لم يكتف مهرجان إسكندرية لهذا العام بإعداد اختيار شديد التوفيق لأفلام المسابقة الرسمية بل أتبعه باختيار مجموعة كبيرة من أفلام شديدة الأهمية.. أحس المسئولون عن الاختيار بحاجة الجمهور «خصوصا هذا الجمهور الذي يتابع الأحداث السينمائية العالمية» إلي متابعتها وإرضاء فضوله لرؤيتها بعد قراءته الكثير من التعليقات الفنية عليها. من أهم هذه الأفلام وأكثرها تشويقا فيلم كارلوس ساورا الأخير الذي أنتجه بالمشاركة مع إيطاليا دون جوان لموزارت التي أعدها سينمائيا حسب طريقته وأسلوبه الخاص.. والتي تشكل حدثا موسيقيا وفنيا وسينمائيا خارقا للعادة خصوصا أن المسئول عن التصوير فيها «ستورارو» هو واحد من أعظم المصورين في تاريخ السينما. تحفة رائعة وقد سبق لنا في هذا المجال أن تكلمنا بإسهاب عن هذه التحفة الفنية الرائعة التي اعتبرها الكثيرون جوهرة سينمائية نادرة. من الأفلام المهمة الأخري.. التي يعرضها المهرجان الفيلم التركي «رجال علي الجسر» وهو أحد سلسلة الأفلام الواقعية التي تعبر عن الواقع التركي المعاصر من خلال رؤية شعرية واجتماعية نافذة. الفيلم يروي قصة ثلاثة رجال من مهن مختلفة.. سائق تاكسي.. بما فيها من المشاكل العائلية والمادية في مجتمع استهلاكي لا يرحم.. وعسكري مرور.. يواجه المجتمع والثاني في مدينة اكتظت بالناس والسيارات والمشاكل.. ويحلم بالعودة إلي قريته بعد أن تحطم حلمه بجنة المدينة.. التي احرقته عوضا عن أن تشفيه. وأخيرا.. بائع متجول.. تختلف مهنته باختلاف المزاج العام فهو طارة يبيع وردًا وطارة يبيع مناديل.. وأخري بضاعات رخيصة. يعيش حياته مطاردا من حين إلي آخر ومن قبل الناس والدوة معًا إنه يحيا الحياة علي هامش الحياة ومن خلال سباق درامي شديد الاتقان.. يتقابل مصير هؤلاء الثلاثة ويتفرق من خلال مدينة تحولت إلي كورس تراجيدي يشحنه القلق علي الأحداث من خلال صورة براقة لا تلف لحظة عن الإبهار. فيلم مدهش بكل تفاصيله وشخصياته وبنائه.. كاد أن يكون الاختيار التركي الرسمي للمسابقة.. لولا أن خطوه نحو الظلام أثار لجنة الاختيار بموضوعه الحارق عن الأكراد والعراق والدور الإيراني فاستحوذ علي الاهتمام.. تاركا رجال في الجسر يواجهون الجمهور دون دعاية كبيرة أو اطلالة خاصة. الذي يحتفي هذا العام احتفاءً خاصا ومحقا بالسينما التركية هو فيلم «توزموس» الذي يتمتع بصورة تخلب الألباب، عن الطبيعة التركية في قرية جميلة تقع علي النهر.. ومن خلال قضية غرائبية بعيدة عن المنطق المعتاد.. تروي وصول رجل خارق بإمكانه القيام بالمعجزات مما يشكل انقلابا حقيقيا في حياة القرية وسكانها. فلم تختلط فيه الروحانيات بالمعجزات من خلال خلفية سياسية وعاطفية عرف المخرج الماهر كيف يولفها. الضاحك الباكي أما اليونان فتقدم بالإضافة إلي فيلمها الضاحك الباكي «صاحب العمارة» الذي يمثلها في المسابقة فيلم آخر مثير باسم «أكاديمية أفلاطون» وهو فيلم نصف كوميدي عن أزمة السكان اليونان مع جيرانهم الغرباء.. خصوصا المهاجرين الألبان.. والعمالة الأجنبية.. بين يوناني شديد التعصب لأصوله اليونانية ويأخذ موقفا متشددا من الألبان القادمين إلي أن يكتشف أن بدوره سليل أسرة ألبانية مهاجرة. فيلم عن الواقع المحلي في اليونان.. قاس من اتهامه ولكن شديد اللفت في عرضه يمثل درسا قويا في كيف يمكن تقديم موضوع مغرق في دراميته بصورة سلسة ضاحكة. وهناك فيلم فرنسي شديد التفوق ومن خلال أداء تمثيلي بعنوان «فرفشة شامبون» ويروي علاقة رب أسرة يعمل «نقاشا» سعيدا في زواجه وأسرته إلي أن يتعرف بأستاذة ابنه الصغير ويساعدها في عدة أعمال صغيرة تحتاجها في شقتها.. وتنشأ علاقة حارة من الأستاذة التي أشرفت علي الثلاثين وهذا الرجل المتزوج السعيد.. تنتهي نهاية غير متوقعة. رغم نمطية القصة وعدم احتوائها علي أي عنصر جدية أو مفاجئ.. يشد الفيلم انتباه المتفرج.. ويوقظ حواسه كلها وتستطيع الرومانسية الفرنسية ببراعتها وذكائها ودقتها أن تسيطر علي مشاعر المتفرج.. الذي يجد نفسه مسوقا رغما عنه إلي التعاطف مع العاشقين. رغم أسرة البطل الرائعة وسلوكها المتحضر ورغم انزلاق هذه المعلمة الفاضلة إلي علاقة غير مشروعة تستحق الإدانة أكثر مما تجلب التعاطف. فيلم فرنسي عاطفي يعود بنا إلي الأيام الذهبية الفرنسية حيث كانت أفلام الحب التي تأتينا من باريس كانت بمثابة دروس حياتية للعشاق في العالم أجمع. وهناك أيضا فيلم يوناني آخر يستحق التأمل والمشاهدة إذ يبدو أن تركيا واليونان رغم العداء التاريخي بينهما وجدا في مهرجان الإسكندرية أرضا مشتركة لإبراز مقدرتهما السينمائية والرؤي الخاصة التي يقدمونها تجاه أكثر من مشكلة حارقة تهدد بلادهم. الفيلم يدعي «ثورات صغيرة».. وهو فيلم غريب إلي حد ما.. يقوم علي سيناريو غامض يعوزه التوازن ليروي علاقة بين ممثلة مغمورة اعتدي عليها أبوها جنسيا وهي مازالت مراهقة وترك هذا الاعتداء جرحًا غائرا في نفسها لا تتمكن من نسيانه، ثم علاقتها برسام شاب يحاول إحياء لوحات فنان مجهول من القرون الوسطي. الفيلم ينجح في خلق أجواء شديدة الجمال وأداء شديد التأثير من الممثلة الأولي ومشاهد رائعة سينمائية ولكنها جاءت متفرقة ومتباعدة إلي حد ما. الحب المجنون قد يكون الفيلم صعب المأخذ علي الجمهور العادي الذي تعود السهولة في السرد وتعود ألا يتعب نفسه في تتبع ما وراء الأحداث، وما تعنيه الصورة من رموز.. ولكن الجهد الذي يمكن أن يبذله في فهم الفيلم لن يضيع هباء لأن المحتوي العميق الذي تحمله أحداثه ستدفعه إلي التفكير طويلا بالفيلم بعد انتهائه من مشاهدته، وقليلة حقا هذه الأفلام التي يمكن أن تترك في نفوسنا مثل هذا التأثير. وأخيرا لابد أن أشير إلي فيلم إسباني مثير هو «أمور لوبوس» أو الحب المجنون.. الذي يتمتع بسيناريو شديد الاتقان وتصوير وديكور مدهشين. ويستعرض الفيلم حالة مرضية شديدة الخصوصية عرضها الفيلم بأسلوب سينمائي شديد الابتكار.. ومن خلال أداء تمثيلي مثير قد يكون الفيلم محتويا علي مشاهد جنسية جريئة سمحت رقابة المهرجان الخاصة بعرضها نظرا لطبيعة موضوع الفيلم والأسلوب الراقي الذي عولجت به هذه المشاهد. الحب المجنون مثال آخر عن الحرية المطلقة في التعبير عن الجنس والتي بدأت تمارسها السينما الأوروبية والأمريكية علي نطاق واسع. نعم مائدة المهرجان السينمائي بالإسكندرية هذا العام كانت حافلة بثمار شتي أرضت جميع الأذواق.