"شكرا".. هي عنوان واحدة من أنجح الحملات الإعلانية الضخمة لشركة محمول شهيرة هذه الأيام وتحمل عبارة جميلة «شكراً لكل واحد عمل حاجة كويسة..» فكرة الإعلان رائعة بصرف النظر عن مضمونه، ويدعوك هذا الإعلان إلي التفكير في هؤلاء الذين قاموا بأشياء جميلة وساعدوا الآخرين في إسعادهم. فكرت كثيراً في هذه الفكرة فوجدت أنه الأفضل أن نركز ونشكر المؤسسات التي تقدم خدمات لتسهيل عمل وإسعاد الآخرين، وفي نفس الوقت لا نركز علي الأفراد حتي لا يتكرر تعظيم هؤلاء الأفراد ويصنع هالة حولهم تصل بهم إلي مرحلة التقديس والفرعنة، ويكون الإعلان «شكراً لكل مؤسسة عملت حاجة كويسة وقامت بدورها في خدمة المجتمع المحيط بها». إذن ما المؤسسة التي يجب أن أشكرها، وبحكم تخصصي في الآثار وجدت العديد منها قد يستحق الشكر لكني فضلت أن أبدأ بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقيةبالقاهرة. ولماذا هذا الاختيار بالتحديد؟ لأنه باختصار لولا هذا الصرح العتيد لما استطاع عشرات الباحثين المصريين أن يحصلوا علي درجاتهم العلمية من رسائل الماجستير والدكتوراه وحتي درجة الأستاذية، وذلك علي الرغم من وجود الكثير من المؤسسات العاملة في حقل الآثار سواء من كليات ومعاهد مصرية أو معاهد أجنبية أخري. تاريخ المعهد يتبع المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة وزارة التعليم العالي والبحث، كما هو حال مدارس أثينا وروما ومدريد الفرنسية أو تلك الموجودة في الشرق الأقصي. يعكف المعهد، الذي تأسس في عام 1880، علي دراسة الحضارات التي توافدت في مصر منذ فترة ما قبل التاريخ حتي العصر الحديث. ويتم في المعهد ممارسة علوم الآثار والتاريخ والدراسات اللغوية. ويتوزع باحثوه الفرنسيون والمصريون، بصفة تقليدية، في قسمين، الأول مخصص "لدراسة المصريات القديمة ودراسة البرديات" والآخر مخصص "للدراسات القبطية والعربية والإسلامية". منذ نشأته، يعمل المعهد علي تطوير نشاط أثري مهم يغطي كل الأراضي المصرية (وادي النيل والدلتا والواحات والصحراء الشرقية والغربية وسيناء والبحر الأحمر والقاهرة). وهناك اليوم، ما يزيد علي عشرين موقعا أثريا يتولي المركز التنقيب فيها بالتعاون مع جامعيين وباحثين فرنسيين وأوروبيين ومصريين. يضم المعهد أيضاً حوالي ثلاثين برنامجا علميا يتناول الإشكاليات المرتبطة في أحيان كثيرة وبصفة مباشرة بالأعمال الميدانية. يضم المعهد اليوم، الذي أُنشئ بقصر المنيرة في عام 1907، العديد من المعامل والأقسام (الطوبوغرافيا والخزف والترميم وتحليل المواد والرسم والتصوير والحاسوب الآلي) يعمل فيها 150 باحثاً مصرياً وفرنسياً، يساهمون كلهم في تنفيذ مشروعات علمية، بدءًا من أعمال الحفر والتنقيب حتي نشر نتائج الأبحاث. يستقبل المعهد أيضاً سنوياً ما يقرب من 400 باحث وطالب دكتوراه يأتون للمشاركة في مختلف البرامج أو يعملون بأبحاث شخصية. وهناك مكتبة تضم 82 ألف مجلد في مجال المصريات والبرديات والدراسات الكلاسيكية والبيزنطية والقبطية والعربية توضع كلها في خدمة أبحاث المهنيين. وهناك أرشيف علمي يحتفظ بوثائق مستخرجة من مواقع عمل المعهد منذ عام 1972 . يحوي المعهد أيضاً منذ عام 2006 معمل تأريخ المقتنيات باستخدام تقنية الكاربون 14، يرد علي حاجيات الأثريين العاملين في مختلف المواقع المصرية وفي الدول المجاورة. وأخيراً، يملك المعهد الفرنسي للآثار الشرقية دار نشر لها قسم للمطبوعات ومطبعة وهو ينشر حوالي خمسة وعشرين كتاباً علمياً سنوياً، ومجلتين تصدران كل عام. بجانب المطبوعات الورقية التقليدية، يتواجد المعهد في مجال الطبعات الإلكترونية. ويسعي موقع الإنترنت التابع للمعهد، الذي تم تجديده مؤخراً www.ifao.egnet.net إلي أن يكون أداة إعلامية حقيقية واضعاً لنفسه هدف الرد علي تطلعات وأسئلة الباحثين والطلاب، ولكن أيضاً الجمهور العريض والصحفيين الراغبين في فهم سير عمل المعهد الفرنسي للآثار الشرقية وتاريخه. يعرض الموقع حقول العمل الأثري التي يعمل بها المعهد ويقدم أيضاً العديد من المصادر الوثائقية والرقمية : مطبوعات ومعطيات وكتالوج للمكتبة وخريطة مطبوعاته وبيان بموجودات الأرشيف وروابط علي شبكة الإنترنت. فأنشطة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية عديدة ومتنوعة حيث يعتبر المعهد نموذجا للدولة الفرنسية الحديثة من نشر العلم والمعرفة وأهم أنشطة المعهد التي تهدف في الأساس إلي خدمة الباحثين المصريين تتركز في النقاط التالية:- أولاً: المكتبة. يحتوي المعهد الفرنسي علي أكبر وأحدث مكتبة للآثار في مصر. تفتح المكتبة أبوابها للدارسين المصريين لفترة طويلة نسبياً إذا قورنت بالمكتبات الأخري سواء مكتبات المعاهد الأجنبية أو حتي كليات الآثار والآداب. تتيح المكتبة خدمات كثيرة أخري مثل إتاحة استخدام الانترنت والتصوير الفوتوغرافي والتصوير الضوئي، والنقطة الأهم هي المعاملة الطيبة والود الذي يقدمه القائمون علي المكتبة تجاه الباحثين المصريين بالإضافة إلي مساعدة الباحثين وتعليمهم طريقة البحث للوصول إلي الكتب العلمية في أقل وقت. ثانياً: الحفائر وورش العمل. يقوم المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بكثير من بعثات الحفائر في جميع أنحاء مصر وذلك بالاشتراك مع الجامعات الفرنسية، ولا تتأخر هذه البعثات في تدريب الدارسين المصريين إذ طلب منهم ذلك وبعد التدريب يمكن أن تستعين هذه البعثات ببعض المتدربين الجدد كأفراد أساسيين ضمن هذه البعثات، ويقوم المعهد بكثير من ورش العمل تهدف في الأساس إلي تدريب الباحثين المصريين علي منهجية البحث العلمي في الآثار سواء كانت آثارا مصرية قديمة أو إسلامية، وقام المعهد منذ سنوات قليلة بتجربة رائدة حيث أقام دورات اللغة الفرنسية متخصصة في الآثار لمساعدة الباحثين المصريين علي فهم اللغة الفرنسية وكذلك مصطلحات الآثار الفرنسية حتي تساعدهم علي قراءة وفهم المؤلفات الفرنسية عن الآثار، بل قام المعهد بالاشتراك مع المركز الفرنسي لتعليم اللغة الفرنسية بالقاهرة بإعطاء مجموعة من المنح الدراسية للطلاب المصريين والسفر إلي فرنسا لاستكمال دورات اللغة هناك. ثالثاً: الباحثون المصريون في المعهد. يضم المعهد الفرنسي كوكبة من الباحثين المصريين المتميزين أمثال "أ.د/ علاء العجيزي ، أ.د/ حسن سليم ، أ.د/ خالد العناني الذي يعتبر بحق دينامو المعهد ويبذل قصاري جهده في مديد العون للباحثين المصريين سواء بالنصح والإرشاد أو مساعدتهم في الكتب والمقالات التي يحتاجونها بالإضافة إلي انه حلقة الوصل بين المعهد والجامعات المصرية في عقد الاتفاقيات. رابعاً: إدارة النشر. تقوم إدارة النشر في المعهد بإصدار الكثير من الدوريات والكتب وتسمح لكثير من الباحثين المصريين بالنشر في هذه الدوريات، بالإضافة إلي أنها تقوم بإهداء الكثير من مطبوعاتها إلي المكتبات المصرية المختلفة. الجدير بالذكر أن سياسة المعهد واضحة لا تتغير أو تتبدل بتغيير مديرها، بل إن كل مدير جديد يعطي المعهد نكهة مختلفة عما قبله، وقد أقدمت المديرة الحالية للمعهد بياتركس ميدان رين بخطوة رائعة ألا وهي الاعلان عن أن المعهد سوف يقدم ثلاث وظائف لباحثين مشاركين للباحثين المصريين، وذلك في إطار زيادة التعاون بين المعهد والمؤسسات البحثية المصرية. في النهاية أتمني أن يستمر المعهد الفرنسي للآثار الشرقيةبالقاهرة بهذه السياسة في فتح أبوابه للدارسين المصريين ومساعدتهم بقدر الإمكان، راجياً من باقي المعاهد الأجنبية في مصر اتباع هذه السياسة حيث تعتبر هذه المعاهد الفرصة الوحيدة للدارسين والباحثين المصريين الذين لم يسافروا خارج مصر في تنمية قدراتهم واستكمال دراساتهم..وتبقي أن أقول ومعي آلاف الباحثين والطلاب المصريين الذين استفادوا ولا يزالون من خدمات هذا الصرح العتيد: للمعهد الفرنسي للآثار الشرقيةبالقاهرة.. شكراً.