اعتادت «إبيجل» أن ترقص عارية في ضوء القمر، تعزف علي أوتار الرغبة، تعانق الوهج، وتمتلك كل أشواك الجسد، كانت امرأة جميلة وعاهرة مثيرة، لعبت بالسحر والغموض وليالي العشق والهوي، فتجاوزت حدود المستحيل، وتحالفت مع الشيطان، لتنسج مؤامرات الموت والعنف والجنون. كانت إبيجل تعمل في بيت الدكتور جون بروكتور وزوجته الجميلة اليزابيث، وهناك اندفعت إلي الرجل بكل أهوائها، اقتربت، منه شاغبته راوغته، كشفت عن سحر رغباتها الوحشية، وشهدت حظيرة الماشية لحظة سقوطهما المخيف، حين رقدا معاً في النار، التي ظلت مشتعلة في قلب الفتاة وجسدها. أسرار الظلام لم تمض اللحظات في هدوء، واختار الليل أن يكشف أسرار الظلام، فقد رأت الزوجة كل ما حدث، فطردت الفتاة من بيتها، وظلت صامتة، لا تتحدث عن أحزانها ولا عن خطيئة زوجها، الذي أدرك معني اندفاعه إلي السقوط وقرر أن يستعيد ذاته وكبرياءه، وهكذا تظل إبيجل مؤرقة بنيران ليلتها الفريدة، معذبة بهجر فارسها الأثير، لذلك يأتي قرارها الناري الحاسم بأن تنتقم من عائلة بروكتور، بل ومن القرية كلها. الرقص في ضوء الهرم لم تعد العاهرة المثيرة ترقص وحدها عارية في ضوء القمر، فقد جمعت حولها المراهقات الصغيرات، وذهبت إلي الغابة في الليل، خلعت ملابسها، واستدعت من أعماقها همسات العشق والجنس والمجون، رقصت بحرارة، وامتلكت طاقات الحرية، لتشاغب الليل والضوء ولهفة القلوب الصغيرة، وظلت تروي الحكايات والأساطير، لتقنع الصغيرات أن موجات السحر تحاصرها، تسيطر علي وعيها وجسدها، وتدفعها إلي هذه الأفعال الغريبة، وبذلك تنطلق الفتيات إلي الرقص الهستيري، ليعانق أجسادهن العارية سحر الحب وبريق الضوء. همسات القرية امتدت الهمسات إلي القرية، وتحولت إلي بركان محموم، واستطاعت العاهرة المثيرة أن تنسج أبعاد مؤامرة خطيرة، اشتبكت بها مع الدين والسياسة والعدالة، وأصبح تدخل الكنيسة والقضاء هو أمر حتمي تفرضه قوانين القرية المحكومة بالتسلط الشرس والقهر العنيد، فقد تصاعدت إشاعة إبيجل، وتحولت إلي اتهام صريح لنساء القرية بممارسة السحر، وهي جريمة عقوبتها الإعدام. تأخذنا هذه الأحداث إلي مسرحية ساحرات سالم، لمؤلفها الشهير آرثر ميللر، صاحب المكانة الخاصة في المسرح الأمريكي الحديث، وأحد رواد الطليعة في المسرح الغربي بشكل عام كتب العديد من التجارب الواقعية الخصبة، شهدتها مسارح برودواي في سيتنيات القرن العشرين، ولعل أهم مميزات ميللر هي مقدرته العارمة علي مزج الواقعية بالانطباعية والتعبيرية، والشعر والرمزية، في سياق تتحول فيه الحقائق الاجتماعية إلي شخصيات وعلاقات حية تمثل أهدافا وقيما في حد ذاتها، ويذكر أن مفهوم العدالة يمثل مرتكزا أساسيا لفكر ميللر، حيث يزدوج المتهم والقاضي في شخصياته، ويظل تحقيق الكيان الإنساني المكتمل هو جوهر مسرح آرثر ميللر، حتي وإن كان الموت هو نتيجة الصراع من أجل هذه الغاية، مما يؤكد علي صلابة الإرادة الإنسانية. وعي جاد وتناول المخرج الفنان«جمال ياقوت»، هذا النص الثري وقدمه علي مسرح الطليعة، وجاء اختياره كاشفا عن وعي حاد بأبعاد اللحظة التاريخية الحالية، التي تشهد فيضامن التناقضات والجدل حول مفاهيم السياسة والحرية والعدالة، غياب ثقافة الحوار، صعود الرؤي الأحادية المغلقة، وسقوط الوعي الثوري الرحب الباحث عن إنسانية الإنسان، وفي هذا السياق تأتي المسرحية كقراءة جمالية شديدة العمق تدين الردة، والتغييب والتزييف، وتعلن العصيان علي الفتن والمؤامرات، والقهر الفكري، وتفتح المسار أمام الحرية وامتلاك الذات، وتؤكد علي أن إرادة البشر هي القوة واليقين والهدف والمسار. قطعة فنية جاء العرض المسرحي كقطعة فنية رفيعة المستوي تكشف عن بصمات المخرج جمال ياقوت الذي بعث حالة مبهرة من الجمال الأخاذ، المنسوج من الدهشة والوعي والأحلام، فانطلق إلي عالم أسطوري غامض، مسكون بالعنف والبراءة والشراسة، وتفجرت إيقاعات الجدل والتساؤلات حول سحر الفن وثورة الأعماق التي تبلورت عبر لغة مغايرة، اتجهت نحو الرشاقة والتكثيف وخصوبة الدلالات. تدور الأحداث في إطار تشكيل سينوغرافي مسكون بغموض السحر وسطوة القوة وخطايا الإنسان، الخلفية الزرقاء تفتح الآفاق لتعانق نجوم العشق وليالي الأشواق، الخطوط والأشكال والعرائس تنادي الشياطين والمراهقات، والأشجار والأعمدة تكاد ترقص مع الموسيقي الأسطورية، التي تأخذنا إلي الأسرار والعذابات، حيث إبيجل العاهرة التي اعتادت أن ترقص عارية، ومعها الفتيات، وتشهد الغابة البعيدة طقوسا هيستيرية متمردة، يبعثها يقين عارم بأن نساء القرية الساحرات، يتعاملن مع الشيطان، في هذا السياق يتضافر الضوء مع الموسيقي والألوان، لتبعث خطوط الحركة الاستعراضية موجات متصاعدة من الفن والجدل والعشق والحياة، الغموض يمتد بشراشة عبر العيون الجميلة والنظرات الجريئة والأجساد الثائرة، ويظل الضوء الدرامي يشاغب الألوان ويمنحها عمقاً ومراوغات تتوازي مع الكويولوجرافيا الكاشفة عن التوتر والشبق والمجون. كانت المواجهة بين السيد «باريس» وابنة أخته «ابيجل»، ساخنة ومثيرة، فهو يعلم الحقيقة الكاملة، رآها ترقص عارية في الغابة، أخبرها أن فضائحها سوف تتسبب في طرده من وظيفته الحساسة، وحين دقت أجراس الكنيسة، ارتعدت طفلته الصغيرة واندفعت ابيجل لتؤكد أنها مريضة بسبب الساحرة المجهولة التي تقتل الأطفال، وأكدت له أن الناس في القرية يطالبونه أن يعلن الحرب علي الشيطان. في هذا الإطار يأخذنا الضوء إلي الدكتور جون بروكتور، الذي يأتي ليعالج الصغيرة المريضة، خطوط الحركة ولغة الجسد تكشف أبعاد علاقة آثمة، والحوار الرشيق يأخذنا إلي حرارة عشق ابيجل للدكتور، وكراهيتها لزوجته اليزابيث، ويظل الحب والجنس يتقاطعان مع السحر والشياطين، وندرك أن العاهرة الجميلة تمتلك دهاء مخيفا، وإصرارا عنيدا علي الثأر والانتقام. في حضرة القس في حضر القسيس الذي جاء ليعالج الطفلة المسوسة، في حضرته تحولت ابيجل العاهرة إلي فتاة بريئة حائرة، اعترفت له أنها تخلع ملابسها وترقص في ضوء القمر، وأنها شربت الدم والحساء وحضرت جلسات استحضار الأرواح، لكنها لا تملك السيطرة علي أفعالها ولا تستطيع المقاومة، وعبرخصوصية الأداء وخطوط الحركة الدائرية تتفجر ايقاعات الزيف والعبث والتآمر، وتؤكد ابيجل أن هناك نساء في القرية يمارسن السحر، وتطلب من القسيس أن ينقذ روحها، فيعيدها امرأة مسيحية فاضلة تحب الله والضوء. تمتد ايقاعات الحركة والضوء، وتتقاطع مع بحث القسيس عن الحقيقة، وتتوالي اعترافات المراهقات لتؤكد الاتهامات التي تصل بالأمر إلي المحكمة، ونصبح أمام دلالات خطيرة لطبيعة الفتن ووقائع الإرهاب، وفي هذا السياق تأخذنا الانتقالات السريعة إلي بيت بروكتور، الذي يعلم من زوجته اليزابيث أن السلطات قضت علي أربعين امرأة بريئة سيتم إعدامهن شنقا بسبب الاتهامات الباطلة، وعبر اندفاع تيار المشاعر وايقاعات لغة الجسد، ترجوه أن يعترف أمام المحكمة بحقيقة ليلته الساخنة مع ابيجل حين ارتكبا جريمة الزني، فقد يدرك القضاة أنها عاهرة.. آثمة وساقطة. تتصاعد الأحداث بقوة، وتتضافر لغة الإخراج الرشيقة مع المفارقات الساخنة، ويعايش المتلقي أبعاد اللحظة الفارقة حين يتم القبض علي اليزابيث بعد أن اتهمتها العاهرة، لتنتقم منها ومن ليالي الهجر ونيران الجسد، وأمام الدم المهدر، والموت القادم يعيش القسيس أحزان معادلته الصعبة بين الواقع والحقيقة، الجهل والزيف، العدالة الغائبة والسلطات المتورطة، والبشر المعذبين دوما بالقهر والاستبداد. تأخذنا جماليات الإخراج إلي مشهد رفيع المستوي مسكون بالشعر والفلسفة والنقد والخيال، يحيلنا إلي عذابات ديوجين الأعمي عندما أمسك بالفانوس ليبحث عن الحقيقة، المفارقة العارمة تمتد إلي جون بروكتور، الذي ذهب إلي العاهرة يواجهها بطعنتها الغادرة لزوجته، يشاغبها بوقائع الرغبة والنيران والجسد، يرجوها أن تتراجع عن اتهاماتها الباطلة، يهددها بالاعتراف بالزني، ليكشف الحقيقة وتسقط الأقنعة، لكن الساقطة الآثمة تكاد تدفعه إلي حافة الجنون والهاوية. وعبر الضوء والموسيقي والتراتيل المتميزة، نري القاضي وهو فخور بأحكام الإعدام القاسية، بينما يحاول بروكتور أن يقدم له التماسا يطالب فيه ببراءة كل ساحرات سالم المعذبات. حرارة الفكر تمتد اللحظات لتكشف عن حرارة الفكر وبريق الجمال، ويعايش المتلقي صياغة جمالية متوترة لمفاهيم صعود الشر وسقوط العدالة والخير، حيث تتقاطع عذابات ضمير القسيس مع شراسة القاضي وهو يستجوب المراهقات للمرة الثانية فيلمس التردد والتناقضات، لكن ابيجل ويليامز تحسم الموقف بإصرارها علي أقوالها وتنجح بدهائها الآثم في تدبير مجزرة لشنق البريئات، حيث يصدقها القاضي ويستمر في إعدام نساء القرية. تمتد إيقاعات الحس المأساوي وتتصاعد موجات الشاعرية الدرامية الصادمة، عندما يعترف الزوج بروكتور للقاضي بأن ابيجل عاهرة.. عرفها في حظيرة الماشية، آخر أيام عملها عنده، وأنه معذب منذ ذلك اليوم، وعبر تقاطعات الضوء الأزرق مع تيار النقاء والكبرياء، تنفي إليزابيث تهمة الزنا عن زوجها وعن العاهرة التي تدفعها خطوط الحركة إلي الخارج، بينما يظل الدكتور مستغرقا في صراعه اليائس مع العدالة الغائبة، حيث يتهمه القاضي بأنه أيضا علي علاقة بالشيطان، ويصدر الأمر بالقبض عليه.. وهكذا تدفعه ذروة الاستبداد إلي مقدمة المسرح ليروي عن عذاباته وعن قهرنا، قائلا تعلمون في قرارة نفوسكم مقدار ما أنتم فيه من كذب وبهتان، ضعفنا عن إعلاء كلمة الحق، وجبُنا عن إظهار ما يعيش فيه الناس من جهل.. ليلعن الله جنسنا الجبان وليدخلنا جهنم.. فلقد نكستم علم الله.. ورفعتم شأن عاهرة..». تأخذنا الموسيقي الساحرة إلي تقاطعات الضوء والظلام، ونري المشنقة التي تنتظر بروكتور وزوجته وغيرهما، إيقاعات النهاية ترتبط بعذابات سقوط الأقنعة، فقد هربت ابيجل وصديقتها واتضحت بشاعة الحقيقة الغائبة، فالاتهامات باطلة، وابيجل عاهرة وأحكام القاضي ظالمة، ورغم ذلك فهو لن يتراجع عن الإعدام، وعن إراقه الدماء، وعليه أن يبحث عن شرعية بقائه حتي وإن كانت مزيفة هكذا أدرك الناس أن القاضي يثير الفتن باسم القانون، وشهدت أعماقهم ميلادا صاخبا للثورة علي الطغيان والاستبداد، وفي نفس السياق يتفجر الجنون الوحشي في كيان القاضي الذي أدرك أن الدكتور بروكتور هو هدفه الذهبي. إبهاء- وثراء فني تدفعنا جماليات الإخراج إلي قلب عالم إبداعي شديد الإبهار والثراء، حيث يتضافر الضوء مع الشجن والحنين، ونعايش المواجهة الساخنة بين السجين البريء وقاضيه الجلاد، التوترات الثائرة تضعنا أمام مواجهة موازية بين إليزابيث التي تنتظر تنفيذ حكم الإعدام وبين القسيس الذي يرجوها أن تقنع زوجها بالاعتراف إنقاذا لحياته، وعبر هذه المواجهات ينسحب القاضي والقسيس ويبقي الضوء ليعانق اللحظات الفارقة في حياة الزوجين، حيث جاء لقاؤهما كعزف علي أوتار الروح، الموسيقي وخطوط الحركة تدفع الرجل إلي حبيبته النقية.. يلامس بطنها وينتفض لنبض طفلهما القادم، الدموع تأخذه إلي عينها، والحب يمنحه يقينا عارما وقرارا حاسما، فهو لن يشارك في الكذبة التي يريدونها، ولن يدنس إنسانيته، وحين سألها عن نفسه ولم تجب ظل ينادي الله ليسأله من هو جون بروكتور؟ ويصبح أمام صراع مخيف بين الموت والحياة والوجود والعدم. وفي هذا السياق يدخل القسيس والضباط والقاضي الذي يطلب منه اعترافا أنه دخل حزب الشيطان ورآه.. فيعترف بروكتور تحت تأثير الضغوط الوحشية، وتبقي إليزابيث صامتة، وشاهدة علي عذاباته، وعبر التضافر والتداخل والتوازي، ودهشة الفن الجميل يطلب منه القاضي أن يوقع علي اعترافه الكاذب، فيرفض بقوة وتندفع الحالة المسرحية إلي ذروتها المتوهجة، فإما المشنقة والموت أو الاعتراف والتوقيع، لكن الرجل يجري إلي زوجته ليقبلها ويعانقها، ثم يمزق اعترافه في وجه الدنيا، ويعود إليها ليمنحها أنفاسها النبيلة وقبلاته الأخيرة، فقد اختار الموت، دفاعا عن إنسانيته، وانتصارا لإرادته، لذلك كانت سعادته غامرة عندما اقتادوه إلي المشنقة، وغاب الضوء ليمتد الظلام المسكون بهمس الموسيقي الثائرة. انفعالات عارمة شارك في هذه التجربة فريق عمل متميز وكان نجمها المشع هو المخرج جمال ياقوت، أما أبطالها من الممثلين فقد تميز منهم الواعدة سمر علام، والجميلة رفيف حمدي، أما الفنان رامي الطنباري فقد لعب دورا مركبا بذل فيه مجهودا عنيفا، لكن انفعالاته العارمة كانت خارج حدود السيطرة. كما شارك في المسرحية أيضا محمد العزايزي، حسن نوح، لبني عبدالعزيز، محمد بدوي، لينا جميل، نهلة محمود، رشا سامي، سميحة عبدالهادي، عصام مصطفي، محمد إبراهيم، أشرف صالح، مازن المونتي والطفلة أمنية العربي. كانت الرؤية التشكيلية للفنان الكبير صبحي السيد والاستعراضات الرشيقة لعاطف عوض، والموسيقي المدهشة لإيهاب قنديل، وكانت الترجمة لعبدالمنعم الحفني.