لقد بدأت أكتب مذكراتي ولكنني ترددت ثم توقفت وغيرت المسار إذ وجدت أن أخي سعد كامل الذي يكبرني بسنوات قليلة قد اعتزل الحياة العامة لظروف صحية.. فهو لم ولن يكتب مذكراته.. في حين أن مسيرة حياته مليئة بالأحداث والمشاركة الإيجابية. هذه سطور من مقدمة الكتاب المهم الذي صدر عن المجلس الأعلي للثقافة مع مطلع ثورة 25 يناير كتبه الصديق الكبير المناضل أستاذي عزالدين كامل بعنوان: سعد كامل: الثقافة الجماهيرية.. مسيرة نصف قرن.. وحين طالعت الكتاب وجدت أن أستاذنا عزالدين كامل لم يؤرخ لحياة ونضال شقيقه سعد فقط.. ولكن الحقيقة أنه قدم تأريخا لحركة الثقافة.. وللحركة الشيوعية المصرية التي هي جزء من النضال الوطني.. كيف كانت سيرة حياة الأستاذ سعد كامل؟ الميلاد ولد بحي السيدة زينب في نوفمبر 1923 لكن الأسرة عاشت بالفيوم إذ كان الأب مدرسا للغة الإنجليزية بمدرسة الفيوم الثانوية.. ثم ناظرا لإحدي المدارس بالمنيا. .. وفي تلك الأيام من ثلاثينات القرن الماضي كان يتردد علي منزل الأسرة المناضل المعروف فتحي رضوان الذي كان حينذاك طالبا بكلية الحقوق وهو في نفس الوقت خال سعد كامل كان يتردد علي منزلهم يومي الخميس والجمعة ويحدثهم عن زعيم الهند غاندي ويحث شباب الأسرة ورفاقهم حمدي وعبدالعزيز الحكيم اللذين كانا والدهما صاحب العمارة يحثهما علي الاهتمام بالسياسة وبالفكر والأدب وبمقاومة الاستعمار. كان يحضر وبرفقته كمال الدين صلاح شهيد الدبلوماسية المصرية عام 1953 في الصومال، وكان الاثنان من نشطاء حركة مصر الفتاة التي صارت حزبا مؤثرا في الحياة السياسية المصرية بقيادة مؤسسها الأستاذ أحمد حسين.. وطبيعي أن تجذب هذه الحركة الوليدة التي كانت تدعو لمقاومة الاستعمار والاعتماد علي النفي الشباب في تلك الأيام وبينهم الأشقاء الثلاثة: سعد كامل وعزالدين وجمال. في الجامعة عام 1939 اجتاز سعد امتحان التوجيهية وكان من الطبيعي لشباب تلك الأيام كما يروي أستاذنا عزالدين كامل أن يتجهوا للدراسة بكلية الحقوق. وأفضي سعد سنوات الجامعة مستمتعا بها بعد أن حضر إلي القاهرة وأقام بها، ليس فقط للدراسة. ولكن كان يحضر إلي كلية الآداب للاستماع إلي محاضرات الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي وتعرف إلي الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي، وإلي عزالدين فودة من مؤسسي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فيما بعد، وتعلم منه أن المعرفة ليست فقط في التزود بالعلم من المحاضرات.. ولكن في التزود بالعلم من كل مصادره لبناء الشخصية المتكاملة. في تلك الأيام من مطلع أربعينات القرن الماضي كان الأساتذة يذهبون إلي الجامعة مشيا علي الأقدام لقرب مساكنهم من الجامعة أو يركبون الترام.. ومع مرور الأيام ظلت دائرة معارف واتصالات سعد كامل تتسع إذ تعرف إلي عدد من عمالقة القانون والأدب: الدكتور عبدالرازق السنهوري والدكتور علي بدوي.. كما تعرف إلي لويس عوض الذي كان يشرف علي جمعية لتذوق الموسيقي الكلاسيكية سرعان ما انضم إليها بعد ذلك الشاعر اليساري كمال عبدالحليم. اغتيال أمين عثمان حين تخرج سعد في جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة 1945 اشتغل بالمحاماة مع خاله فتحي رضوان وسرعان ما تعرف إلي حسين توفيق وابن خالته محمد إبراهيم كامل الذي صار وزيرا للخارجية فيما بعد.. وكانت الأحاديث بينهم لا تتوقف حول ضرورة طرد الإنجليز.. وحدث أن قام شابان يهوديان باغتيال اللورد موين الرجل الإنجليزي الذي منع إحدي سفن الهجرة اليهودية من دخول فلسطين، وأعجب الشباب المصريون بهذا العمل.. وقاموا بتكوين خلية سرية باسم خلية تحرير مصر من أربعة شبان أحدهم سعد كامل بهدف التدريب علي حمل السلاح لمواجهة الإنجليز. من المدهش كما يروي عزالدين كامل أن أعضاء هذه الخلية تعرفوا بعد ذلك علي الضابط أنور السادات الذي أمدهم بالقنابل اليدوية.. وكان أحد أفراد المجموعة التي شاركت في اغتيال أمين عثمان باشا الذي كان من غلاة المتطرفين في الدعوة للتعاون مع الإنجليز وأذنابهم. لقد شغلت هذه القضية الرأي العام المصري حينذاك، وانتهت بتبرئة عدد من المتهمين بينهم السادات وسعد كامل.. والحكم علي حسين توفيق بالسجن عشر سنوات، غير أنه سرعان ما هرب من السجن بمساعدة عدد من أصدقائه، وأتيح لسعد وقتها أن يلتقي بالصحفي الكبير مصطفي أمين وينشر مذكرات حسين توفيق وقصة هروبه بجريدة أخبار اليوم.. ولذا جمع سعد بين عمله في المحاماة والصحافة كان ذلك في 11/9/1948. جمعية أنصار السلام عن فترة السجن والمحاكم يذكر عزالدين كامل أنها كانت بالنسبة لسعد كامل فترة دراسة وتأمل للحياة السياسية أسهمت في صقله وإعداده لدخول مراحل جديدة أكثر تطورا وتقدما. وقد شارك في الدفاع عنهم صفوة المحامين الوطنيين في ذلك الوقت. في تلك الأثناء قام فتحي رضوان بتشكيل الحزب الوطني وصدرت عنه جريدة اللواء الجديد ورأس تحريرها الكاتب والفنان يوسف حلمي الذي كان صديقا لسعد كامل. وعند قرب نهاية الأربعينات وصل إلي القاهرة وفد من حركة السلام الدولية لدعوة اثنين من المفكرين المصريين للمشاركة في المؤتمر المزمع عقده بانجلترا هما: سلامةموسي ويوسف حلمي.. لكنهما اعتذرا وطلبا من سعد المشاركة.. فوافق.. وعقد المؤتمر في وارسو ببولندا بعد رفض انجلترا عقد المؤتمر علي أرضها.. وسافر سعد كامل وقوبل بحفاوة كبيرة في المؤتمر الذي ضم 2500 ممثل ل 82 دولة، وقام بشرح المسألة الوطنية المصرية لأعضاء الوفود.. واعتبره المشاركون بطلا قوميا باعتباره جاء يشرح قضية بلاده العادلة في الاستقلال والتحرر الوطني. بعد أن عاد إلي مصر قام بتأسيس الحركة المصرية لأنصار السلام والتي ضمت عددا من الشخصيات الوطنية وشاركت فيها لجان شعبية من جميع تيارات المثقفين المصريين. في السجن.. مرة أخري الحركة الوطنية تشتد وتزداد مع بدايات الخمسينات ولاسيما الجيش المصري خاصة حرب فلسطين سنة 1948 بتجربتها المريرة بعد هزيمة الجيوش العربية.. وفي تلك الأثناء كان تنظيم الضباط الأحرار قد ازداد تأثيره بين القوات المسلحة للإطاحة بالنظام الملكي والإعداد للثورة. بينما حركة الفدائيين تنشط في القناة وعمليات قتل الجنود الإنجليز في شوارع القاهرة فوجئ الجميع بحريق القاهرة 26 يناير 1951 وعلي إثر ذلك تم اغتيال سعد كامل ورفاقه فتحي رضوان ويوسف كامل ووضعوا في سجن الأجانب. ثم بمعتقل هايكستب، لم يفت ذلك في عضدهم.. إذ كما يروي فتحي رضوان في مذكراته «كنا نقرأ الجرائد معا.. وننام ونأكل معا.. ونضحك ونسخر من أي شيء». صباح يوم الثورة صباح يوم 23 يوليو فوجئ الجميع داخل المعتقل بحركة غير عادية.. إذ كان أنور السادات قد أعلن في الراديو قيام الثورة، وأفرج عن سعد ومعه 100 معتقل سياسي، عاد إلي البيت بينما سافر فتحي رضوان إلي الإسكندرية ليلتقي بالضباط الأحرار، واشترك سعد مع يوسف كامل في إصدار مجلة الكاتب اليسارية. يروي أستاذنا عزالدين كامل أن شقيق سعد كان يتردد علي منزل السادات في حي المنيل وتستقبله قرينته السيدة جيهان وتقوم بواجب الضيافة.. حتي يتم عرض بروفات المجلة «فقدكان أنور السادات رقيبا علي الصحافة» ووجده سعد إنسانا بسيطا مثلما عرفه أثناء قضية اغتيال أمين عثمان سنة 1946.. ولم يعترض علي سطر من المجلة. كيف سارت حياة الرجل بعد ثورة 1952؟ حينما نشبت الصراعات المعروفة بين عبدالناصر ومحمد نجيب والتي سرعان ما حسمت لصالح عبدالناصر بعد أزمة مارس 1954، كان المثقفون الوطنيون واليساريون يسعون لتشكيل جبهة وطنية من القوي السياسية المختلفة للمشاركة في المعركة ضد الاحتلال.. وتم القبض علي سعد كامل مرة أخري ومعه زوجته ماري شريكة حياته أطال الله عمرها ولم يكن قد مضي علي زواجهما سوي ثلاثة أشهر. من الليمان إلي الواحات يسجل أستاذنا عزالدين كامل إضافة مهمة لتاريخ هؤلاء المناضلين الشرفاء والشجعان حين رفض تكبيلهم بالحديد ورفضوا الاستمرار في العمل بالجبال طبقا للوائح السجون التي وضعت سنة 1885 أيام الاحتلال البريطاني وكان بين السجناء السياسيين الكاتب صلاح حافظ والدكتور شريف حتاتة، كما يسجل صورا حقيقية وحكايات عن المسرح الذي كانوا يقيمونه، وقيامهم بمحو أمية المساجين الآخرين، فعلوا ذلك وهم سجناء بالعنبر 14 مما أذهل السلطات وقاموا بنقلهم إلي سجن الواحات.. ويقدم الكتاب وصفا للفرق بين سجن الليمان وسجن الواحات حيث رحلة الأهل للزيارة تستغرق قرابة 36 ساعة. .. وتمر به الأيام مثلما تمر بالوطن أحداث مهمة.. إذ نجح عبدالناصر في دحر وهزيمة العدوان الثلاثي 1956 وتم نقل سعد إلي مستشفي أحمد ماهر للأمراض النفسية ثم إلي مستشفي الدمرداش. عبدالناصر.. يتدخل وفي داخل المستشفي كان الدكتور أحمد عكاشة هو الطبيب المعالج لسعد كامل.. وقص حكايته لشقيقه ثروت عكاشة، أحد الضباط الأحرار وكان عبدالناصر قد أسند إليه مهمة العمل الثقافي في ريف مصر، وجاء ثروت إلي المستشفي والتقي بسعد.. وأخبره أنه سوف يتم الإفراج عنه ليعمل معه بوزارة الثقافة، وتم الإفراج. دارت الدنيا بسعد الذي سرعان ما استعاد توازنه، وبينما كان يمضي إجازة مصيف بمرسي مطروح جاء ضابط بوليس ليبلغه بأن موعد سفره إلي القاهرة قد تحدد علي الطائرة التي سوف تحمله مع أسرته لتولي مهامه كمسئول عن الثقافة الجماهيرية. يوضح عزالدين كامل كيف عاد سعد إلي القاهرة وبدأ مشروع النهضة الثقافية مع الدكتور ثروت عكاشة بنزول قوافل الثقافة إلي محافظات كفر الشيخ والقليوبية والجيزة وغيرها، وكيف أن المشروع الثقافي الضخم الذي كان يحلم به عبدالناصر واجهته العقبات من بيروقراطية المحافظين إلي تسلط قيادات الاتحاد الاشتراكي.. حتي أجهض المشروع بعد هزيمة 1967، لكن سعد المناضل الاشتراكي الوطني لم ينحن ولم ينهزم رغم صدمة الهزيمة المروعة.. فقد عاد للعمل بصحيفة أخبار اليوم.. وظل يقاوم ويسبح ضد التيار رغم مرارة الهزيمة في أحلاقنا جميعا. لقد أعقب هزيمة 1967 رحيل عبدالناصر 1970 ثم تحولات فترة السادات نحو اليمين وما تلي ذلك نعرفه جميعا ونعيش أحداثه حتي هذه اللحظة. كانت صحة المناضل سعد كامل قد وهنت.. وكان يعتزم أن يكتب مذكراته عن هذه الحياة الحافلة وعن مسيرة الثقافة لكن المرض وظروفه الصحية لم تساعده حتي كان الرحيل في 5 مايو 2008 أي قبل ثلاثة أعوام. لعل كتاب أستاذنا عزالدين كامل عن شقيقه سعد ومسيرة الثقافة.. ولعل هذه الكلمات بجريدة القاهرة الغراء تكون باقة ورد نهديها إليه في وقت الوطن فيه أكثر ما يكون احتياجا للشرفاء والمناضلين.. لإعادة البناء.