بعد غياب امتد لأكثر من عشر سنوات ومنذ أن عرض المخرج الإيطالي الشهير «برناردو برتولتشي» فيلمه عن الثورات باسم «الحالمون» وهذا المبدع السينمائي الكبير غائب تماما عن الشاشات العريضة .. التي يعود إليها هذا العام من خلال التكريم الكبير الذي يقدمه له مهرجان «كان» السينمائي في دورته الجديدة التي ستبدأ يوم 11 مايو. ورغم قلة عدد الأفلام التي أخرجها «برتولتشي» خلال مسيرته الفنية الطويلة التي ابتدأت في الستينات فإن كل واحد من هذه الأفلام يعتبر بحد ذاته تحفة سينمائية خاصة لها وهجها ولها تأثيرها ولها موقعها الكبير علي خارطة السينما العالمية. ربما كان «برتولتشي» هو آخر عباقرة السينما الإيطاليين الكبار الذين صنعوا مجدها ومازالت أفلامهم رغم مرور السنين تزداد توهجا وألقاً وتأثيرا. ابن الشاعر رحل فسكونتي ومن قبله بازوليني وفيليني ثم انطونيوني ووموتيشللي ودوسيكا وبقي «برتولتشي» وحده في الميدان رافعا راية سينما إيطالية متجددة وخلاقة.. هذا الشاب الثائر ابن الشاعر الذي عشق الرسم ومارس الشعر .. وانتمي إلي الأحزاب اليسارية وتطرف في آرائه الاشتراكية قبل أن تمسه «جرثومة السينما» من خلال لقائه مع مخرج شاعر .. أثر علي كل من اقترب منه أو تعامل معه وأعني به الشاعر والكاتب والمفكر بير باولو بازوليني. بازوليني الذي اتجه ضمن ابداعاته المتنوعة الكثيرة إلي السينما اختار «برتولتشي» مساعدا له في واحد من أوائل أفلامه «أكاتون» ولمس فيه منذ هذه التجربة الأولي حسا سينمائيا دافقا .. دفعه إلي تشجيعه علي خوض الميدان وأن يواجه نفسه وموهبته بشجاعة وثقة .. وهكذا جاء فيلمه الأول عن «موت عاهرة» فيلما جريئا قاسيا يحمل كل صفات أسلوبه السينمائي الذي سينمو ويتطور فيما بعد ليصل إلي قمة نضجه في أفلام كبيرة لا تنسي لعل أشهرها «شاي في الصحراء» وآخر «تانجو في باريس» و«القرن العشرين». منذ فيلمه الأول «موت عاهرة» توضح أسلوب «برتولتشي» الذي يمزج بين الشعرية المفرطة في الرؤية وبين التجارب الشخصية وبين التأثيرات الأدبية التي لا يمكن تجاهلها. نظرة تأملية تعلم «برتولتشي» من أستاذه بازوليني كيف يلقي نظرة تأملية شعرية شاملة علي الموضوع الذي يعالجه قبل أن يلجأ إلي تفكيكه والوقوف أمام تفصيلاته الكثيرة، كما تعلم أيضا من أستاذه هذا الشغف بالأدب والشعر والذي سيلازمه طوال حياته والذي سيكون موجها لاختياراته السينمائية والمواضيع التي يعالجها.. مع إعطاء هذه المواضيع لمسة خاصة من تجاربه الشخصية يربط فيها برباط سحري بين النص الأدبي والواقع المعاش وهذا ما فعله في فيلمه الأول «قبل الثورة» الذي أحدث ضجة كبري ولفت الأنظار إليه .. انها نظرة إلي الخلف يلقيها «برتولتشي» علي شبابه ومراهقته مستمدا من شخصية «فابريزيو» بطل ستندال في قصة «دير بارم» روحا وإلهاما وتصرفا. ومن ستندال يلتقي «برتولتشي» ببورفيس أديب أمريكا اللاتينية في فيلمه السياسي النفاذ «استراتيجية العنكبوت» ثم ينتقل إلي مورافيا لينقل قصته عن الانتماء للحزب الشيوعي ثم تركه إياه والتي أطلق عليها اسم «الملتزم» ثم العودة إلي عالم ديستوفسكي في فيلم البديل «وهو دون شك أردأ أفلامه» . لكن الشهرة العالمية الكبري جاءت ل «برتولتشي» إثر إخراجه الفيلم الفضيحة «آخر تانجو في باريس» حيث بدت كل عناصر أسلوبه السينمائي متكاملة شديدة النضج شديدة الإيحاء! شاعرية الحدث، إدارة الممثلين، الدخول إلي أعماق الشخصيات وخلق الجو الدرامي المؤثر. وكان لأداء مارلون براندو في هذا الفيلم تأثير كبير علي شيوعه وجماهيريته مما دفع «برتولتشي» بعد ذلك إلي الاستعانة في كثير من أفلامه بنجوم هوليوود الكبار.. دون أن يتخلي عن أسلوبه الذي عرف به وهكذا مثلا اختار «جيل كلايبرج» «الحائزة آنذاك علي أوسكار أحسن ممثلة» لتلعب الدور الأول في فيلمه الجميل «القمر» الذي يروي علاقة شائكة بين أم وابنها المراهق . شاي في الصحراء كما اختار نجمين أمريكين لبطولة فيلم «شاي في الصحراء» الذي اقتبسه ببراعة عن قصة شهيرة لبول بويلز «الذي كان الأستاذ الروحي لكثير من الكتاب المغاربة الكبار». كما لجأ إلي الجمع بين نجمين من أمريكا وأوروبا هما روبرت دي نيرو وجيرار ديبارديو في فيلمه الملحمي (1900) الذي يروي فيه قصة ولادة وموت الحزب الفاشي في إيطاليا، وموقفه من التيارات اليسارية الفكرية ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. «شاي في الصحراء» كان بداية افتتان «برتولتشي» بالشرق وحضارته والذي دفعه إلي إخراج فيلمين كبيرين الأول منهما «الأمبراطور الأخير» حقق نجاحا ساحقا والثاني «بوذا الصغير» قوبل باللامبالاة مؤسفة لا يستحقها. الجمال النائم ويعود «برتولتشي» إلي إيطاليا ليخرج فيلم «الجمال النائم» معطيا «توسكانيا» منطقته الأصلية بعدا شعريا ونفسيا جمع فيه بين احساسه الشعري بالطبيعة وافتتانه بالجمال .. ولا يلقي فيلمه الإيطالي ما قبل الأخير الذي يروي فيه علاقة رسام بفتاة أفريقية أي نجاح يذكر مما أصابه بشيء الإحباط ولكنه سرعان ما عاد إلي وهجه وتألقه الجمالي والثوري في فيلمه الفاتن «الحالمون» الذي يروي من خلال نظرة خاصة به موقف الشباب من ثورة وأحداث 68 الفرنسية.. من خلال صديقين شابين وشقيقة أحدهما ينزوون في منزل برجوازي فخم هجره أهله ليعيشوا مغامرة الثورة والجنس والوقوف بوجه التقاليد ناقلين الثورة من إطارها الكبير إلي إطارها الصغير المليء بالإيحاء. عالم «برتولتشي» عالم معقد ومثير .. تطغي عليه هالة شعرية وأدبية واضحة ويلعب فيه الجنس دورا رئيسيا يحدد سلوك الشخصيات وتصرفهم تجاه بعضهم وتجاه أنفسهم ثم هناك هذه المسحة الجمالية المؤثرة التي تطبع صورة منذ زمن التقشف الأول في «موت عاهرة» إلي زمن الإبهار الإنتاجي في الإمبراطور الأخير. ولكنه في شتي الأفلام التي قدمها من خلال حساسيته العالية وإحساسه الأدبي الملفت للنظر استطاع أن يضع أركان مدرسة خاصة به وحده رغم تأثره الأول بأستاذه بازوليني وشغفه بأعمال فسكونتي وبولونيني. ولاشك أن هذا التكريم الذي يجيء من مهرجان «كان» هذا العام.. ليذكرنا بعالم وأفلام مخرج كبير .. ربما كان آخر العمالقة الكبار في السينما الأوروبية قد أتي في محله تماما .. ليعيد شهية الحياة والسينما إلي هذا المخرج الفذ الذي يحمل في قلبه وفي كاميراه طاقة جمالية وشحنة شعرية شديدة العمق .. تفتقدها تماما سينمانا المعاصرة. إذا لم يكن لهذا التكريم هدف إلا بخلق جو نفسي يلائم مخرجنا الكبير لكي يعود إلي ما وراء الكاميرا . فهذا وحده يستحق كل الجهد المبذول إلي جانب إتاحة الفرصة لاستعراض أعمال هذا المخرج الكبير من جديد وإلقاء ضوء معاصر عليها.. سنكتشف من خلاله أن «برتولتشي» لم يكن مخرج الماضي .. وإنما هو بحق وبكل جدارة واحد من بناة سينما المستقبل.