علاقة وطيدة ظهرت بينهما منذ قديم الأزل، ولكننا لا نعرف هل هذه العلاقة ولدت مع الإنسان أم أنها قوي من خارجه تحاول تغيير مسارات النفس البشرية إلي الأسوأ، إنها علاقة الشيطان بالإنسان، وهل الشيطان يوجد بداخل كل منا أم أننا نستحضره بتوجهات أفعالنا؟ حول هذه المفاهيم تدور أحداث العرض الذي يحمل اسم بطله "حباك عوضين تامر"، الذي يعرض الآن علي مسرح السلام من إنتاج مسرح الشباب . التأليف للكاتب المسرحي الكبير سامح مهران الذي فاجأنا بهذه الفانتازيا الشعبية الكوميدية المأخوذة عن أسطورة فاوست ولكنها بمعالجة جديدة تماما عن الأعمال الفنية التي أخذت عن هذه الأسطورة، أما الإخراج فهو لجلال عثمان الذي تحول من خلال هذا العرض إلي مخرج مسرحي لا يستهان به. يدور النص حول شاب من صعيد مصر ينتمي لأسرة متوسطة، حاصل علي مؤهل عال ولكنه عاطل عن العمل مثل العديد من أبناء جيله، يبدأ النص بدفن الشاب لجثة والده الذي مات في حريق أحد القطارات، ويحاول الشيطان بعد أن لمس فيه ضعف النفس وتذمره علي واقعه الايقاع به لكي يقتل ويسرق من خلال عدة أشخاص ولكنه لا يفلح في ذلك، فيقرر أن يظهر له بنفسه للإيقاع به ومع ظهور الشيطان تبدأ أحداث العرض حيث يأخذه معه في رحلة للتعرف علي بعض أتباعه من الشخصيات والذين استطاعوا أن يصلوا إلي حلم السلطة والمال بطرق غير مشروعة، و يقرر بطل العرض "حباك" أن ينتصر علي الشيطان بالوصول للمال من خلال لعبة التمثيل التي يمارسها مع والدته وخطيبته علي أشرار قريته والمتمثلين في شخصيتي العمدة وشيخ الغفرمن خلال مايؤمنون به من معتقدات الدجل والشعوذة دون اللجوء إلي القتل أو السرقة ولكن بالخديعة، ويستطيع هذا الشاب النجاح في تحقيق خديعته ويجعل الشيطان يتقزم من الهزيمة، ولكنه يعد الشاب بأنه سوف يعود له لأنه لم ينتصر في معركة الحياة ولكنه ربح جولة واحدة فيها. قدم مؤلف العرض سامح مهران فكرته بمعالجة جديدة تماما لأسطورة فاوست، ظاهرا فيها الجوانب التراثية والتي جاءت في استخدامه لبعض الأمثال الشعبية التي وردت علي لسان شخصيات العرض، ومن خلال اعتماد البطل علي معتقدات الدجل والشعوذة في الوصول لتحقيق هدفه في جمع الأموال. ومن ناحية أخري ربط أحداث العرض بالواقع الراهن وظهر ذلك بوضوح في شخصية "رأسمالي وطني"، وعلاقة الأم بالابن "حباك"، وإلقاء الضوء علي مشكلة البطالة وتأثيرها علي توجهات الشباب--- وغيرها. وقد صاغ المؤلف نصه في شكل فانتازيا شعبية كوميدية تعتمد علي الفارس وان كانت هذه سمة من سمات نصوص المؤلف، حوار الشخصيات يتميز بجرس سمعي بديع جمع بين اللهجة الصعيدي والعامية الدارجة، ينضح مضمونه بثقافة مؤلفه فعلي سبيل المثال اختيار اسم "بعلزبول" المرادف لكلمة الشيطان أو رئيس الشياطين في النصوص التراثية هو الأبعد علي مسامع الجمهور ولكن اختياره هنا يضيف إلي ثقافة المشاهد بشكل كوميدي وبسيط ، ظهورشخصية الأم ذات الثقافة المتخبطة الجامعة بين العنف وانعدام الأخلاق والتدين نظرا لتعلقها بجهاز التليفزيون الذي يبث ثقافات مناقضة لبعضها البعض حسب توجهات كل قناة--- والعديد من الرسائل الأخري التي تضمنها النص والتي ترصد الواقع الراهن . وقد اعتمد المؤلف في كتابته للنص علي الميتاتياتر"التمثيل داخل الثمثيل" والكتابة في هذا النوع من النصوص يحتاج إلي حرفة عالية المستوي في الكتابة. ويعد هذا النص إضافة إلي مجموعة نصوص المؤلف السابقة التي كتبت بالعربية الفصحي، والفلاحي، والعامية الدارجة، والصعيدي، والقالب الذي قدم به علي طريقة السهل الممتنع يثبت أن سامح مهران هو شيطان الكتابة المسرحية في مصرالآن. واللافت للنظر في هذا العرض أنه استطاع أن يحقق معدل ايرادات رائع، ولم أصدق ذلك الا عندما ذهبت بنفسي لمشاهدة العرض في يوم الخميس الخامس عشر من يوليو ووجدت المسرح يعلق لافتة كامل العدد، وربما هذا يعود لنجاح التوليفة المسرحية لنص المؤلف هذه المرة والتي جمعت بين الكوميديا، والغناء، والاستعراض، والمضمون التثقيفي، ونجوم التمثيل، ولذلك كان جمهور هذا العرض متنوعا جمع بين فئة المثقفين والعامة. طرح مخرج مسرحي جديد مخرج العرض هو جلال عثمان الذي قدم العديد من الأدوار في مسرحيات الدولة، ولكنه من خلال هذا العرض طرح نفسه كمخرج مسرحي، و قدم رؤيتة الإخراجية للنص في إطار غنائي استعراضي، وكان لهذا الجانب ايجابياته التي تمثلت في أن معظم الألحان والاستعراضات وظفت بشكل جيد، أما سلبياته فاقتصرت علي التطويل في بعض اللوحات الغنائية كما في استعراض البداية "شكر الله سعيكم"، إلي جانب أن بعض الأغنيات والاستعراضات كان وجودها مقحما علي العرض مثل استعراض الاحتفال بالنصب علي العمدة والذي كان من الأوقع أن يقدم بنص حواري قصير لأن الحدث المكتوب في النص لا يحتاج إلي ما يؤكده، واستعراض " الحلم" الذي جاء تكرار لنص الحوار التمثيلي ولم يضف للحدث الدرامي، وكذلك استعراض ختام العرض "مغزل غازل" الذي لم يكن المخرج موفقا في تقديمه علي الاطلاق لأن الحوار الختامي للعرض والذي جاء علي لسان شخصية "حباك" استوفي تلخيص مضمون فكرة النص بدقة شديدة، وجاء المخرج باستعراض الختام ليحول نهاية العرض إلي نهاية نمطية أبرز فيها زواج بطل العرض "حباك" ببطلته "صبوحة" وفي رأيي أن هذا الختام كان باهتا وربما يحتاج لإعادة نظر. أما علي مستوي حركة الممثلين فقد قدمها المخرج بشكل جيد واستطاع أن يستغل مساحة خشبته بأكملها بشكل رائع، والتي قسمت إلي مستويين في بعض المشاهد كتلك التي كانت في المقابر، ومستوي واحد مسطح في مشاهد أخري . وقد استغل المخرج بعض الأغنيات لتغيير الديكور أثنائها بشكل لا يخل بالشكل الجمالي للعرض كما في لحن "اضرب بجناحك" . ومن ناحية أخري قدم المخرج تصورا رائعا لبعض المشاهد الفنتازية بالرغم من فقر إمكانات الخشبة وأذكر منها مشهد طيران "حباك" بأجنحته التي عالجها بأرجوحة تدلت من السوفيتا يجلس عليها ممثل أخفيت ملامحه بارتدائه ملابس بيضاء وغمره بإضاءة الألترا، وكذلك في مشهدي تعملق وتقزم الشيطان. ومما لا شك فيه أن جلال عثمان استطاع أن يعبر من بوابة مخرجي المسرح المتميزين من خلال هذا العرض. شخصيات العرض اشترك في تجسيد شخصيات العرض مجموعة من نجوم التمثيل وكانوا كالتالي: الشخصية المحورية في العرض كانت "حباك عوضين تامر" والتي جسدها الفنان محمد رياض وهو دور جديد عليه في مجال المسرح، وقد بذل فيه مجهودا كبيرا خاصة وأن مساحة دوره شغلت أكثر من نصف العرض، وقد أدي الدور بشكل رائع ممتلكا مفاتيح الشخصية . أم حباك وهي الشخصية التي جسدتها الفنانة الكبيرة "ليلي طاهر" والتي فاجأت جمهورها بأدائها الرشيق خفيف الظل . دور "صبوحة" جسدته سماح السعيد التي شاهدناها في العديد من أدوار الفيديو الناجحة في الفترة الأخيرة وهي فنانة تتمتع بقبول ولديها طاقات فنية كبيرة وقد قدمت دورها بوعي شديد وأداء رائع. الفنان القدير يوسف داوود جسد شخصية "العمدة" بخفة ظله المعهودة وكان وجوده مكسبا للعرض. مجدي صبحي جسد شخصية "بعلزبول" قدم دوره بأداء كوميدي متميز خال من التعقيدات الأدائية، خالد النجدي قدم شخصية "رأسمالي وطني" لفت النظر اليه كثيرا، وكان اختيارالمخرج له موفقا فقد ساعد تكوينه الجسدي مع طبيعة الحوار الخاص بالشخصية بتفجير ضحكات الجمهور. شخصيات العرض الأخري وهي ارهابي 1،2، وشيخ الغفر - وغيرهم قدموا أدوارهم بأداء متميز. عودة ألحان علي سعد للمسرح الملحن المسرحي الكبير علي سعد قدم ستة ألحان استعراضية كانت جميعها بأصوات الممثلين المشتركين في العرض، وقد راعي فيها التنوع المقامي وا?يقاعي علي مستوي اللحن الواحد. اللحن الأول هو لحن الافتتاح "شكر الله سعيكم" وجاء في مقام الصبا ذي الطابع الحزين لملائمة الحدث الدرامي الذي يدور حول تشييع جثمان والد "حباك"، وتنوعت المقامات داخل هذا اللحن بعد ذلك مع تغير الحالة ا?نفعالية لبطل العرض، وبرز في هذا اللحن صوت آلة الربابة والتي تكرر ظهورها في ألحان أغنيات والموسيقي التصويرية للعرض وكان اختيارها ملائما تماما للبيئة الصعيدية التي تدور فيها أحداث العرض. لحن "الحلم" كان في مقام النهاوند واعتمد فيه علي ايقاعي الصعيدي والفلاحي. ودويتو "اضرب بجناحك" بين شخصيتي "حباك" و"بعلزبول" . وفي لحن "اتنحنحي" أخذ بعض التيمات الشعبية مثل لحن الزفة "اتمخطري ياحلوة يازينة" ولحن "سلمولي عليه" وأدمجهم في تيمات لحنية من ألحانه. لحن الاحتفال بالنصب علي العمدة تعددت فيه الايقاعات مثل الأيوب، والهجع، والفلاحي، وكذلك المقامات لتلائم فنون الفرجة الشعبية التي قدمت في هذا الاستعراض والتي كان منها غناء أحد المداحين. وأخيرا كان استعراض "مغزل غازل" وهو الختامي للعرض. وقد استخدم علي سعد في ألحانه مقامات مثل العجم، والنهاوند، والبياتي، والصبا، أما الإيقاعات الذي استخدمها فأذكر منها الوحدة الكبيرة، والملفوف، والصعيدي، والأيوب، والهجع، وبعض التركيبات الايقاعية المبتكرة. وقد قدم الملحن أغنيات العرض بأصوات الممثلين ولذلك اعتمدت علي الإلقاء المنغم "الريسيتاتيف" ولكنه جعل للكورس دور رئيسي في معظم الألحان وكان توظيفها بشكل واع. وقدم محمود جمعة شعرا خاصا جمع بين النثري والمنظوم لخدمة الأحداث الدرامية وموسيقي العرض، أما استعراضات مجدي الزقازيقي فبدت في بعض المشاهد مبتكرة وفي الأخري تقليدية لم أستشعر أهميتها في الأغنيات. سينوجرافيا العرض التي صممها عبد المنعم مبارك كانت بسيطة تجريدية في مشهد المقابر حيث اعتمد علي تصوير الطبيعة برؤيته الخاصة كصنع شجرة من الأقمشة ومنظر عمق الخشبة اعتمد علي موتيفات من الزهور المختلفة، وعلي جانبي الخشبة الأمامي تنويعات علي موتيفات شعبية، ومطابقة للواقع في مشاهد أخري، وتضافر الديكور مع الاضاءة والملابس والخدع البصرية ليقدموا رؤية بديعة للعرض. وبعد إلقاء الضوء علي هذا العرض المتميز يبقي أن نتساءل ما المبررات التي منعت هذا العرض من المشاركة في الدورة الرابعة لمهرجان المسرح القومي؟ خاصة وأن العرض تم انتاجه في خطة العام المنصرم، وتم افتتاحه في الثلاثين من شهر يونيو 2010، وأن هذه الدورة للمهرجان لم يتم افتتاحها مثل كل عام في الأول من شهر يوليو ولكن تم تأجيله إلي السابع عشر من نفس الشهر، وأن هناك عروض أضعف منه فنيا شاهدتها بنفسي مشاركة في هذه الدورة للمهرجان، فهل هناك اجابة لهذه الفزورة ؟