أفلام كثيرة مهمة عرضت علي شاشاتنا في هذه الأيام المشرقة والمضاءة بنار الثورة الشبابية .. مرت مرور الكرام، لم يحس بها أحد، ولم يحتف بها عشاق السينما كما تستحق. وأنا لا ألوم في ذلك أحدا، فالهبة الثورية المباركة كانت أشبه بإعصار رفعنا إلي السماء وجعلنا عاجزين أحيانا عن رؤية ما يجري علي سطح الأرض. من هذه الأفلام فيلم يحمل عنوان «اثنا عشر» أو «تويلف» وهو اسم عقار مخدر شديد المفعول يتركز في نقاط صغيرة يستنشقها أو يبلعها «الضحية» فتحيله بعدها إلي مدمن حقيقي .. لا يتورع عن فعل شيء في سبيل الحصول عليها حتي لو كان ذلك علي حساب كرامته وكرامة جسده وحتي لو أدي به ذلك إلي ارتكاب جريمة قتل. الفيلم أخرجه المخرج المتميز «بول شوماكر» ودخل بواسطته إلي أعماق مجتمع أمريكي مرفه قوامه شُبان وشابات من الطبقة الثرية.. أنه يستعرض من خلال أحداث فيلمه مجموعة متميزة من هذه الفئة يسلط عليها ضوءاً فوسفوريا.. يكشف خفاياها من الداخل بمهارة وقوة عرفناها عنه في أفلامه السابقة. وجوه شابة الفيلم يقوم ببطولته مجموعة من الوجوه الشابة التي تخوض تجربة البطولة السينمائية لأول مرة وخط السرد فيه.. ينطلق من شاب يعاني أزمة نفسية خاصة.. تتعلق بعلاقته بأمه «كما سنكتشف في نهاية الفيلم» وقد كرس نفسه لتجارة هذا المخدر القوي مستعينا بمن يعرفهم من أفراد هذه الطبقة الميسرة، التي تقضي أيامها وسهراتها في صخب ولهو وعبث لا ينتهي. إننا نري هذا الشاب الشديد الوسامة.. والذي تنعكس عليه مظاهر اللامبالاة والرغبة بأن يعيش غريبا عن نفسه محاولا ألا يلقي نظرة علي أعماقه المعذبة .. ويكتفي بتوزيع هذا المخدر والعيش علي المكاسب التي يجنيها منه. ومن خلال خط السرد هذا ومن خلال صوت خارج الشاشة يبدو وكأنه صوت القدر. يتسلل الفيلم إلي شخصيات عدة .. نسائية وشبابية.. يلقي عليها ضوءا كاشفا نستدل منه علي ما وصلت إليه هذه الفئة من ضياع ومن تشرد نفسي وروحي ويأس مغلف بنوع من الهزء بكل ما يقوم عليه المجتمع من قيم وعادات وحدود. جريمة قتل الفيلم يبدأ بجريمة قتل يقوم بها رجل أسود هو المصدر الرئيسي لتوزيع هذا المخدر عندما يهدده مراهقان مدمنان بمسدس لا يعرفان كيف يستعملانه مما يسهل علي الزنجي الإطاحة بواحد منهما بقبضة يده وقتل الثاني بدم بارد. ويتجه الاتهام إلي شاب برئ من هذه الشلة الثرية فيقبض عليه رهن التحقيق ورغم صراخه وتمسكه ببراءته فإن قضبانا قاسية تحيط به، وتعيده إلي أرض واقع يتجاهله ولا ينقذه منه إلا تدخل أبيه لإنقاذه .. دون أن يتأكد هذا الأب حقا من براءته. وهناك هذان الأخوان.. الصغير المعقد منهما والكبير الذي يعشق العنف ويحاول تعلم فنونه عن طريق «الساموراي» الياباني مستخدما السيف التقليدي والمسدس الجاهز الطلقات. الأخوان يعيشان في فيلا فخمة تركها الأهل لهما كي يعيشا بها ويقيمان الحفلات الصاخبة التي تتحول دائما إلي حفلات جنس ومخدرات ولهو عابث لا حدود له. الأخ الأصغر يحاول أن ينخرط حقا في هذه المجموعة التي تعبث في بيته ولكن خجله وعقده يمسكان به .. وهذه الحفلات الماجنة تزيده تعقيدا وتدفعه إلي تناول العقار المخدر. وهناك هذه المراهقة الشابة التي أدمنت هي أيضا هذا العقار واستبد بها الإدمان إلي درجة عرض نفسها علي الزنجي مقابل اعطائها جرعة جديدة. نماذج أخري وهناك أيضا نماذج أخري يستعرضها الفيلم بخبث أحيانا وبحرارة كبيرة أحيانا أخري كالفتيات الثلاث اللواتي يبحثن عن الحب عن طريق الجنس أو هذه الفتاة الشقراء التي تود الاحتفال بعيد ميلادها.. في هذه الفيلا المشئومة محاولة هي أيضا أن تبحث عن الحب الكبير الذي تتمناه ولكن كيف لها أن تجده في غمار هذه الفئة التي ضاع رشدها. ولا أريد أن أدخل أكثر من ذلك في تفاصيل قدمها الفيلم ببراعة وذكاء ورسم فيها صورة لا تنسي لمجتمع مخملي فقد اتزانه تماما وكيف انتهت حفلة عيد الميلاد التي حلمت بها الفتاة الصغيرة في مذبحة دموية سقط فيها عدد كبير من أفراد الشلة .. ضحية جنون الأخ المجنون بالعنف الذي اطلق ناراً عشوائياً علي الشلة كلها.. مدافعا عن أخيه المراهق وكيف ذهب الزنجي الفاجر ضحية لفعلته إلي جانب الكثير من الضحايا الأبرياء مع صرخات الفتاة المراهقة الشقراء التي تحول حلمها إلي كابوس. ويخبرنا الصوت الآتي من وراء الشاشة عن أن الأمور عادت إلي سيرها الطبيعي وأن بطلنا الوسيم الذي مازال يعاني عقدة موت أمه مازال غارقا في مشاكله التي لا تنتهي والتي يحاول أن يغرق نفسه فيها كما لا يواجه حقائقه. اتهام مباشر الفيلم يوجه الاتهام بشكل غير مباشر إلي ضياع الأرضية الروحية والأسرية التي كان بإمكانها أن تحمي كل هؤلاء من الانزلاق الخطر إلي هذه الهاربة. غياب الأهل والفراغ والسأم الروحي والثراء هي الخيوط الشيطانية التي ألتفت حول هؤلاء الشباب الذين يملكون كل شيء المال والقوة والوسامة والأمل ولكنهم رغم ذلك عجزوا عن الخلاص من قبضة الاختناق والموت الرمزي. حاول شوماكر أن يقدم نموذجا رائعا لعرض فيلم عن أزمة شباب من خلال شباب ممثلين انتقاهم بعناية واستطاع أن يدخلنا إلي عالمهم المعقد والفارغ ورغبتهم المجنونة بالوصول إلي نشوة جسدية تبعدهم عن مواجهة أنفسهم حتي لو كان ذلك عن طريق الاستعانة بالمخدر الشهير الذي يحمل الفيلم اسمه. كل الممثلين بدوا لنا في فيلم شوماكر قطعة نابضة بالحياة والتمرد واليأس وقدموا بصورة تستحق الإعجاب صورة عن جيلهم الضائع .. ذكرتنا بالنماذج الشابة التي تعاني الأزمة نفسها والتي قدمها المخرج الفرنسي مارسيل كارنيه في فيلمه «المخادعون» الذي حصد شهرة عالمية عند ظهوره في الستينات. فيلم يخوض في مشكلة ظاهرها أمريكي ولكنها موجهه إلي جميع المجتمعات التي يعيش شبابها أزمة مماثلة.. وتلتف خيوط العنكبوت الدموية حول رقابهم. الفشل الجماهيري الذي واجهه هذا الفيلم البديع لم يواجه فيلما آخر شديد الإثارة بعنوان «المجهول» ويروي قصة مخابرات جاسوسية دولية تسعي إلي اغتيال شخصية أمير عربي ويفضح المؤامرات العجيبة التي تحيط بمؤامرة الاغتيال هذه والتي لا يكشف عنها الفيلم إلا في لحظاته الأخيرة تاركا إيانا نهب تشويق مدهش لرجل أمريكي .. يذهب إلي ألمانيا برفقة زوجته ولكن حادثا مأسويا يصيبه وهو في السيارة التي تنقله مرة أخري إلي المطار ليستعيد حقيبة وضع فيها نقوده وجواز سفره. وتفتح عيناه علي المستشفي الذي نقل إليه بعد الحادث .. ويحاول العودة لزوجته التي تركها في الفندق ليجد أن رجلا آخر تقمص شخصيته وأن زوجته الحبيبة تنكره .. وأن كل الأوراق تثبت أنه ليس «هو» فمن هو اذن!! مؤامرة جهنمية من هذه النقطة التشويقية المدهشة يسير الفيلم بنا ليكشف خيوط مؤامرة جهنمية وتنظيماً دولياً إرهابياً «ليس عربيا هذه المرة لحسن الحظ» يسعي لقتل شخصيات عدة متسلحا بجوازات سفر مزيفة وعلاقات تمتد إلي كل جهة وإلي كل مراكز البث في هذا العالم الأوروبي المشتت. ليام نيسن يلعب دور الرجل الباحث عن هويته أمام الجميلة ديانا كروجر التي تلعب دور سائقة التاكسي الذي تسبب في الحادث الذي لم يكن قدريا بل مرسوما بعناية. وظهور خاص لبرونو جانز الممثل الأوروبي الشهير في دور مخبر سري يلقي حتفه عندما يكتشف خيطا مهما من خيوط المؤامرة. فيلم بوليسي شديد التشويق وشديد المهارة بالسيناريو المكتوب وأحداثه المتلاحقة وأداؤه المتميز ولكنه يخفي وراء ردائه البوليسي .. رؤية سياسية ونقدا حرا لما يحدث في كواليس السياسة العالمية وهؤلاء «المختفون» الذين يمسكون بخيوط الأحداث ويديرونها كيفما يشاءون.