاحية اقتراح أعضاء حكومته وإقالتهم، والإشراف علي الإدارة العامة والتعيين في المناصب المدنية علي أساس الاستحقاق والشفافية. كما يملك رئيس الحكومة أيضاً صلاحيات اقتراح التوظيف في المناصب الرفيعة مثل المحافظين والسفراء ومسئولي الإدارة الأمنية الداخلية. العدالة والتنمية في الصدارة واليوم وبعد أن جني المغاربة بعض ثمار الربيع العربي وتحت ضغوط من الحركات الشبابية المطالبة بنظام ملكي برلماني والتي من أهمها حركة 20 فبراير، فاز حزب العدالة والتنمية ب107 مقاعد في البرلمان مما سيسمح لأمينه العام عبدالإله بن كيران بتشكيل الحكومة. وقال كيران عقب أن حل حزبه في الصدارة "إننا عشنا في المغرب الربيع العربي بطريقتنا الخاصة، وفضلنا ألا نغامر باستقرار بلادنا". ومثله مثل حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر، فإن حزب العدالة والتنمية المغربي يعد امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين التي انتهجت نهج المطالبة بالديمقراطية والمواطنة مما جعل خطابها أقرب إلي القبول لدي الشعب لاسيما مع تأكيد هذه الأحزاب علي احترام حقوق المرأة والأقليات والحريات الشخصية. ويتكون البرلمان المغربي المنتخب من 395 مقعداً، بينها 90 مقعداً جري التصويت عليها بنظام اللائحة الوطنية، 60 مقعداً للنساء، و30 مقعداً للشباب ( أقل من 40 سنة ). وتجاوزت نسبة المشاركة في الانتخابات 45% مما أعطي مؤشراً إيجابياً لارتفاع نسبة المشاركة السياسية. تحديات تشكيل الحكومة وعلي الرغم من فوز الأحزاب الإسلامية الكبري في كل من تونس والمغرب، تظل هناك تحديات كبيرة في انتظارها فحزب النهضة التونسي يواجه ضغطاً من السلفيين في تونس بينما يواجه حزب العدالة والتنمية تحدي تشكيل الحكومة التي لابد وأن تكون ائتلافية كما يواجه تحديات عديدة في إدارة البلاد في المرحلة المقبلة. وتباينت مواقف الأحزاب والقوي السياسية في المغرب من المشاركة في الحكومة الجديدة حيث أكد حزب "التجمع الوطني للأحرار" الذي يقود تكتل التحالف من أجل الديمقراطية وحصل علي 52 مقعداً رفضه المشاركة في الحكومة. وقال الحزب في بيان أصدره إنه "اختار بكل وعي ومسئولية ودفاعاً عن مشروعه الحداثي الديمقراطي الاصطفاف في المعارضة". في الوقت نفسه، قال رئيس الحكومة المعين إنه لا يمانع التحالف مع أي طرف باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي حظي ب 47 مقعداً. وبذلك تبدو المؤشرات الأولية أن هناك إمكانية تحالف حزب العدالة والتنمية مع أحزاب "الكتلة الديمقراطية" التي تضم حزب الاستقلال الذي يقود الائتلاف الحكومي الحالي بقيادة سكرتيره العام عباس الفاسي والذي حصل علي 60 مقعداً وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ولديه 39 مقعداً وحزب التقدم والاشتراكية ب 18 مقعداً وذلك لتشكيل الحكومة المقبلة فيما لم يصدر عن هذه الأحزاب أي موقف رسمي بعد. تحدي السلفية أما في تونس، فيواجه حزب النهضة حرباً محتدمة مع السلفيين الذين قاموا في الآونة الأخيرة بتشديد مواقفهم من العلمانية في البلاد. وقام السلفيون في تونس مؤخراً باقتحام جامعة منوبة والاعتصام فيها للمطالبة بتمكين الطالبات المنتقبات من الجلوس للامتحانات وتخصيص مسجد في حرم الجامعة، والتفريق بين الطلبة الإناث والذكور، وعدم السماح للرجال بتدريس النساء، والنساء بتدريس الرجال. وكرد فعل، أعلنت نقابة أساتذة الجامعات التونسية إضراب عام واحتجاجات في كل جامعات البلاد. كما أعلنت الجامعة عن اعتزامها تنظيم تجمع احتجاجي أمام مقر المجلس الوطني التأسيسي، وعن تجمعات احتجاجية مماثلة أمام مختلف الجامعات في البلاد تنديداً بالاعتداءات علي الحريات الفردية والعامة، وكذلك علي الحريات الأكاديمية. وكانت اعتصامات السلفيين قد شهدت اشتباكات بالأيدي داخل الحرم الجامعي في كلية الآداب والفنون بين الطلبة السلفيين والطلبة العلمانيين الذين عبروا عن رفضهم للمنتقبات وعن ضرورة احترام القوانين الجامعية. وقامت هذه المجموعات الملتحية، بحسب شهادات الطلبة والعاملين بالجامعة، باحتجاز عميد الكلية والاعتصام في بهو الجامعة إلي حين تلبية مطالبهم. وأكد عميد الكلية، الحبيب الكزدغلي، أن عشرات السلفيين الذين لا ينتمون إلي الكلية قاموا بمنع طلبة من دخول الامتحان وهددوه بأنه سيبقي قيد الاحتجاز إلي حين تلبية جميع مطالبهم. ويعد حادث اقتحام جامعة منوبة ليس الأول من نوعه فقد شهدت إذاعة "الزيتونة" للقرآن الكريم عملية اقتحام مماثلة من جماعة سلفية يقودها الشيخ عادل العليمي، الذي أعلن عن تأسيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تونس، وقام بطرد مديرة الإذاعة السيدة إقبال الغربي بحجة أنها غير مؤهلة لإدارة مؤسسة دينية. وصرح الشيخ العليمي بأن الهيئة ستعمل علي الإصلاح والهداية في كل المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتي الرياضية، وستكون عاملا فاعلا مستقلا يمكنه إصلاح الحكومة ومراقبتها. كما سبق وقام السلفيون بتبير حادث الهجوم علي سينما أفريكار وعلي قناة نسمة والاعتداء علي المخرج النوري بوزيد والهجوم علي المصطافين بأحد الشواطئ. خلفية واحدة وتيارات مختلفة وعلي الرغم من المكاسب التي حققتها الحركات الإسلامية بفضل الربيع العربي، وعلي الرغم من انطلاقها جميعاً من معطيات واحدة، فإن هذه الحركات يمكن بصفة عامة تقسيمها إلي ثلاثة تيارات: التيار المنبثق عن فكر جماعة الإخوان المسلمين، التيار الجهادي، والتيار السلفي. وبما أن التيار الجهادي لا يزال محظوراً في معظم الدول العربية، فإن المرحلة القادمة ستشهد منافسة قوية بين التيارات الإسلامية المعتدلة وبين التيار السلفي وستكون أهم محاور هذه المنافسة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومناهضة العلمانية والليبرالية والديمقراطية وإقصاء المرأة عن العمل السياسي والحياة الاجتماعية العامة. وانتقد الأمين العام للحركة السلفية في تونس، رضا أحمد صمدي، الديمقراطية واعتبرها كفراً. وفي الوقت الذي يختلف فيه التيار المعتدل عن التيار السلفي، فإنه لم يتخذ موقفاً واضحاً من المنهج السلفي ومن التصريحات التي تصدر عن كوادره والتي تعد بمثابة تهديد صريح لمستقبل المجتمع المدني. ونري ذلك مثلاً في التجربة التونسية حيث لم يقم حزب النهضة بإدانة الهجمات السلفية أو بمناصرة ضحاياها. وهو ما أكدته الدكتورة فاطمة جغام، أستاذ الفنون التشكيلية، التي تعرضت إلي اعتداء من مجموعة من تلامذها السلفيين الذين طالبوها بمغادرة قاعة التدريس باعتبار أن الفنون التشكيلية حرام واتهموها بالكفر. وأضافت "الغريب في الأمر أن زملائي الذين ينتمون لحركة النهضة لم يتضامنوا معي ولم يدينوا ما تعرضت إليه من تهديد وعنف لفظي". العالم العربي الذي يشهد تمدد للأنظمة الإسلامية سيشهد بلاشك المزيد من الصراع بين التيارات الإسلامية المعتدلة وبين التيار السلفي. ولكن في جميع الأحوال، نري مؤشرات مهادنة التيارات المعتدلة للتيار السلفي تتمثل في الامتناع رأينا في تصريح الرئيس السابق لحركة النهضة الصادق شورو الذي طالب بوضع "بنودًا في الدستور ليكون الإسلام هو المرجعية التي يستلهم منها المجلس التأسيسي القوانين والنظم القضائية والتربوية والاجتماعية والسياسية"، وهو الأمر الذي اعتبره المحللون بأنه خطوة علي طريق إقامة الخلافة الراشدة.