ماريان خوري نموذج لسينمائية يفرض علي كل المهتمين بالسينما وعشاقها الوقوف أمامه طويلا لعلنا نتلمس بدايات طريق جديد للسينما المصرية أونهتدي الي سلوك مغاير لما ألفينا عليه طوال سنوات عجاف للسينما في مصر نأمل أن تنتهي وتنزاح غمتها بألوانها الباهتة ورائحتها التي أزكمت الأنوف والتي طالما حبست حركة رياح السينما الجديدة عندنا وعطلتها عن الحركة والدوران وخاصة بعد ثورة الشعب بقيادة الشباب في 25 يناير الفائت ..ماريان ابنة المنتج الكبير "جان خوري" والتي درست الاقتصاد في جامعة أوكسفورد لدرجة الماجستير إلا أنها لم تعمل به وقد وظفته لإدارة "شركة أفلام مصر العالمية" في حياة خالها المخرج العالمي "يوسف شاهين" ومن بعده ... ماريان التي أيدت الثورة منذ أيامها الأولي حتي تعرضت لاعتداء من قبل بعض البلطجية في 3 فبراير تحديدا للضرب والمهانة بينما كانت تساهم بشراء بطاطين من حي بولاق أبوالعلا لتحمي الثوار الشباب من برد التحرير القارس رغم حرارة الثورة ورياح التغيير المنتظر وهي في نفس الوقت تفكر في عمل سينمائي يواكب هذه الثورة ويليق بمكانتها ومثاليتها ليس لمجرد تسجيل أوتوثيق ماحدث لكن البحث عن المسببات والدوافع التي أوصلتنا لما حدث في مصر ... وهي صاحبة فكرة مهرجان "بانوراما الفيلم الأوروبي" التي نجحت في تنظيمه رغم كل التعقيدات البيروقراطية والعراقيل المكتبية وتخطت كل العقبات ونفذت مشروعها لثلاث دورات سنوية متتالية ناجحة ... وهي صاحبة المشروع الطموح "مؤسسة يوسف شاهين" التي تحتوي علي كل ماتركه لنا هذا العملاق في مجال السينما وكذلك ما أنجزه الآخرون من كتابات ودراسات حوله وهنا أظن أنه من الأنسب أن يطلق علي هذا المشروع الكبير "متحف يوسف شاهين" حتي لايأخذ اسم مؤسسة فيبدو كمشروع تجاري يهدف الي الربح أو ممارسة الأعمال التجارية ... وهي المنتجة والمخرجة التي تنحاز لدمج التسجيلي بالروائي لذا كان لها التميز في أعمالها ذات النكهة الخاصة والرؤية السينمائية الواعية بقضايا حرية الإنسان في مصر ودعوته للتمرد والثورة علي واقعه الأليم وإدانة كل الممارسات التي وضعته أسفل سافلين بعد أن انتهكت آدميته وسلبت عقله وحرمته من أبسط حقوقه الانسانية سواء كان هذا الانسان امرأة أوفتاة أورجلا مسنا أو شابا أخضر العمر ... وقد حققت ذلك بالفعل منذ فيلمها الوثائقي الأول "زمن لورا" عام 1999 وأكدته في فيلمها الثاني "عاشقات السينما" 2002 حتي وصلت إلي درجة الرقي العالي في السينما التسجيلية بفيلمها الذي اشترك في اخراجه معها المخرج التسجيلي التونسي" مصطفي الحسناوي" الذي رحل عن عالمنا فجأة منذ بضعة شهور والفيلم جاء تحت عنوان غاية في البلاغة والتعبير وهو" ظلال"، وظني أنها تجربة رائدة ومتفردة في الاخراج المشترك لفيلم تسجيلي طويل (90 ق) في السينما المصرية وقد تذكرنا بما أقدم عليه شاهين نفسه مع تلميذه المخرج خالد يوسف في "هي فوضي" لكنها ليست بالتأكيد فوضي عند ماريان خوري صاحبة هذه التجربة التي تحسب لها. الحد الفاصل سور حديدي مصنوع يمثل حدا فاصلا بين عالمين من البشر: عالم نطلق عليه جزافا وبمنتهي السذاجة "المجانين" أو"مرضي الأمراض العقلية" أو"المرضي النفسيين". .. وعالم آخر وهو عالمنا نحن من ندعي العقلانية وسلامة السلوك أو كما يحلو لنا تسميته ب "عالم العقلاء"، لكن لأي العالمين تنحاز "ماريان خوري" وسط "ظلال" الحياة القاتمة التي تفرض في الكثير من الأحيان التعتيم وعدم وضوح الرؤية وفقدان البصر وعماء البصيرة ؟ تلك القضية التي تحتاج لمن يبحث عن دوافعها ومسبباتها ومن ثم بحثها في قاعة العدل الانساني للوقوف علي حيثيات الحكم فيها حتي لايختل ميزان العدل في يد عدالة معصوبة العينين لاتعرف التمييز أوالانحياز لطرف وحتي نضع الأمور في نصابها الصحيح قبل أن نحكم بجهلنا الذي يفتقد أبسط مؤهلات اعتلاء منصة القضاء وقبل أن تتهم دائرة حكمنا بالانحراف عن جادة الصواب والانحياز لمرتكبي الجرائم في حق الآخرين. والحقيقة أن شرف السبق لاقتحام عالم مايحلو لنا تسميتهم بالمجانين لم يسبق "ماريان خوري" إليه أحد ممن يحسبون علي سينما الحقيقة في مصر ... بمنتهي الشجاعة والتحدي وبعزيمة المحاربين استطاعت "ماريان" أن تكشف عن المسببات والعلل التي جاءت بالبعض إلي داخل أسوار مستشفي الأمراض العقلية في العباسية أوالخانكة ليلقوا مصيرهم المحتوم ورغما عنهم يلقون كل ألوان المهانة والذل والسخافات وكأنهم المذنبون الذين ارتكبوا بحق المجتمع جرائم نكراء علي حين العكس هوالصحيح فهم ضحايا مجتمع سلبهم حقهم في الحياة في أبسط صورها بل تعرضوا في بيئاتهم لعذابات وآلام لم تستطع عقولهم من فرط إحساسهم تحملها فقرروا العيش وان كان قصرا بعيدا عن هذا العالم الذي أصبح غابة مفتوحة فيها البقاء للأشرس وفي بحر شديد الملوحة تأكل حيتانه صغار أسماكه وأصبعياته ...الصحيح أنهم لم يختاروا بل نحن بمنتهي الكره والنفور منهم الذين دفعناهم لهذا المصير غير الانساني فها هو الأب الذي يدفع بولده الشاب المصاب بانفصام في الشخصية إلي عالم المجانين والرجل الذي تمسه روح امرأة مسيحية والمرأة التي تخلص منها زوجها بلا خطيئة أو ذنب ارتكبته والشقيقة التي زج بها لمجرد رفضها الزواج بمن اختاره شقيقها والشاب الذي كان ضحية أقرب الأقربين اليه والشقيقان اللذان تعرضا لمس الجن وأخيرا تلك الفتاة الجميلة التي أصابتها صدمة عصبية ليلة الزفاف بسبب عريسها المعوج السلوك ولم يدخل بها ... وغيرهم من النماذج البشرية التي استطاعت "ماريان خوري" أن تنتزع منا التعاطف معهم والاعجاب بهم في لحظات صدقهم فهم في حقيقة الأمر ضحايا مجتمع سلبهم حقهم في الحياة ونزع عقولهم ليعيشوا نزلاء مستشفي جانبته أبسط مقومات الحياة الآدمية الكريمة علي حين هم المتسامحون والمسالمون أكثر ممن يعيشون خارجه أو داخله من القائمين علي شئونهم علي الرغم من كل المواثيق والأعراف الدولية التي تنادي بحسن التعامل وإنسانيته مع هؤلاء المساكين منها مرسوم الأممالمتحدة الذي صدر عام 1991 بشأن مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي الي جانب الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الاعاقة. صرخة احتجاج قدمت "ماريان خوري" مع "مصطفي الحسناوي" فيلمها "ظلال" بمثابة صرخة احتجاج مدوية تنتصر لعالم مرضي الأمراض العقلية وتعبير انساني راق وغير متعال عليهم في شريط سينمائي فكان لها شرف السبق لدخول هذا العالم بلغة سينمائية رصينة المعني واضحة المفردات وحس سينمائي مرهف لاحذلقة فيه ولا تقعر تمثل في السرد المباشر السهل الممتنع وسيناريو غاية في الاحكام وتمكن حرفي عال في التتابع والربط وتصوير جاء لكل من: "تامر جوزيف" و"فيكتور كريدي" متكاملا علي المستويين: الجمالي والفكري برغم ضيق المكان والحركة العفوية لشخوص أمام كاميرا ومونتاج "دعاء فاضل" والذي جاء متميزا في تتابع لقطاته وميزان ايقاعه وبالقدر الذي يشبع متعة جماليات الرؤية وعنصر الصوت وهو آفة السينما المصرية والذي جاء في "ظلال". ماريان خوري أحد العناصر الأكثر صعوبة علي الاطلاق سواء في الحوارمع النزلاء أوتسجيل المونولوجات وبراعة نقلها وترجمتها علي الشاشة أوالمؤثرات الحية للمبدع "جاد نودين" التي استلزمتها جماليات الفيلم .. كلها صعوبات ومعضلات تغلب عليها بمنتهي البراعة والاقتدار وجهود "لونت شاسني" وقد أضفي علي جماليات الفيلم قوة اضافية تمثلت في مشاهد: الغناء والترانيم المسيحية والصلوات الاسلامية التي جاءت علي أفواه النزلاء المبدعين. بقي أن نقول إن "ماريان خوري" قدمت للسينما التسجيلية الطويلة أحد الأعمال المتفردة علي المستوي الموضوعي والمتميزة علي المستوي الجمالي وعلي مدي 90 دقيقة لم يتسرب إلينا الملل للحظة واحدة برغم قتامة الموضوع وكآبة الحالة وجنون الفكرة إلا أن "ماريان" بمنتهي الذكاء أوالخبث المحمود استطاعت أن ترسم البسمة علي شفاهنا وتفجر الضحكة من صدورنا برغم سوداوية المشكلة وعتامة الصورة ومأساوية الواقع الذي يعيشه هؤلاء المساكين مرضي الأمراض العقلية فهل يجيء يوم نكشف فيه عن هذه الغمة وتنقشع فيه هذه ال "الظلال"؟