فيلم "الفاجومي" الذي أخرجه عصام الشماع وكتبه مستمداً من مذكرات الشاعر أحمد فؤاد نجم بنفس العنوان، جدير بأن يكون آخر فيلم ينتهي العمل به قبل ثورة 25 يناير 2011، وأول فيلم يعرض بعد الثورة، وفي هذا يذكرنا بفيلم "مصطفي كامل" الذي أخرجه أحمد بدرخان وكتبه فتحي رضوان، فكلاهما عن رحلة كفاح وحياة مناضل، شاعر وطني هنا وزعيم وطني هناك، وكلاهما مثل محاولة سينمائية جريئة شريفة للتعبير عن رؤية لواقع ودعوة إلي تغييره، واقع احتلال واستغلال في "مصطفي كامل" وواقع استبداد وفساد في "الفاجومي"، وكلاهما تم بينما يوشك الليل أن ينجلي والقيد أن ينكسر، وكلاهما يسبق ويتصدر عروض الأفلام إثر بزوغ عهد وفجر جديد (ثورة يوليو ثورة يناير). بل إن كاتب "مصطفي كامل"، فتحي رضوان، العملاق المناضل والأديب والمفكر الموسوعي، تقوم ثورة يوليو بينما هو في سجن العهد الملكي والاحتلال، فيخرج من السجن إلي الوزارة! أما بطل "الفاجومي"، أحمد فؤاد نجم الشاعر الذي ثار وتمرد، أجاد وتفرد الذي هو نسيج وحده فقد عاش وشاهد وشارك في الثورة في 25 يناير، تلك التي حلم بها طويلاً، وصمم في قلب الليل علي أنها آتية لا ريب فيها. وليس افتعالاً أو استغلالاً أن يلحق بفيلم "الفاجومي"، كمشهد نهاية، اندلاع ثورة يناير ومظاهرات التحرير الحاسمة. فهو فيلم عن نضال طويل لشاعر شجاع اجتهد فأخطأ وأصاب في الرؤية والتحليل، لكنه كان دائماً ينطلق من وطنية خالصة صادقة، لا يبغي قصداً سوي أن يري وطنه أجمل وأعدل الأوطان، وأن يتمتع شعبه بالحرية والكرامة والرخاء. كما أن نجم صاحب إبداعات (مصر يا امه يا بهية شيد قصورك قوقه المجنون أبو برقوقة شحاتة المعسل بشاير يناير..) هو شاعر من الحجم الكبير، عندنا هو أحد الخمسة الكبار في شعر العامية المصري في النصف الثاني من القرن العشرين (إلي جانب حداد جاهين حجاب الأبنودي) لقد انطلق من موهبة هادرة عميقة، بقدر ما انطلق من وطنية خالصة صادقة. هو نجم، وسيرته، وأيضاً بجانبه رفيق رحلته الشيخ إمام عيسي، يلحن ويشدو بكلمات نجم، فيصبحان معاً ضمير الحركة الوطنية، والمعادل الإبداعي الجمالي للثورة، خاصة في السبعينات الماضية (أو هي حقبة الذروة ذروة المعركة وذروة الموهبة في آن). هذا، وإن اختلفت الطبائع، والتكوين الشخصي لكليهما، علي نحو ما يرصد أو يشير الفيلم، وإن لم يكن بعمق وتدقيق كاف، علي الخصوص بالنسبة لشخصية "إمام". وقد أداهما خالد الصاوي (نجم) وصلاح عبد الله (إمام)، وبذلا جهداً مكثفاً خاصة الأول بحكم حجم الدور، لتعويض اختلاف البنية والملامح الخارجية، بالدخول في روح وملامح الشخصيتين الداخليتين، بإصرار وموهبة ووعي. يحسب للفيلم وأصحابه، خاصة مخرجه وكاتبه عصام الشماع، أنهم فكروا في إنجاز فيلم روائي طويل، عن شاعر مقدام معارض جذرياً للنظام الرجعي الحاكم (الممتد من 1974 إلي 2011 عبر عهدي الجمهورية الثانية للسادات ومبارك). ومما أتاح لأصحاب الفيلم أو شجعهم أن ذلك النظام الرجعي في سنواته الأخيرة بالذات، كان يترك مساحة (أطلق عليها تعبير "هامش") للصياح والاعتراض والزعيق و"التنفيس"، بينما الذين في السلطة ومراكز النفوذ، يفعلون ما يعن لهم دون رقيب أو حسيب علي الإطلاق نهباً واغتصاباً، كأعتي العصابات إجراماً، ومع أن الفساد كان معروفاً يذوق الشعب عذابه كل يوم، إلا أن ما تكشف وما زال بعد ثورة 25 يناير، فاق كل تصور أو حتي خيال! رجع الشماع إلي مذكرات نجم، واختار منها ما شاء، وقدم ترجمة سينمائية أو معادلاً بصرياً لبعض صفحاتها التي ارتآها مؤثرة، وتناسب الشاشة السينمائية، وقدم خلال ذلك نجم بصورة تقريبية، أو علي نحو يعطي فكرة عنه كأديب صعلوك فذ، مشاغب وثائر مدهش، إنسان يتسم بنوع من الانطلاق إن لم يكن الفوضوية في المسلك والإحساس بالحرية (هو "الفاجومي" الذي لا يهاب أحداً أو شيئاً ولا يأبه لنتيجة أو تبعة!).. لكن مع درجة قصوي من الحزم والصرامة في عشق الوطن والدفاع عن مصالح شعبه (مصر العشة لا مصر القصر حسب تعبيره الشهير) باذلاً أقصي الجهد، دافعاً كل ثمن مطلوب، من السجن أو الحياة الشاقة خارج السجن، فهي بالنسبة له دائماً: قضية حياة أو موت. ليس أقل. سمة رئيسية فيه: عشق الحياة، والجمال، وهو الإنسان بفطرته و"عبله" وحسه، وهنا تدخل المرأة في صفحات حياته، وصفحات مذكراته، وأيضاً مشاهد ولقطات الفيلم. دراميا في الإجمال الفيلم معقول وكثير منه جيد، وإن كان في نظرنا أن (نجم إمام) لأنهما (نجم إمام)! كانا يستحقان فيلماً عظيماً ورائعة سينمائية وليس فحسب عملاً معقولاً أو جيداً. ربما الفيلم يعوزه وهج فني أو ألق إبداعي أكثر، وبدا كدراما تقليدية علي نحو ما، تتوالي الأزمنة والأحداث علي نحو لا يخلو من تقريرية. حينما أراد المخرج الكاتب أن يخرج إلي التأليف والإضافة، ابتكر شخصية الجارة الأرملة الشابة "أم آمال" (التي أدتها جيهان فاضل بحيوية دافقة واقناع)، وربما هو قام "بتجميعها" من عدة شخصيات في الحياة الواقعية للرجل، إلا أنها قدمت كابنة بلد "جدعة" محبة لجارها "نجم"، وكان طبيعياً لكي تقيم معه العلاقة الكاملة أن تفكر أو حتي تلمح إلي الزواج، كأي امرأة عادية في الحي الشعبي القاهري وفي ظروفها، لكنها لم تفعل، وهو من ناحيته، وقد تزوج في حياته بضع مرات وبدا أنه لا غضاضة أو مشكلة لديه في زواج لم يخطر له الموضوع في بال، فليس هناك مبرر لذلك من داخل ومنطق العلاقة في المعالجة الدرامية ذاتها! دراما الفيلم أيضاً ظلمت الشيخ إمام وظلمت أكثر رفيقهما الثالث "محمد علي" (الفنان المتميز الرسام التلقائي عازف الإيقاع) فلم تسبر غور أي منهما أو تحاول، واكتفت بالسطح. بل لم نسمع صوت الشيخ إمام عيسي نفسه (سمعنا الألحان بأداء أحمد سعد وصوته الشجي، لكنه نفس خطأ مسلسل "أسمهان"!. كيف نري أداء لأسمهان ولا نسمعها وكيف نري تمثيلاً لإمام ولا نسمعه؟). سياسيا سياسياً بدت بعض مشاهد مشارف هزيمة 1967 بالصورة النمطية المكررة، كما أن الحديث عن توقف صلاح جاهين عن كتابة الأشعار الثورية أو الإشارة إلي تحوله لموقف سلبي من ثورة يوليو، هو ذات الموقف الذي لم يحدث، والذي عبرت عنه بعض الأعمال الدرامية من قبل مغالطة وزيفاً (انظر رسالة جاهين إلي جريدة "الأهالي" التي كشفت عنها ابنته سامية جاهين في عدد "أخبار الأدب" الذي صدر مع عرض الفيلم 5/6/2011). لكن الأسوأ هو الصورة التي قدم بها فيلم "الفاجومي" انتفاضة 18و19 يناير عام 1977، فلم تبدأ الانتفاضة هكذا: مشاحنات أو احتدام معارك في الأسواق، بين المواطنين الذين كواهم الغلاء، بل إن من الخطأ الوصف الشائع لها بانها «انتفاضة الخبز!»، فقد كانت انتفاضة شعبية شاملة، شعاراتها وأهدافها شملت السياسي والاجتماعي والاقتصادي في آن (قرارات رفع أسعار السلع هي الشرارة فقط، كما أن لكل انتفاضة أو ثورة في التاريخ شرارة!)، هي انتفاضة كاملة الأوصاف، ولم تتحول لأسباب عدة إلي ثورة، وقد ظلت مختمرة في ضمير وأعماق الشعب المصري إلي أن تفجرت ثورة شعبية كاملة الأوصاف في 25 يناير 2011 . لذلك فتوقف الفيلم في خاتمته عند «مشهد ميدان التحرير وثورة يناير» ليس مقحماً علي الفيلم، بل جاء مقنعاً. وهو ما بشر به «غناء نجم إمام» لسنوات طوال، وكانت أغنيته «كل ما تهل البشاير كل عام» كأنها الأغنية التي انتظرت طويلاً (1977 2011) حتي تتحقق، أو حتي تجد حقيقتها. مشاهد مؤثرة توجد مشاهد مؤثرة (عن نفسي تأثرت بها جداً).. مثل والدة نجم وهي تزوره في محبسه، فيستفسر ابنها، ويعرف أن بكاءها سببه رحيل جمال عبد الناصر.. فيسألها مستنكراً: «كيف، بدلاً من أن تبكي علي ابنك المسجون.. تبكين علي الذي سجنه؟!.. فتوبخه بصرامة وحكمة: اسكت يا ولد!.. انت لا تفهم.. ذهب عمود الخيمة.. في يوم ستعرفون!». وكذلك مشهد الطفلة (نوارة) ابنة الشاعر الشجاعة والكاتبة الشجاعة صافيناز كاظم وهي طفلة صغيرة تقف وتتقافز فوق أريكة الصالة، بينما يأتي زبانية البطش و"داخلية" السادات لاعتقال الوالدين معاً في منتصف السبعينات مع إصرارهم الغريب السادي علي عدم اصطحاب الأم لصغيرتها.. الوالدان مذهولان: كيف يتركان "نوارة" ابنة السنتين وحدها في الشقة، والضابط المجنون يصيح فيهما: لسنا ملجأ خيرياً!.. هو موقف حفر نفسه لابد عميقاً في وجدان هذه الأسرة، ونحسبه بقي، حتي لدي الطفلة، وبعدما شبت وصارت الان «نوارة نجم» الكاتبة الموهوبة والناشطة السياسية التي كان لها دور جميل جلي ولا يزال، ضمن ثورة الشعب والشباب في 25 يناير ومنذ أول لحظة. لقد شاهدنا "ميدان التحرير" سريعاً، في النهاية، بعد قطع جاء خشناً، مباشرة بعد مشاهد الكفاح والانتفاض ضد حكم السادات في السبعينات.. ومع الأسف فإن من يشاهد الفيلم في اي مكان في العالم أو في المستقبل، دون إلمام بتاريخ مصر، لن يعرف أن هناك حاكماً أبشع حكم هذه البلاد بعد "السادات" علي مدار ثلاثين سنة كاملة. حقاً كم كنا نرجو أن نري «مظاهرات التحرير» بما يكفي، للتعريف بوجود ذلك الطاغية كل هذه السنوات المريرة. ثم ان نري، في وسط هذا الميدان الزاخر الثائر، «نجم» نفسه (بدلاً من ظهور ممثل الدور) هرماً وهناً بماكياج سخيف يبالغ في حالة وسن نجم في الحقيقة.. أن نري «نجم» شخصياً، كما رأيته بنفسي في قلب ميدان التحرير خلال ثورة (ال 18 يوماً الماجدة).. يحيط به شباب الثورة، ويجوبون معه وهو رمز وضاء بينهم، الميدان موضعاً موضعاً.. سعيد لهم وسعداء به، وكأنهم (علي حد تعبير عزة بلبع لي بعدها، وكانت ضمن تلك الصحبة أو الزفة الجميلة النبيلة من حوله في ميدان التحرير): "كأنهم يتباركون به". معها حق.. ومعهم حق.