ليس مجرد أمل بل قل إنه اطمئنان، إن ثقافتنا نهضت وعلا نبض مداركها،وتكاد تساعدنا علي أن نعرف بأنفسنا، ودأبها لايتوقف في مواجهة مختلف مراكز التحكم والتأثير وصناعة الأسماء وصناعة الشهرة و" القبول" والرواج والكاريزما، وبخاصة تلك التي تعمل من أجل فرض الطاعة العمياء لباباوات الإفتاء والشحن الديني، إنها بالمرصاد لكل غمر تجهيلي ، تحاول نشرالعقلانية شيئا فشيئا في صفوف الشعب، يفرق بين شئون الدين وشئون الدنيا، بين العبادات والمعاملات، ينحسر انخداعه بمشاريع المتاجرين بدينه لأطماع شخصية أو سياسية، فتقوي إرادته نحو فصل الدين عن الدولة،كما أن ثقافتنا لم تتوان عن نقد الماركسية والقومية، في سبيلها إلي تخليص تطورنا نحو الديمقراطية من الملاعيب الخادعة. أصبح عليها أكثر من أي فترة مضت، أن تحذر عددا من الأساطير تتعلق "بالرأي العام" نقبلها كثيرا بلا نقد . هناك بيت الشعر من قصيدة " أبو القاسم الشابي " إذا الشعب يوما أراد الحياة ، والذي عمد الهبات والثورات ضدّ الاستعمار، ولايزال يميل إليه المتحمسون حتي يومنا هذا . ينسب إلي صوت الشعب نوعا من السلطة النهائية والقدرة المطلقة .. فلا بد أن يستجيب القدر! أري من المفيد أن نتتبع بذرة الحقيقة المخفية في أسطورة "صوت الشعب"في عصرنا الحديث، مابين حكم محمدعلي باشا والانقلاب علي آخر سليل لهذا الحكم - الملك فاروق - علي يد ضبّاط وعساكر وجماهير يوليو 1952، في اعتقادي أنه يمكننا الحصول علي محاولة فهم تاريخي " لأسطورة صوت الشعب " يرافق المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وصولا إلي الحالة الراهنة،حيث يدعي كل فريق أنه أصبح الصورة الصحيحة للصواب الفطري لذلك الرمز الأسطوري المسمي "رجل الشارع" والطريقة التي يستثار بها. منذ مائتي عام تقريبا يبدأ العصر الحديث في مصر.. ينضم محمد علي باشا المولود بمدينة قولة إحدي مدن اليونان سنة 1769 م إلي كتيبة للباب العالي "تركيا" للدفاع عن مصر ضد قيام الفرنسيين باحتلالهاويظل بها ويشهد انتهاء الحملة الفرنسية علي مصر. يتولي محمد علي الحكم ويقال إن الأمر تم بإرادة الشعب المصري متحديا بذلك سلطة الدولة العثمانية.المهمّ أن نلاحظ ونحن نتحرك علي الأحداث - رغم اختلاف الزمن والظروف - القسمات والخصائص التي سوف تستمر ملازمة لاستثارة الرأي العام، يتبع مجادلات الصفوة. يصدقها حين تطلق علي عصر محمد علي وأسرته اسم العهد البائد ليصبح حكم يوليو عهدا جديدا وثوريا، ولامانع من أن نعود مرة أخري، فنعترف بأن محمدعلي هو باني مصر الحديثة, استسمح القاريء ألا يحرص علي استخدام كلمة "تقدم " بمعني قانون للتقدم " تحمله فكرة - إيديولوجية أو نظرية أو مشروع، الفكرة التي ستظل ملازمة تنفي القطيعة الابستمولوجية المطلقة بين عصورنا المختلفة من محمد علي إلي يومنا، ماهي إلا شعور بوقوع ظلم يمكن بل ويلزم تصحيحه. لا شيء ينشأ من عدم! إن ما ستحاوله يوليو - حين نفك أسرنا من العقائد الفكرية التي سادت ما قبل يوليو وعقب قيامها،انما يمد بجذوره في عصر محمد علي بمافيه الهزائم والنكسات، يهمنا الثمن الذي كان علينا أن ندفعه للتقدم في اتّجاهات بذاتها . ثمة جزء مما دفعناه يفصح عنه تاريخ أخطائنا العديدة الفاجعة - أخطاء في أهدافنا وأخطاء في اختيارنا للوسائل . لا أعني أخطاء الذين صنعوا التاريخ فحسب إنما أخطاء الذين تعذبوا بصنعه أيضا -أخطاء "الرأي العام" "صوت الشعب" هو بطريقة "ما"مسئول أمام نفسه،حين يرتد أذي من يعتنق البروباجندا الخاطئة ليصيب الجميع. والتناظر بين13 مايو سنة 1805م (تاريخ تولي محمد علي للسلطة) و23يوليو1952أمر يستحقّ التأمل، لم يكتب محمد علي كتابا باسم فلسفة الثورة ، ولا صاغ مباديء ستة لعهده وأولاده الذين خلفوه علي حكم مصر، ما أن بدأ إلا وكان قد عزم بل وصمم علي أن يجعل من مصر دولة لها سيادة بعد غياب قرون طويلة لهذه السيادة . كل الأشياء ستصنع التقدم الذي حصل في عهد محمد علي كما تصنعه بقيام يوليو تحقيقا لهذه الرغبة - بدءا من هدف الزعيم غير المعلن وهو صنع مجد شخصي- إلي محاربة الإنجليز. يتخلّص محمد علي من تهديدهم بانتصاره عليهم في الحملة التي قادها فريزر1807، ويفعلها عبد الناصر بمعاهدة الجلاء 1954ثم بالانتصار علي العدوان الثلاثي 1956، هذه الأهداف تفرض مرحلة جديدة من النهضة أثرت علي تاريخنا السياسي والحربي والاقتصادي والاجتماعي، ستتحقق العديد من الانتصارات في مجال تقوية الجيش والصناعة والزراعة والتعليم، وستظهر قناة السويس التي أنشئت في عهدسعيد باشا ابن محمدعلي تمارس تأثيرها علي التاريخ القومي وعلاقتنا الدولية، وستراودنا دائما فكرة السير علي نفس خطي التقدم والرقي الذي تشهده دول العالم التي سبقتنا علي مضمار التقدم في ذلك الوقت! يكون ضروريا تحقيق تغيرات اجتماعية بقرارات سياسية. وفي كل الاحتمالات تطلب التغيير استخدام القوة لاالحرية أو افتراض التعدد في الرؤي ، للتغلب علي المعارضة وعلي الركود الاجتماعي في حد ذاته. ولم يبدو مرجحا علي المدي القصير أن يحدث تطور في أسطورة تقدم الرأي العام! التخلص من الزعامة الشعبية بعد أن استتب لمحمد علي باشا الحكم تخلص أولا من الزعامة الشعبية المتمثلة بكبيرها عمر مكرم فعزله ونفاه إلي دمياط (تذكّروا ماتم بالنسبة لحزب الوفد وإلزام النحاس باشا لبيته بعد خروجه من مجلس قيادة الثورة وكان قد ذهب مهنئا بنجاح حركة الجيش، وبعد أن انتظر أكثر من اللازم حتي يؤذن له، استهل تهنئته قائلا للواءمحمد نجيب: زعيم ال 18مليون " تعداد الشعب المصري في ذلك الوقت " يهنيء زعيم ال 18 ألف " تعداد الجيش المصري في نفس التاريخ"!). لم يكن لعبد الناصر مماليك كهؤلاء الذين قضي عليهم محمد علي في مذبحة القلعة الشهيرة سنة 1811م، كان لعبد الناصر الإخوان المسلمون والشيوعيون وغيرهم من معارضي حكمه. والتاريخ لا يعيد نفسه ولكن ما أريد أن أقوله هو انه يمكننا فهمه بطريقة مختلفة تعني أننا نحن الذين نمنحه المعني من خلال عملنا وسلوكنا النشط. فليس من المرجح أن استيلاء فريق علي السلطة سيمثل " صوت الشعب " ، سلطة المشيئة الشعبية، روح الشعب ، عبقرية الأمة ،غريزة السلالة ..المستثارة عاطفيا وحدسها بالظلم أكثرمنه حدس بالحقيقة الواقعية، وتتّسم كثيرا بالغفلة والاستجابة لأفكار وجهود أرستقرطيي الفكر. يستمر من محمد علي إلي يومنا هذا فيصل بطيء الحركة سلبيا ومحافظا بطبيعته .ينتظر الثقافة التي تهزه حتي نقدر علي أن نتبين في النهاية حقيقة ادعاءات الثوار والمصلحين من محمد علي إلي يوليو، من النظام الملكي إلي النظام الجمهوري . أسلم أن ثمة حدودا للأفكارالتي تبنيتها في فترات من حياتي،بذلت فيها تضحيات قاسية معتقدا في المجتمع المثالي. تارة يمكن أن تصنعه دعوة الإخوان المسلمين (إعادة دولة الخلافة الإسلامية) وتارة يمكن أن تقيمه الشيوعية (بإقامة ديكتاتورية البروليتاريا). أعلن لكم أن جل الأفكار التي أراها جديدة ويراها البعض ومنهم أصدقائي وبعض رفاقي القدامي تراجعا، نشأت في خضم صدام ثقافي واجه مصر كلها وفي فترات مختلفة من تاريخها وقد شهدته وشاهدته يشتد أواره في تسعينات القرن العشرين . وكادت الجماعات الدينية العنيفة أن تحول مصرخلاله إلي ساحة حرب . قام أطباء مصريون انضممت إليهم بتأسيس" جمعية أطبّاء مصر" هدفها لم يكن أكثر من فضّ سيطرة ماسمّي نفسه" بالتيار الإسلامي " علي النقابات المهنية وفي مقدمتها نقابة الأطباء. لاتجد فترة التسعينات في مصر حتي الآن تفسيرا كاملا، جزء من التفسير- جزء لاأكثر- يكمن في التضارب، في الصدام الثقافي، تبزغ ملامح أفكار جديدة رائعة، علي رأسها ألا نعتقد أو نثق في الإجماع، وأن لنا الحق في نقد مانسلم به من أشياء. ورغم خضم الخرافات والتغييب الذي تمخر ثقافتنا عبابه، فهي لا تكف عن محاولة الطفو بنا، والانغمار ليس مطلقا وإغراقنا بالسطحية والإثارة والغش والتجهيل والتهريج والتحذلق والسفسفطة والتزييف ليس قدرا. والثقافة والكتب والمطبوعات والصحافة والقنوات والأبحاث والدراسات لاتزال قادرة علي أن تحمل قبسات من بروميثيوس.