تساؤلات كثيرة تفرض نفسها علي العقل المرِاقب لحالة الفراغ من الضوابط والمعايير التي تعيشها مصر، وحالة رغبات المشاهدين ! وإلي أي حال ستفضي هذه الحالة ؟ وبماذا تنذر، وإلي أي مصير تؤول ؟! فهناك خشية كبيرة من التمرد ، حينما نصل إلي مرحلة إعلان الضوابط وإلتزام القوانين، ونجد البعض يتمرد علي هذه الحالة ويركن إلي الصدام والدم، وإلي استمرار حالة العبثية التي نعيشها من الآن.... وكأن مفهوم الحرية هو ال «لادولة والعبثية» وهذه التيارية والحزبية التي نلمسها ونعاني من فعلتها في تمزيق المجتمع، وغليان القاع الذي أصبحنا نسمع أزيزه وخاصة من جانب الفوضويين والأصوليين بكل اتجاهاتهم الدينية واللادينية ..... تشابهت مرحلة مابعد ثورة 25 يناير مع مرحلة مابعد ثورة 23يوليو مع فارق ما أفرزته الأخيرة عن الأولي .. فثورة الستينات أفرزت العديد من أحزاب اليسار الإسلامي والماركسي. وثورة مصر الأخيرة أزادت من رصيد الأحزاب اليمينية، بل وأحزاب أقصي اليمين المتمثلة في الأحزاب التي بزغت من تيارات دينية أصولية سلفية. فظهرت أول هذه الأحزاب وهو "حزب النور" ، وتلاه بعد ذلك ميلاد ثلاثة أحزاب أخري ذات مرجعية سلفية، هي حزب الأصالة وهو الثاني في ترتيب الأحزاب السلفية، وحزب الفضيلة، وحزب الإصلاح المتمم لهذه الأحزاب الأربعة ذات المرجعية غير التقليدية في تاريخ الأحزاب المصرية. الأحزاب الدينية واللعبة السياسية .. المراقب لطبيعة تكوين هذه الأحزاب يدرك أنها في أزمة مع نفسها ... فبالأمس كانت تكفرُ بقواعد هذه اللعبة، وتُكفر معتنقيها .. وهذا ما مارسه التيار السلفي عبر رجاله وإعلامه وفتاويه التكفيرية تجاه الأحزاب السياسية بكل ألوانها بل حتي تجاه الجماعات الأصولية كالإخوان المسلمين، حتي أن كثيراً من مطبوعاتهم كانت تتناول أن هذه الأحزاب وبما فيها الجماعات ذات الوجه الأصولي والديني كالإخوان المسلمين ، بأنها تعد من الجماعات التي بُشرت بالنار في حديث تفترق أمتي .... وأنها وحدها هي الفرقة الناجية طالما رفضت فكرة التحزب. ففكرة الأحزاب لدي التيارات السلفية كانت تمثل نوعاً من الانقسام والخروج علي وحدة الأمة . من مظاهر هذه الأزمة أيضاً تكوين هذه الأحزاب علي يد مجموعة من الشباب المتعلم ورجال الأعمال، فبالأمس كان هؤلاء يلتفون في فكرة الجماعات السلفية، وفقط كان لهم أن يشاهدوا الموقف السياسي حولهم دون التجرؤ والمشاركة خشية غضبة تياراتهم أو مشايخهم أو قناعتهم بحرمة مشاركاتهم. وبعد الثورة وجد هذا الشباب المثقف نفسه في صورة المتفرج السلبي، وأيضاً وجد نفسه يستعين بآليات تعلن وجوده لا تتماشي مع آليات العصر الحديث. أيضاً أصحاب المال والقدرة داخل هذه الأحزاب، اكتشفوا أنهم عاشوا مرحلة من الانعزال فرضوها علي أنفسهم في مرحلة ما قبل الثورة، وتركوا غيرهم من تيارات أخري وحدها تلعب بورقة الاقتصاد الصانع للسياسة. وهنا نكتشف أن العناصر المكونة لهذه الأحزاب من شباب ورجال أعمال، لم يتميزوا عن غيرهم في باقي الأحزاب الأخري، فغايتهم من ممارسة الحياة الحزبية، هي صناعة كتل مضادة للتيارات المقابلة، والاستعانة بآلية الحياة الحزبية للمحافظة علي وجودهم وتوازنهم داخل المجتمع المصري. جماعات أم أحزاب ؟!! نقصد هنا الجماعات السلفية بمفهوم علم الاجتماع كظاهرة ملموسة وأشخاص يشكلون جماعات لها وجودها الفعلي والعملي. ففهم التركيبة الفكرية والايديولوجية والأساس الذي تشكلت عليه هذه الجماعات هو المفتاح لإجابة هذا التساؤل، فهذه الجماعات في نواة تكوينها هي جماعات دينية صرف وهي أبعد في مرجعيتها من مفهوم مرجعية الإسلام، فهي جماعات لها رؤيتها الخاصة تجاه فهم الدين والحياة ، فهي أشبه بالرؤية المذهبية التي أُفرزت نتيجة منهج بعينه. أيضاً هذه الجماعات عندما أفرزت الأحزاب ظلت تحافظ علي المفاهيم والمنطلقات التي كونت جماعاتها، في حين أن العمل داخل الحزب السياسي يختلف تماماً عن مفهوم العمل داخل الجماعة الواحدة. فبرامج هذه الأحزاب لايخلو من تأكيدهم علي قضية الشريعة الإسلامية وبناء الدولة وفق معايير الشريعة، وفهم الشريعة أيضاً وفق منهجية هذه الجماعات السلفية. وبالتالي هذه الجماعات قبلت المشاركة في العمل السياسي، ليكون لها كأداة تحقق أهدافها ومراميها العقائدية، بدلاً من أن تكون الحياة السياسية غايتها، وكأنها باستعانتها بالحياة السياسية قد غيرت استراتيجيتها في تحقيق مصالحها ووجودها. حدة الخطاب السلفي .. الجماعات السلفية في حد ذاتها ليست جماعة واحدة بل هي أكثر من جماعة واتجاه، ونتج هذا علي أساس خلافات بسيطة بينهم، ورغم ذلك لم ينصهروا فيما بينهم، فمبالنا بالانصهار مع الإتجاهات المخالفة أساساً معهم في الكثير من مبادئهم وإتجاتهم الفكرية والدينية. فأساساً طرح فكرة الحياة الحزبية من جانب الجماعات السلفية، يشعر المراقب لهم بحيرة شديدة في فهم تركيبتهم، فبعيداً عن الجماعات الجهادية، ومتابعة للجماعات السلفية في مصر علي اختلاف مسماها ... ونختزلها في بعض هذه الجماعات والتي منها جماعة أنصار السنة المحمدية، وجماعة دعوة الحق، وجماعة التبليغ والدعوة، والجمعية الشرعية. والفروق بين هذه الجماعات قائمة علي منهجية تكوين الجماعة ، والدور المنوط من تكوينها ، والاختلاف الأكبر يقوم علي فكرة التبعية المرجعية، وهو أشبه بفكرة اختلاف تبعية الكنيسة بين روما والإسكندرية، فهناك جماعات لها تبعية لمراجع دينية في الخارج متمثلة في سلفية السعودية، وهناك جماعات كانت نتاج رد فعل لهذه التبعية واتخذت تباعيتها من الداخل متمثلة في سلفية محلية أو مرجعية مصرية. ماحدث من خلاف داخل هذه الجماعات وأدي إلي حدوث تفاوت واختلاف بينها ... نفسه تكرر مع الحياة الحزبية الجديدة، فالأحزاب التي تلت حزب النور، والذي يمثل الحزب السلفي الأول، هي أساساً جاءت كرد فعل داخل الجماعات السلفية تجاه حزب النور، فنجدها تباينت فيما بينها في فهم مفهوم الشريعة والتعامل معها وإسناد مرجعية هذا الفهم إلي مرجعية خارجية ، وأخري داخلية. أيضاً مازال هناك الكثير من السلفيين يرفض فكرة الحياة الحزبية، مما يدفع الحزبيين أحياناً علي الظهور بشكل المواليين للجماعة خشية فقد دعمهم ومساندتهم داخل الشارع المصري. بهذا نجد أن فكرة انصهار هذه الأحزاب في الحياة السياسة مستبعدة من واقعهم العملي حتي الآن، فالشعارات الغريبة التي تقابلنا ك حزب النور طريقك إلي الجنة، واستخدام المنابر الدينية والدعوية لتوجيه الناس والشباب تجاه دعم هذه الأحزاب كأنها تعبر عن حزب الله والبقية هي حزب الشيطان. كل هذا يرسم صورة قاتمة. فبالأمس نظر بعض العلماء والمراقبون لتكوين المجتمع المصري علي أن السلفية حالة طارئة أو ظاهرة عارضة، ثقة منهم بالموروث الفكري والفقهي للإسلام القادر علي معالجة رؤيتهم في فهم الدين، وبساطة واعتدال الشخصية المصرية في التعامل مع عقائدها وطقوسها. غير أنهم غاب عنهم المدي المتواضع والبسيط لفهم عامة المصريين لدينهم ومدي استيلاء حالة الجهل علي القاعدة العريضة من ناحية استيعابها لمضامين الدين وأبعاده، وهذا هو مدخل المنهج السلفي في ملء عقولهم والسيطرة علي تفكيرهم ونظرتهم تجاه الدين والحياة. وهذا نفسه هو المنهج الذي يستخدمونه في الدعوة لأحزابهم السياسية، وورقتهم الأربح هي خلط دعوتهم الحزبية بمفاهيم حزب الله وحزب الشيطان والاتكاء علي الصورة الظاهرية التي يقدمون بها أنفسهم للناس، وهذا الأمر هو نفس ما أستخدموه في دعواتهم الدينية الأولي. خطورة عدم الانصهار .. لا يمكن التأكيد علي أن الأحزاب السلفية مارست حياة سياسة حتي الآن، فخبرتها محدثة، ولم تظهر لها مواقف أو رؤي غير تقليدية تعبر علي الأقل عن تساويها مع باقي الأحزاب ذات التاريخ السياسي النضالي إن لم نطالبها بالتميز. وهذه الأحزاب إن لم تنخلع من مفهوم العباءة الدينية، ستكون لها عدة أدوار خطيرة داخل المجتمع ... منها أن المجتمع سيظل راقداً تحت مفاهيمها وهيمنتها علي أفكاره ، مما يعرضه لحالة من الانفصام في شخصيته، خاصة أنه يتعامل معها بفكرة الجوهر الأول والأصيل الذي يعبر عن النبع الصافي. إن هذه الأحزاب خرجت من جماعات سلفية دعوية وهي فقط تنتظر فتوي تكفيرية لتنقلب إلي الوجه التكفيري كما رأينا في جماعة التكفير والهجرة، وهذا الموقف قد يحدث بشكل محتمل وكبير ، علي الأقل من بعض اتجاهات هذه الأحزاب إن لم يحصلوا من الحياة الحزبية علي ما رنوا إليه من الوصول لسلطة أو الحصول علي شئ يمكنهم من تأكيد وجودهم داخل المجتمع المصري كالسيطرة علي المؤسسات الدينية علي أقل اعتبار. أيضاً هذه الأحزاب يجمعها فكرة الشريعة الإسلامية بمفهوم تقليدي في فهم بناء الدولة من خلال فكرة الخلافة الإسلامية، وهذه الصورة تقربهم من أحزاب عابرة للقارات بنفس هذه الأفكار كحزب التحرير الذي يرنو إلي إعادة الخلافة الإسلامية وينتشر في مناطق قريبة منا ك لبنان وفلسطين، ولحظتها ستصبح هذه الأحزاب أذرع داخلية لتحقيق مقاصد أحزاب خارجية كهذه، خاصة مع غياب الشعور وعدم وضوح مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة والولاء للوطن الخاص في أدبيات هذه الأحزاب. ناهينا عن مدي التفاوت في فهم الحياة والدولة لدي هذه الأحزاب والأحزاب المقابلة الأخري، مما يجعل الحياة السياسية داخل مصر لا تنقسم سياسياً فحسب، بل سياسياً واجتماعياُ كنموذج لبنان، وأيضاً هذه الجماعات والأحزاب لم تتعود علي الإنكماش والإنصهار، بل علي ذاتية الكيان والتفاوت عن المحيط، مما قد يدخلها في صراع مع محيطها، ويطفو الغليان من القاع إلي السطح، ولحظتها لايكون هناك أحد قادر علي حكم هذا المجتمع إلا عصا العسكر كما شاهدنا هذا في نموذج باكستان.