لا زلتُ أذكر حتي اليوم مُدَرِّسِي في الصف الأول الابتدائي بطوله الفارع وبمعطفه الأسود الشتوي.كنت ومعي بقية التلاميذ نشعر نحوه بشعور هو مزيج من الحب والخوف والاحترام. كنا ننظر إليه وكأنه كائن مختلف لا يشبه الآخرين الذين كنا نقابلهم في الأماكن الأخري.لقد كانت علاقتنا به علاقة أبوية وربما أكثر.. غير أننا لم نكن نراه ولا يرانا سوي في قاعة الدرس.. وسوف يكون غَدُ اليوم الذي يرانا فيه في الشارع أسودَ علينا! علي الرغم من هذا لم نَكُنْ نُكِنُّ له سوي كل احترام وتبجيل..لأننا فهمنا بفطرتنا البريئة أنه لا يريد سوي مصلحتنا نحن وأنه لا ىُسْعدهُ سوي تفوقنا.أما اليوم فلم يعد هناك من يحترم المدرس أو ىُقدِّره أو يخاف منه..إذ فقدت صورة المدرس القديمة محتواها واُستُبْدلت مفرداتها بمفردات أخري.وبعد أن كان ىُنادي المدرس بأفضل الألقاب أصبح ثمة من ينادي مدرسه باسمه هكذا بلا لقب..هذا إن لم يقل له يا (أسطي...أو يا مِعَلِّم...)!!! المدرس الذي كنا نتحاشي أن يرانا في الشارع بعد وقت المدرسة قديماً..بات اليوم من يراه في وسائل المواصلات من تلاميذه واقفاً ولا يقوم له لِيجْلسه مكانه. حقاً ثمة فرق شاسع بين مدرس الأمس البعيد وبين مدرس اليوم..فالأول كان يطل علي تلامذته وطلابه بقامة سامقة تعتز بكرامتها وعزة نفسها..وتتحلي بأنفة لا يضارعه فيها سواه تستند إلي تمكنه من مادته العلمية التي يمارس تدريسها متقناً إياها عن طريق القراءة والاطلاع والتدريب لتحسين المستوي مما يعود إيجاباً علي تلامذته.أما الثاني فقد ضحي بكل غال ونفيس مقابل جنيهات معدودة يتقاضاها مقابل درس خصوصي.إنه اليوم يركض وراء النقود بعد أن تعطفت الدولة عليه وتبرعت له براتب هزيل يأخذ أضعافه عامل في هيئة النظافة والتجميل! مرتبة الأنبياء قبل اختراع المدارس كان المدرس/المعلم يتخذ مكاناً ثابتاً ومعروفاً يذهب إليه كل طالب علم. وقتها كان الطالب لا يستنكف أن يقَبِّلَ يد معلمه الذي لم يكن له من مأرب سوي أن يعلِّم طلابه تبجيلاً واحتراماً وتقديراً لدوره ورسالته التي قد تصل بشروط معينة إلي مرتبة الأنبياء.غير أنه وبعد اكتشاف المدارس (أقصد بناءها) ومع مرور الأزمان تغيرت نظرة المجتمع إلي المدرس بعد أن تغير دور المدرس واختلفت طبيعته..الآن ليس ثمة فارق كبير بين بائع اللبن وبين المدرس إذ أن كلاهما يجوب الشوارع ..هذا بوعاء اللبن وهذا بحقيبته المكتظة بالأوراق..طارقاً علي أبواب البيوت..التي منها ما يفتح ويشتري ومنها ما لا ىُعيره قليلَ اهتمام! بهذا الصنيع تحوَّل المدرس من يدٍ فوقية وقامة كبيرة لها وزنها وتقديرها إلي يد سفلية باتت تمتدُّ في انكسار إلي يد ولي الأمر وإلي يد الطالب أحياناً آخذة منها أجرة الدرس الخصوصي ..ليس هذا وحسب بل وصل الأمر إلي أن تساوي المدرس في نظر ولي الأمر وكذلك الطالب مع مهن أخري فقد أصحابها من زمنٍ هيبتهم ومكانتهم بين الناس بعد أن تحول إلي جابي نقود وفقط.وبالتالي وبدلاً من أن ينظر الطالب صغيراً أو كبيراً إلي المدرس النظرة التي يستحقها متمثلاً قول أمير الشعراء أحمد شوقي:قم للمعلم وفه التبجيلا/كاد المعلم أن يكون رسولا.راح ينظر إليه وكأنه كهربائي أو سبَّاك (مع الاحترام لهما) جاء ليصلح مصباحاً أو صنبوراً تعطَّل عن العمل..ثم يتقاضي أجرته ويغادر مع الدعاء بألا يري مرة أخري! من ثم أصبح المدرس شخصاً غير مرغوب فيه يدعو الجميع بأن يباعد الله بينهم وبينه كما باعد بين المشرق والمغرب! محصل ضرائب لا يرغب الطالب الذي فقد التعليم فائدته وجدواه في نظره مما يراه أمامه من تجارب سابقيه في السلك التعليمي في المدرس وكذلك ولي الأمر الذي يري في المدرس صورة أخري لمحصل الضرائب الذي يجيء ليقوم بتفريغ كل جيوبه من محتواها ويتركها خاوية علي عروشها فريسة للاقتراض من الغير وللوقوع في الضوائق المالية.وبدلاً من الدعاء بالخير الذي كان يناله المدرس فيما مضي من أزمان من الآباء ومن الأمهات لأنه تفاني في تعليم أبنائهم وراعي خالقه وضميره اليقظ في تعليمهم راح الآن يحصد آلاف الدعوات بكل سوء إما لأنه لم يراعِ ضميره في تعليم الأبناء وإما لأنه استوحش واستوغل في الدروس الخصوصية بإجباره للطلاب عليها ومغالاته في أسعارها..وإما لأنه ترك أو لم يترك الطلاب ليغشوا في الامتحانات! لقد تخلي مدرس اليوم عن كرامته وكبريائه وقيمته في طريقه إلي ميدان الدروس الخصوصية وضحي بالبحث وبالقراءة وتحسين المستوي تحت ذريعة أنْ ليس هناك وقت..إنه محق..فهو يصحو في السادسة صباحاً وربما قبلها ليذهب إلي مدرسته التي يغادرها بعد الظهيرة تقريباً بادئاً رحلة تنقله فيما بين المنازل والبيوت موزعاً مادته علي الطلاب وهم في منازلهم.. مواصلاً هذا العمل حتي ساعات الصباح الأولي من اليوم التالي إلي أن يعود نائماً إلي منزله ويصحو وهو نائم ويذهب إلي مدرسته وهو نائم ويدرّس وهو نائم قاضياً حصصه الدراسية ما بين تثاؤب وفَرْكِ أعين..وهلمَّ جرَّا!!! بهذا وبسبب لعنة الدروس الخصوصية التي أصابته (والتي لم تكن موجودة في الأساس في قاموس مدرس الأمس الذي كان يذهب إلي مدرسته صباحاً ليعود منها بعد الظهر ليمكث بقية يومه في منزله بين كتبه مطلعاً وقارئاً لا في مادته هو فقط ولكن في شتي العلوم والمجالات ليكون مدرساً بحق)..فقدَ مدرس اليوم كل شيء حتي بدا مستواه في مادته العلمية يضمحل عاماً بعد عام بعد أن توقف تماماً عن القراءة والاطلاع عن كل ما هو جديد في مجاله منذ عام تخرجه تقريباً.لقد جنت الدروس الخصوصية علي المدرس الذي كان قديماً يرفع رأسه عالياً فقط لأنه معلم وحولته إلي مدرس فقدَ عزة نفسه في تودده إلي الطالب وولي أمره بعد أن تنازل عن أشياء كثيرة لم يكن لمثله أن يتنازل عن بعضها وكل هذا في صحة النقود!! أنت مدرس لكن ماذا لو أعادت الدولة للمدرس هيبته قائلة له:ارفع راسك فوق أنت مدرس..مانحة إياه الراتب الذي يتناسب طردياً ودوره في المجتمع حتي يتفرغ كليةً لتدريس مادته منفقاً وقته في البحث والدراسة والاطلاع وتحسين المستوي بمعرفة كل ما يجد في مجال تدريسه مما يعود بالنفع الوفير علي المتعلمين وفي الأخير يخَرِّج المدرس طلاباً حقيقيين يكونون بناة المجتمع علي أساس علمي سليم بدلاً من أن ىُخرِّج طلاباً لا يفقهون أي شيء في أي شيء..بل حتي يفشلون في كتابة أسمائهم بشكل صحيح؟! قبل أن أضع طبشوري أؤكد علي أنه ثمة عدد من مدرسي اليوم لا يختلفون قيد أنملة عن مدرسي الأمس بكل ما لديهم من صفات نبيلة..غير أنهم لندرتهم تاهوا في الزحام.