لا أتعجب عندما لا أجد أي سيناريو لفيلم أو مسلسل أو نص مسرحي يتناول ثورة يناير من أي وجهة نظر حتي الآن، ذلك لأن الثورة لم تنته بعد، فقد شارف عام 2011 علي الانتهاء ومازال الشعب ثائراً ولا يمكن لأحد مهما كان علمه أو عبقريته أن يتنبأ بما ستؤول اليه الأوضاع في مصر بعد ثورة يناير، ولذلك فمن الطبيعي أن يترقب كبار الكتّاب لما هو آت لكي يناقشوه ويحللوه من خلال عمل درامي. ولكن ماينطبق علي فنون الدراما لا ينطبق علي فنون الموسيقي وتحديدا الأغنية، ذلك لأن الأغنية دائما ماتولد من رحم الحدث وتظل تواكبه لحظة ً بلحظة، فهي أسرع أنواع الفنون تعبيرا عن الأحداث اللحظية وأكثرها سرعة في الانتشار حتي قبل أن يعرف العالم الوسائل التكنولوجية الحديثة التي تساهم بشكل فعال في انتشار الأغنيات. فقد كانت الأغنيات الوطنية تنطلق من المسرحيات الغنائية في بدايات القرن العشرين وحتي الأربعينات منه تقريبا، لتعبئ الشعب ضد مظالم الاحتلال البريطاني، ثم تتابع مساهمة الإذاعة المصرية في الثلاثينات والتليفزيون في الستينات، ثم الكمبيوتر والشبكات العنكبوتية، وأخيرا الهواتف المحمولة وغيرها في نشر الأغنيات الوطنية بأنواعها . وكما كان لكل جيل ممن تغنوا بالأغنية الوطنية وسائله المشروعة في نشر تلك الأغنيات، كان لكل منهم أيضا بصمته الخاصة في صناعة الأغنية الوطنية، فالفنان كائن بشري يتأثر بطبيعة البيئة المحيطة به قبل أن يؤثر فيها من خلال ماينتجه من فن، وهذا ما يجعل لكل جيل بصمته الخاصة مهما كانت سلبياتها في إنتاج الأغنية الوطنية، ومحاولة قفز شيوخ الأجيال السابقة في قارب جيل الشباب لتولي قيادتها ماهي الا محاولة بائسة من غريق يحاول التعلق بقشة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. إبراء ذمة سياسية كان من اللافت للنظر في الأسابيع القليلة السابقة ظهور مشروع تبنته وزارة الإعلام أطلقت عليه الأغنية الوطنية، يهدف الي إنتاج مجموعة من الأغنيات الوطنية بميزانية تقدر بمائة وأربعين ألف جنيه مصري كما ورد علي لسان الملحن حلمي بكر رئيس اللجنة العليا للمشروع، أما بقية أعضائها فهم من الملحنين محمد سلطان، صلاح الشرنوبي، محمد علي سليمان، عمار الشريعي، ومن الشعراء مصطفي الضمراني، سيد حجاب، فايز حجاب، جمال بخيت، عماد حسن، بهاء الدين محمد، الي جانب الإعلامي وجدي الحكيم. والحقيقة أن المتأمل لهذه الأسماء يندهش لعدة أسباب أولها أن أصغر أعضاء تلك اللجنة اقترب عمره من الستين، أما أغلبية أعضائها فقد تجاوز السبعين من أعمارهم بسنوات وهذا يدل علي العنصرية والانحياز لأجيال شيوخ صناع الأغنية دون أجيال الشباب فالثورة صنعها الشباب ويحاول السيطرة عليها مجموعة من الشيوخ !. السبب الثاني هو أن معظم أعضاء هذه اللجنة شاركوا في تمجيد الرؤساء السابقين من خلال الأوبريتات الغنائية التي كانت ُتقدم في الاحتفالات الوطنية التي كانت تمجد شخص لصفته بعيدا عن تمجيد الوطن، فهل أعضاء هذه اللجنة يقدمون الآن إبراء ذمة سياسية من خلال هذا المشروع المفتكس ؟!. السبب الثالث يكمن في الهدف المُعلن للمشروع وهوالنهوض بالأغنية الوطنية طبقا لمعايير محددة العناصر هي الكلمة واللحن والتوزيع، وهذا علميا يتناقض مع عملية الإبداع كما تم تعريفها في علم النفس، فالعملية الإبداعية غير خاضعة لمعايير ثابتة وإنما هي وليدة الحالة الانفعالية للفنان المبدع في لحظة محددة ، واذا تم قولبة الحالة الإبداعية ستتحول من حالة إبداعية الي حالة ميكانيكية تفتقد عناصر المصداقية التي تقربها من الجمهور. والثلاثة أسباب السابقة تشير جميعها الي أن هذا المشروع أيا كان اسمه مجرد ادعاء ومحاولة للتواجد بين أجيال الشباب أو من شاركوا في صناعة الأغنية الوطنية في ثورة يناير ولاقوا النجاح الجماهيري. وقد أفصح أعضاء لجنة المشروع عن أسماء مجموعة من المطربين والمطربات ممن سيشاركون في تلك الأغنيات ومعظمهم مجموعة ممن شاركوا في أوبريتات وحفلات تمجيد الحكام سواء في مصر أو في دول أخري، و بالرغم من أن هذه الأصوات رائعة ومتمكنة، الا أن عددا كبيرا منهم ومنهن ليس لهم قاعدة جماهيرية، إما لقصور في قبولهم عند الجمهور، أو لابتعاد بعضهن عن الغناء وتحجبهن لفترة طويلة، أو لكبر سنهم، وهذا يجعلني أتساءل هل من ضمن أهداف هذا المشروع تشغيل المطربين والمطربات المتقاعدين والمتقاعدات ؟! في واقع الأمر نحن لا ندين أي فنان حاول الاقتراب من السلطة في أي من العهود الرئاسية السابقة في مصر، فأي فنان يحتاج الرعاية أو الآمان من السلطة الحاكمة، خاصة وأن منهم فنانين كبار في مجالهم لهم بصمتهم في تاريخ الموسيقي والغناء، ولكن هناك عدة تساؤلات تحوم حول المشاركين في هذا المشروع وهي : لماذا انتظروا تسعة أشهر ليبدأ في التفكيرلإنتاج أغنيات وطنية ولم يواكبوا الحدث أولا بأول ؟ وهل علي الفنان أن ينتظر وزارة أو جهة حكومية ما تحرك وطنيته ليبدأوا في الإنتاج ؟ وأين عنصر الشباب من الشعراء والملحنين والموزعيين من هذه اللجنة؟ بالرغم من أن جيل الشباب ممن يعملون بالحقل الموسيقي يحسب لهم أنهم واكبوا أحداث الثورة أولا بأول دون دافع من جهة حكومية معتمدين في ذلك علي جهودهم المادية والفنية الذاتية حتي وإن كان منتجهم الفني مجرد إرهاصات كما وصفها أحد شيوخ الشعراء ممن يشاركون في مشروع النهوض بالأغنية الوطنية. العلة والمعلول في الأغنية الوطنية عندما يتحدث البعض عن ضعف الأغنية الوطنية التي قدمت في ثورة 25 يناير مقارنة بالأغنيات الوطنية التي ُأنتجت في فترات مختلفة من القرن العشرين لا يذكرون العِلة وإنما يكتفون بالحديث عن المعلول وهي الأغنية الوطنية، في حين أن الوصول الي أسباب العِلة هو الطريق الوحيد للوصول الي ترياق يعالج هذه العِلة. فلم نجد حتي الآن من بحث في الأسباب التي أدت الي تدهور صناعة الأغنية الوطنية، فالأغنية بشكل عام تتكون من عدة عناصرهي : الكلمة، واللحن، والتوزيع الموسيقي، وأخيرا الغناء. وبالنظر الي كل عنصر منهم علي حده نجد الآتي : أن كلمات الأغنيات الوطنية التي ظهرت في ثورة يناير ماهي الا انعكاس لانهيار مؤسسات التعليم في مصر، فجيل ثورة يناير ينقسم الي نوعين من الشباب أولهما نتاج مجانية التعليم الذي تدنت أوضاعه في الأربعين عاما الماضية فأصبحنا نجد خريجي الجامعات ممن لا يجيدون كتابة وقراءة اللغة العربية، وثانيهما نتاج التعليم الخاص الأجنبي الذي ضمن أهدافه الرئيسية طمس اللغة العربية وجعل اللغة الأجنبية التي يدرس بها الطالب هي اللغة الأم، وناتج الحالتين جهل أو أمية باللغة الأم في مصر (اللغة العربية)، فمن الطبيعي أن تكون كلمات الأغنيات الوطنية ضعيفة المعني، مكسورة الإيقاع، متنوعة القوافي لضعف القاموس اللغوي عند ناظم الكلمات. العنصر الثاني وهو اللحن، فبالرغم من تواجد الموهوبين من جيل الشباب الا أن معظمهم انساق وراء النموذج الغربي في التلحين لسببين، أولا لأنه النموذج الأقرب لأصوات معظمهم المحدودة الإمكانات، ثانيا نتيجة للانفتاح الفضائي والتكنولوجي الذي كسر حدود الحواجز بين دول العالم العربي والغربي، وبما أن العالم الغربي له الصدارة بما يملكه من قوة اقتصادية وعلمية ومعنوية فقد أصبح النموذج الذي يري البعض أنه يجب أن ُيحتذي به. العنصر الثالث والرابع وهما التوزيع الموسيقي والأداء الغنائي، وكليهما تأثر بالتقنيات التكنولوجية الحديثة في برامج الصوت والتسجيل، فبرامج التوزيع الموسيقي بأكملها مصنعة في دول غربية تحمل الإيقاعات والآلات الموسيقية ذات الطابع الغربي في المقام الأول وأقل القليل منها للشرقي إن وجد، مما يجبر الموزع علي تقديم موسيقاه بمعايير الغرب وليس بمعايير البيئة التي ينتمي اليها. أما الأداء الغنائي فأصبح أبسط هذه العناصر نتيجة لتطور أجهزة وتقنيات التسجيل الصوتي الجبارة فأضعف الأصوات وأكثرها نشاذا يمكن معالجتها بتقنيات التسجيل الصوتي الحديث، ولذلك أصبح معظم الأداء الغنائي للأغنيات الوطنية إلي أكثر منه إنساني نتيجة لتدخل تكنولوجيا ضبط الصوت في أغلبه، وكثيرا مايكون ذلك ضد الأصوات القادرة علي الغناء الجيد. وإذا أردنا إيجاد الحلول الجذرية لإنتاج الأغنيات الوطنية الصادقة التي تلقي النجاح والاستمرار عبر الزمن كما قدمها كبار الشعراء مثل أحمد شوقي، وأحمد رامي، وإبراهيم ناجي، ومرسي جميل عزيز، وكامل الشناوي.. وغيرهم، فيجب أن نبدأ بالتعليم والتثقيف وإحياء اللغة العربية واستعادة مكانتها في مصر، وكما لحنها كبار الملحنين مثل السيد درويش، محمد عبدالوهاب، رياض السنباطي، محمد فوزي، فريد الأطرش، كمال الطويل، بليغ حمدي، محمد الموجي.. وغيرهم، يجب أن نعود لجذورنا المصرية العربية في أسلوب التلحين مع مواكبة العصر دون افتقاد الهوية . وكما غناها كبار المطربين والمطربات مثل أم كلثوم، ليلي مراد، شادية، عبدالحليم ----- وغيرهم، يجب أن يقنن استخدام تقنيات ضبط الأصوات البشرية وتعديلها في أضيق الحدود، ومن ناحية أخري يجب أن تمنح عضويات نقابة المهن الموسيقية للموهوبين الحقيقيين فقط لتقليص دور مدعي الفن والموهبة .