توجهت لمشاهدة فيلم (أنا باضيع يا وديع ) يحدوني الأمل في أن أري السينما المصرية تنجح أخيرا في انتقاد ذاتها عبر فريق عمل تمرس علي تحقيق هذا اللون بشكل جزئي في أفلام قصيرة أوبرامج دعائية. أكدت المشاهد الأولي صحة توقعي، فقد حققها بقدرة وإيقاع مناسب المخرج شريف عابدين وهومونتير في الأصل، اعتمادا علي مهارة الكاتب محمد فضل في صياغة المواقف المبنية علي المفارقة والمفاجأة. وهي كمشاهد إفتتاحية عبرت عن فهم صحيح لنوع الفيلم. فالزوج يفاجأ زوجته "الصاروخ" لاميتا فرنجية في البيسين مع عشيقها. وقبل أن يطلق عليها الرصاص نكتشف أننا أمام مشهد سينمائي يقوم المخرج وديع - أمجد عابد - بتصويره. ولكن المنتج تهامي- أيمن قنديل - يتدخل كعادته في الإعلان لمنع قتل الصاروخ، ليكشف لنا كيف يطيح تجار الفن بأصول الدراما وفن السينما في حوار كوميدي مكثف ومعبر. ولكن الفيلم سرعان ما يخذلك بعد هذه البداية الواعدة ، خاصة عندما يبتعد عن عالم كواليس الأفلام وصناعتها وينطلق ليتابع أنماطا مصطنعة ومكررة في مواقف لا تضيف للدراما ولا للحدث ولاحتي للإضحاك. ينتقل السيناريومن حيوية عالم السينما إلي الأجواء الداخلية الضيقة الخانقة في بيت المنتج ثم المخرج ، لتتوالي اسكتشات الأخت العانس والأم العجوز الدميمة والثري العربي الأبله والخطيبة اللعوب والمحامي الفج سيء المظهر، تتوالي المشاهد بلا معني ولا هدف ولكن كمجرد اسكتشات بلا رابط يلقي فيها كل ممثل جرعة من مخزون إيفيهاته الشخصية دون ضابط أو رادع، ودون أدني قدرة علي إثارة الضحك أيضا، فلا المواقف مرسومة بعناية ولا الحوار مكتوب بشكل جيد ولا الشخصيات معروف لها خلفيات محددة تجعل توجهاتها واضحة ومفهومة. بهجة مزيفة علي النقيض وعلي جانب آخر تتألق الصورة بالأضواء والألوان والديكورات والسيارات الفاخرة وفي أماكن تصوير مختارة بعناية، تعبر عن الواقع المخملي الذي يعيشه صناع الأفلام الرديئة من فلوس جمهور المغفلين. ويتفنن شريف عابدين في اختيار زواياه المعبرة لإبراز الإفيه وملامح الشخصية، كما يفرط في استخدام تقنيات تقسيم الصورة والمؤثرات البصرية لإضفاء حالة من البهجة والجاذبية عليها. ولكن كل هذا لا يساعد علي دفع الإيقاع الذي أصابه الموت لأن الدراما في حالة ركود. وهي لا تتحرك فقط الا عند الوصول لنقطة الهجوم أوالبداية الدرامية الفعلية التي تأخرت كثيرا جدا، فأنت تظل حتي منتصف الفيلم تقريبا لا تجد هدفا تتبعه أوحدثا تنتظره أوحكاية يمكن أن تروي. أخيرا يصل المؤلف إلي قلب الفكرة التي بإمكانها أن تكون خلاقة ومحركة للأحداث ومثيرة للخيال والضحك، فالمنتج يواجه أزمة حادة مع الضرائب التي تطالبه بمبالغ باهظة مما يعرضه للإفلاس، وهويظل يبحث عن سبيل للهروب من هذا المأزق دون جدوي، وفي هذا الصدد لا يجد مخرجه وصديقه حلا سوي تقليد الفكرة الأمريكية بصناعة فيلم فاشل من أجل التهرب من الضرائب. وهكذا تتجسد المفارقة بوضوح، فصناع الأفلام الفاشلة رغما عنهم يجدون الفرصة ليصنعوها مع سبق الإصرار والترصد. وتتوالي أخيرا في ذكاء وفهم صحيح لأسلوب الاسكتش فورم أوالحلقات المتصلة مشاهد محاولات تأليف فيلم فاشل علي غرار أنواع مختلفة من الدراما المستوردة.. مشاهد ذكية وجريئة وسينمائية وخفيفة الدم، وتؤكد علي أن فناني فيلم ( أنا باضيع يا وديع ) بإمكانهم أن يصنعوا دراما سينمائية حقيقية ، تعتمد علي الموقف والخيال والتقنيات الحديثة للانتقال بالصورة داخل المكان. اختيار الفشل وفي نقلة درامية جديدة وبارعة يقرر وديع بناء علي نصيحة شقيقته - إنتصار - أن يصنع السينما التي تمناها رغما عن أنف منتجه الساعي للفشل، وبينما تعجز إنتصار عن تحقيق أي مصداقية حيث تؤدي شخصية تفتقد لأدني مقومات التماسك ، يكشف أمجد عابد عن قدرات تمثيلية بارعة في التعبير عن حالة الحياة التي تدب في عينيه وخطواته وروحه وهويستعيد ذاته.وربما يبدوقبول تحول وديع صعبا ، كما تبدوصورته في الماضي مثيرة للضحك لا للتعاطف وهوينادي بإسقاط النظام قبل دخوله المعتقل في إقحام مفاجيء لأهم هتاف أطلقته الثورة " الشعب يريد إسقاط النظام "، وربما يمكنك أيضا أن تصدق أن تهامي سيسدد الضرائب كاملة للدولة إرضاء لصديقه، في دعاية مجانية للضرائب وفي تأكيد علي أن فناني الفيلم أدمنوا صناعة الإعلانات حتي ولوكانت بلا مقابل. ولكن مالم يسع الفيلم لتبريره بأي وسيلة هوانتهاؤه بأن يعود المخرج للأفلام الرديئة والمسفة من جديد مع تهامي بعد ان ذاق طعم النجاح بفيلمه الذي آمن وحلم به، وربما تأتي هذه النهاية نتيجة للتخبط الدرامي الذي عاني منه الفيلم لسطوة الإفيه علي حساب الفن الذي كان بإمكان صناعه تحقيقه لوأخلصوا للفكرة ..ولوأدركوا أن الأفضل من استغلال الثورة ومفرداتها بأسلوب مقحم هوتلمس روحها الناقدة والساخرة والإيمان بهدفها الحقيقي في نقد المجتمع والدعوة لإصلاحه. ولكن من المؤكد أن الكثيرين ضل بهم الطريق مثل وديع وتهامي وصناع هذا الفيلم جميعا، بل وربما جمهور المشاهدين أيضا. نصف بطولة عند توالي الأخبار عن الإعداد لفيلم يقوم ببطولته نجوم الحملة الشهيرة بأسمائهم المعروفين بها، لم أتوجس خيفة كما كان حال الكثيرين، ولكني كنت أعتقد أنه سوف تكون فرصة مناسبة للكشف عن مواهب جديدة حقيقية لوأمكنها أن تتعامل مع أساليب السينما بشكل سليم وأن تعبر بطرق فنية ساخرة، مستفيدة من الحالة التي تعيشها مصرنا اليوم. فأجمل مظاهر ثورة 25 يناير هي تلك الروح الساخرة الجميلة التي كشفت عن نفسها عبر الشعارات والملصقات والأفلام القصيرة،التي تناقلها الشباب عبر برامج اليوتيوب وغيرها من الوسائل، لتفضح بذكاء وخفة دم نظام كان في منتهي الغباء والتخلف والغلظة. ربما لهذا كان التفاءل كبيرا بفن السينما الذي توقعنا له أن يعيش انتعاشة سريعة وطفرة مفاجئة. وقد جاء موسم العيد محملا بمجموعة من الأفلام التي أنتجت بعد قيام الثورة كلها من النوع الكوميدي الساخر. ومن بينها فيلم (أنا باضيع يا وديع) الذي كان يمكنك أن تتأكد من خلال الصورة التي رسخها أبطاله أنه يسخر بشدة من صناعة السينما في مصر. وهوما حققته حملة قناة الأفلام التي أنتجته تحت شعار "العربي أم الأجنبي" مع تحفظنا علي بذاءة الشعار والحملة. ولكن المشكلة أن صناع الفيلم لم يتطوروا بفكرهم ليصنعوا فيلما سينمائيا، وإنما اكتفوا بأن يتعاملوا مع النص بمنطق القطعة، فقسموه إلي مجموعة من الاسكتشات أوالحلقات المنفصلة غير المتصلة إلا بوجود شخصيتي وديع وتهامي. وقد فقدوا بذلك أهم مميزات الفيلم السينمائي ، كما لم يمكنهم أيضا الاحتفاظ بسرعة وتكثيف الشكل الإعلاني، وإضافة إلي هذا التصدع الذي أصاب أوصال الفيلم كان هناك انشقاق آخر في الأسلوب والموضوع بين نصفه الأول الذي كان توجهه بشكل كامل لصالح تهامي الذي صال وجال وقدم كل ما في جعبته من افيهات، بل وشخصيات، أما النصف الثاني فهوعرض لمهارات وقدرات أمجد عابد التمثيلية في دور وديع، وكأن البطلين اتفقا علي اقتسام الفيلم علي طريقة " نص أنا ..نص إنت " ..أما باقي الممثلين فلم يكن لوجودهم أي أثر أوتأثير ولم تتضح أي ملامح لشخصياتهم ولم تتح لهم أي مساحات للأداء. فحتي في إطار البطولة الثنائية لوجهين جديدين لا مجال لغيرهما ولا أي بارقة أمل في مسألة البطولة الجماعية. إنه نظام النجوم يفرض سطوته حتي من خلال أشباههم وأنصافهم.