اعترافا بمشاركتها الفعالة في إثراء مسيرة المسرح المصري تم تكريم الفنانة القديرة/ كريمة مختار ضمن فعاليات الدورة الأخيرة "للمهرجان القومي للمسرح المصري" والتي عقدت خلال النصف الثاني من شهر يوليو الماضي. استطاعت طوال مشوارها الفني أن تكشف لنا عن إمكانيات أدائية رفيعة المستوي وأن تضع بصمتها الخاصة المميزة بجميع أدوارها المتنوعة، كما استطاعت من خلال توظيف موهبتها التي أثقلتها بالدراسة في الخروج من مدرسة الأداء التلقائي التقليدي لتقدم لنا أداء تمثيليا منهجيا بصورة تتسم بالتلقائية الشديدة، وبهذا فقد نجحت في تجاوز ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل ما بين الحرفية والفن، كما نجحت في أن تكون لنفسها شخصيتها الفنية المستقلة، وقد ساعدها علي ذلك بلا شك حضورها الطاغي وملامحها الطيبة الهادئة وصوتها الدافئ الحنون، فقدمت لنا صورا مختلفة ومتنوعة للمرأة المصرية، وخاصة الأم المصرية العصرية (سواء كانت مثقفة أو أمية)، وسواء كانت تنتمي إلي بعض الطبقات الارستقراطية العليا أو كانت تنتمي إلي الطبقات المتوسطة أو الشعبية، ومن خلال دور الأم تنوعت أدوارها فجسدت أحيانا نموذج الأم ذات الشخصية القوية و في أحيان أخري جسدت لنا نموذج الأم الضعيفة المغلوبة علي أمرها. برامج الأطفال اسمها الحقيقي: (عطيات محمد البدري) من مواليد 16 يوليو عام 1934، وهي الشقيقة الصغري لكل من السيدتين فوزية (أرملة الفنان القدير/ محمد توفيق) والإذاعية الشهيرة/ عواطف البدري، وكان والدهم يعمل مديرا لحسابات إحدي الشركات الأجنبية،وقد حصلت علي بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1963، والذي التحقت به بناء علي نصيحة الرائد الكبير/ زكي طليمات عندما جمعتهما الصدفة. بدأت الفنانة الموهوبة حياتها العملية من خلال برامج الأطفال وهي لاتزال طالبة، وذلك حينما نجح الإذاعي الكبير/ محمد محمود شعبان (بابا شارو) إقناع والدها بمشاركتها في برنامجه الشهير، وهو الذي اختار لها الاسم الفني "كريمة مختار" بعد ذلك، ومن خلال الإذاعة نجحت بعد ذلك في المشاركة بالعديد من التمثيليات التي حققت لها الشهرة ومن بينها علي سبيل المثال: العسل المر، حسن ونعيمة، قيس ولبني. ارتبطت بالزواج بالفنان الكبير/ نور الدمرداش في فترة مبكرة من حياتها وبالتحديد عام 1958، فكان لارتباطهما معا أثر كبير في تشجيعها علي الاستمرار بالعمل الفني، وقد تم تتويج هذه العلاقة بإنجاب ثلاثة أبناء هم شريف (عميد الشرطة)، وهبة الله (الحاصلة علي ماجستير العلوم السياسية)، ومعتز (الإعلامي اللامع). أم زميلاتها والمدهش أن الفنانة القديرة/ كريمة مختار ومنذ فترة مبكرة من عمرها استطاعت أن تجسد ببراعة دور "الأم" لبعض الممثلات اللاتي في نفس عمرها!!، ونجحت في أداء هذه الشخصية وجسدتها بتنويعاتها المختلفة بفطرة سليمة وبتلقائية وبلا تصنع ولا افتعال، فاستطاعت أن تضفي علي أدوارها المختلفة لمسات جذابة ساحرة . وإذا كان تاريخ الدراما يحفظ بذاكرته أسماء بعض الفنانات اللاتي أبدعن في أداء دور الأم القاسية ومن بينهن: دولت أبيض، زوزو حمدي الحكيم، نجمة إبراهيم، علوية جميل، زوزو ماضي، زوزو وميمي شكيب، فإن الفنانة/ كريمة مختار تميل في أدوارها إلي تجسيد شخصية الأم الطيبة الحنون، فهي امتداد طبيعي ورائع للقديرات: فردوس محمد، زينب صدقي، أمينة رزق، عزيزة حلمي، ناهد سمير، آمال زايد، وإن استطاعت أن تقدم مع كل من مريم فخر الدين وليلي فوزي وليلي طاهر نماذج للأم المصرية المثقفة في عصرنا الحديث. ويحسب للفنانة/ كريمة مختار نجاحها في رفض التنميط والهروب من مصيدته القاتلة لأصحاب المواهب الحقيقية، وبالرغم من أن بعض أدوارها كانت تقريبا متشابهة من ناحية التركيب الإنساني إلا أنها كانت بذكائها وخبرتها تنجح في صباغة كل شخصية من الشخصيات التي تجسدها بصبغة خاصة بحيث لا تتكرر أو تتشابه مع الشخصيات الأخري، وقد حرصت بوعيها - أثناء مسيرتها الفنية - علي تطوير وتجديد صورتها وأدوارها من خلال الأعمال الدرامية المختلفة، فقدمت شخصيات متباينة ومختلفة بنوع من الاجتهاد والجهد الشخصي، وذلك عن طريق اهتمامها بالتفاصيل الدقيقة لكل شخصية، وبالاعتماد علي التعمق في العالم النفسي لكل شخصية درامية، وعلي رصدها الدقيق وتحليلها للسياق الاجتماعي الذي عاشت فيه كل شخصية (بمختلف مراحل حياتها)، بالإضافة إلي احتشادها بالأحاسيس والمشاعر المتولدة من حساسية عميقة بجماليات التعبير الصوتي والجسدي، وبالتالي فقد أصبح لأدائها التمثيلي سمات وملامح خاصة بها، وبحيث أصبح المشاهد يتوقع مع كل عمل شيئا جديدا وذلك بالرغم من حرصها علي الالتزام بالنص ورفضها الشديد لافتعال الصنعة. والحقيقة التي يجب ذكرها هي أن الفنانة "كريمة مختار" قد استطاعت خلال مسيرتها الفنية الثرية الجمع بين كثير من التناقضات، فقد نجحت في كل من الأداء المسرحي والأداء السينمائي والتلفزيوني، ونجحت أيضا في الجمع بتميز بين أداء الأدوار التراجيدية والأدوار الكوميدية، وكذلك نجحت وتفوقت في الأداء التمثيلي سواء باللغة العربية الفصحي أو باللهجة العامية الدارجة (أو بعض اللهجات الخاصة كاللهجة الفلاحي أو البدوي أو الصعيدي). وقد اعتمدت الفنانة المتميزة/ كريمة مختار في أداء أدوارها المختلفة علي قدرتها الهائلة علي التعبير بجميع ملامح وقسمات وجهها وخاصة العينين، فنجحت في إثراء أصعب المواقف والتعبير عن تلك المعاني التي قد يعجز الحوار عن التعبير عنها، كما اعتمدت علي قدرتها بالتحكم في انفعالاتها وضبط وتوظيف إيقاع حركاتها وإيماءاتها، وذلك لوعيها الكامل بالفروق اللازمة بالأداء في مختلف القنوات الفنية وخاصة بين التمثيل علي خشبة المسرح والتمثيل أمام كاميرات التصوير بإمكانياتها وحساسيتها الفائقة. هذا ويمكن من خلال الرصد الفني لأعمال الفنانة القديرة/ كريمة مختار بالقنوات الفنية المختلفة علي مدي ما يقرب من نصف قرن أن نلاحظ أن كم عطائها الأكبر كان من خلال السهرات والمسلسلات الإذاعية والتلفزيونية، حيث شاركت في بطولة ما يقرب من خمسين مسلسلا من بينهم: أصيلة، برديس، البخيل وأنا، أبو العلا البشري، نحن لا نزرع الشوك، الرجل والدخان، العمة نور، ألف ليلة وليلة، الجنة العذراء، أبو ذر الغفاري، من عظماء الإسلام، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإن كان أشهر أدوارها في هذا الصدد هو دور "ماما نونا" بمسلسل حمادة عزو، وبعد ذلك يجيء عطاؤها السينمائي حيث شاركت في بطولة ما يزيد عن خمسة وعشرين فيلما من أهمها: ثمن الحرية، المستحيل، الحفيد، أميرة حبي أنا، وبالوالدين إحسانا، الليلة الموعودة، ومضي قطار العمر، رجل فقد عقله، سعد اليتيم، إسماعيلية رايح جاي، ثم يجيء المسرح في النهاية بالرغم من جودة وتميز تلك الأدوار التي قامت بتقديمها وظلت بالذاكرة ومن أهمها: "وصيفة" بمسرحية الأرض، "ناعسة" بمسرحية أيوب الجديد، "ليلي العامرية" بمسرحية مجنون ليلي، "زهرة" بمسرحية ميرمار، وأدوار الأم بمسرحيات: آه ياليل ياقمر (والدة بهية)، بداية ونهاية، العيال كبرت، ملاعيب (والدة علي الزيبق). هذا وبخلاف أدوارها الفنية المتميزة يحسب لهذه الفنانة الأصيلة مشاركتها في أكثر من حملة تليفزيونية للتوعية، ولعل من أهمها حملة "تنظيم الأسرة" والتي جسدت من خلالها شخصية الدكتورة/ كريمة الطبيبة وأخصائية تنظيم الأسرة.