المودوفار ومن غيره ينعت بهدة الصفة؟ فهو عن حق مخرج إسبانيا المشاغب الذي دائما ماتحمل أفلامه الكثير من الجدل والحيرة والتساؤل عن مغزي الحياة. الجلد الذي أسكنه هو أحد الافلام التي تعرض الآن في لندن بعد عرضه في مهرجان كان السينمائي؛ وكالعادة يثير الفيلم الجدل حول موضوعه المأخوذ عن رواية للكاتب الفرنسي الأصل تيري جونكويت، تتشابه بشكل ما مع الرواية التي تناولت شخصية فرنكنشتاين المعروفة، والتي تدور حول الجراح الشهير الذي يبدع شخصية مسخ تدمر كل من حولها. المودوفار، الذي قدم من قبل فيلم «تكلم معها»، وهو فيلم يختلف بشكل ما مع أسلوبه، الا أن بصمته في استخدام الجنس بشكل زاعق كانت موجودة بشدة. يتناول الفيلم قصة الحب الرائعة بين البطل الممرض والحبيبة التي فقدت وعيها في حادث، لكنه يعيش معها ويتحدث إليها كل يوم. وتأتي ذروة الحدث حينما تستعيد الفتاة وعيها بعد أن مارس الممرض الحب معها، بينما يدفع هو الثمن بفقد وظيفته وحريته لإساءته استخدام وظيفته. تعليم سييء ومن أهم ما قدم المودوفار من أفلام تعليم سييء، و«فولفر»، و«قيدني من فوق ومن تحت»، والفيلمان الأول والثاني بهما الكثير من سيرته الذاتية، ومن أفلامه المهمة أيضا نساء علي شفا الانهيار العصبي، وها هو يقدم لنا أخيرا فيلم «الجلد الذي أعيش فيه» الذي يعود فيه الي أسلوبه المثير في كسر تابوه الجنس والاستغراق في مشاهد القتل والدماء. بطل الفيلم هنا هو الدكتور روبرت (أنطونيو باندارس)، وهو جراح شهير، نراه في المشهد الأول من الفيلم يدخل الي منزله المترامي الأطراف المنعزل، ويراقب فتاة عارية تماما من خلال شاشة زجاجية تتيح له رؤية الفتاة دون أن تراه، ونعتقد أنها مريضة لديه حين يدخل معمله لاختبار رقائق جلدية يضعها علي رقبتها. تنقل لنا الكاميرا مدي عذابها ومعاناتها، ثم تنقلنا الكاميرا إلي إحدي محاضراته عن اكتشاف نوع جديد من الجلد الرقيق يستطيع من خلاله علاج أسوأ أنواع التشوهات التي تنتج عن الحروق. هو إذا بروفسير همه الأول إسعاد البشرية. هل هذه حقيقة؟ إذا كانت هذه حقيقة فلن يكون هذا فيلما لألمودوفار الذي أدمن الغموض والإثارة في أفلامه. الواقع والحلم يلعب المودوفار في هذا الفيلم علي الثنائيات: الحلم- الواقع، والبروفسير-القاتل، والرجل-الأنثي، وأخيرا الحب_الانتقام. كل من هذه الثنائيات متلازمان متضادان. من خلال الفلاش باك الذي كثيرا ما يعود المخرج إليه -وإن كان بذكاء وبواقع تفرضه الضرورة- نعرف أن الدكتور روبرتس وزوجته التي أحبها كثيرا كانا يعيشان حياتهما في الاستغراق في الاحلام. لكن الزوجة وجدت سعادتها في الأحلام؛ فقررت الهروب إليها حتي النهاية بالانتحار وقطع الخيط الرفيع بين الحلم والواقع. البروفسير-القاتل الثنائية الثانية التي يقدمها لنا المخرج تعود بنا إلي الزمن الحالي، إلي الأنثي التي اكتمل علاجها، وأصبحت بارعة الجمال، يشاهدها من نفس الشاشة الزجاجية رجل، هو ابن مدبرة المنزل الهارب من العدالة بعد قتله شرطيا. يحاول ذلك الرجل الوصول الي الفتاة فتمنعه الأم، فيقيدها بشكل عنيف، ويصل إلي الفتاة ويغتصبها. يصل دكتور روبرتس ويري مايحدث من خلال الشاشة، فيقتل الرجل، علي الرغم من أن مدبرة المنزل أخبرته بحقيقة أنه أخوه وأنها والدته الحقيقية لكن عائلة ثرية تبنته. من هي هذه الأنثي التي قتل البروفيسور أخاه من أجلها؟ يعود بنا فلاش باك إلي الماضي، لنعلم أنه كان لديه ابنة أحبها كل الحب، وحاول أن يخرجها من عزلتها وحزنها بعد انتحار الأم، فأخذها إلي حفل راقص، وهناك استدرجها أحد الشبان واغتصبها، مما سبب لها صدمة لم تستطع تحملها؛ فانتحرت. لم يتحمل الأب الوقوف صامتا؛ فقرر الانتقام لابنته باختطاف من اغتصبها، ثم إجراء عملية لتحويله إلي فتاة، وتغيير جلده بالكامل ليصبح جلد فتاة ناعمة الملمس، كي يغتصب هو هذه الفتاة. لكننا نراه وقد قتل أخاه دفاعا عنها. لقد تحولت مشاعر الانتقام إلي حب جارف لها. وفي لقطة معبرة نراه يحتضنها وينام في هدوء. الحب-الانتقام يقرر دكتور روبرتس إطلاق سراح الفتاة، والإغداق عليها بشراء أفخر الملابس النسائية لها. إنها صنيعته، يري فيها إبداعه في عمله. لقد خلق من رجل فتاة مكتملة الانوثة. لكن الفتاة لاتنسي ما فعله بها رغم حبه الشديد لها؛ فتقتله هو وأمه، وتعود الي منزلها لتكشف عن شخصيتها لأمها، التي لاتصدق ما حدث، وتنظر اليها في شك. هنا يطرح المودوفار تشككه في العالم الذي يحيط به. من نحن؟ ماهي حقيقة العالم الواقع؟ هل هو واقع فعلا؟ والخيال، هل هو حقا خيال؟ هل مانحن عليه هو حقيقتنا أم أن ما بداخلنا هو الحقيقة؟ ينتهي الفيلم وتبقي الإجابة حائرة. وعلي الرغم من أن الفيلم قليل الحوار، والكاميرا شبه محصورة داخل جدران المنزل الكبير، فإن المودوفار استطاع توظيف حركة الكاميرا عن طريق الكلوز أب بشكل رائع استعاض به عن الحوار، وعرف كيف يوظف أداء ممثليه رغم قلتهم بشكل جيد، ساعدته علي ذلك إضاءة تميل الي الغموض في خفوتها أحيانا وسطوعها أحيانا أخري، وديكور شديد البساطة في أجزاء من الفيلم وشديد الفخامة في أجزاء أخري. ألم نقل إنه فيلم التناقضات؟!