بمجرد صدور قرار مجلس الأمن بفرض عقوبات علي إيران سارعت دول الاتحاد الأوروبي واستراليا بفرض حزمة عقوبات إضافية علي طهران، وصفت بأنها الأكثر صرامة، وطالت قطاعات رئيسية في صناعة الغاز والنفط وتجارة السلع ذات الاستخدام المزدوج والقطاع المصرفي والتأمين وقطاع النقل، الأمر الذي يجعل من هذه العقوبات عناصر مؤثرة علي صناعة المحروقات والاستثمارات ونقل التكنولوجيا والمساعدات الفنية، وذلك علي عكس حزمة عقوبات مجلس الأمن والتي جاءت " مخففة " بسبب حرص كل من الصين وروسيا علي عدم الاضرار بمصالحهما مع إيران . ثم أعقب ذلك توصل مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين إلي مسودة قانون يفرض عقوبات أمريكية جديدة علي إيران . وبينما أعربت مصادر غربية عن قلقها من الاستعدادات العسكرية الإيرانية لمهاجمة ناقلات بترول في الخليج العربي والبحار القريبة للإضرار بمصالح غربية في المنطقة، فإن مؤشرات مغايرة تنبئ بأن كلا من الجانبين الإيراني والدول الكبري حريصان علي استمرار فتح الباب للتوصل إلي حل سلمي لأزمة الملف النووي الإيراني عن طريق المفاوضات . فإذا كانت أمريكا والدول الكبري قد أيدت فرض عقوبات جديدة علي إيران، فإن هذه العقوبات وصفت بأنها " بلا أنياب " أو كما تسميها واشنطن " عقوبات ذكية " ولا تطال مجال الطاقة الإيراني . في الوقت نفسه، فإن إيران وهي تعلن استهانتها بهذه العقوبات، فإنها لا توصد كل الأبواب أمام إمكانية التفاوض أو حتي المراوغة، وممارسة " اللعبة الدبلوماسية " مع الدول الكبري، خاصة وأنها تتحرك من مركز قوي نسبيا استنادا إلي علاقاتها مع روسيا والصين، والتي لم تتأثر جذريا حتي بعد موافقتهما علي فرض العقوبات، وزيادة في مرونة الموقف الإيراني، فقد أعربت طهران عن استعدادها للحوار مع وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين آشتون استجابة لعرض أوروبي بهذا الصدد، ثم أعلن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن لدي إيران عدة شروط لاستئناف المفاوضات مع الدول الست، وسوف يعلنها في الأسبوع المقبل . ومع ذلك، حرص مندوب إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية علي تأكيد عدم تأثير العقوبات علي إيران، حيث تتمتع بلاده بما يسميه "الاكتفاء الذاتي" في صناعة وإنتاج المدفعية والدبابات والمروحيات والسفن الحربية، وإمكانية تصدير إيران لهذه الأسلحة إذا أرادت . أزمة الثقة بعد فرض حزمة العقوبات الجديدة علي إيران من جانب مجلس الأمن الدولي، أكد الرئيس باراك أوباما أن هذه العقوبات لا تغلق باب الدبلوماسية بين إيران والدول الكبري، وهو ما أكدته أيضا وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، مشيرة إلي أن العودة إلي طاولة المفاوضات محتملة سواء مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن والمانيا، أو بأي صورة أخري . ويلاحظ أن فرنسا بدورها أعربت عن الاستعداد لاستئناف المفاوضات مع إيران علي لسان وزير خارجيتها برنار كوشنير، كما كان ذلك هو مضمون الرسالة التي وجهها وزراء خارجية مجموعة فيينا ( أمريكا فرنساروسيا ) إلي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ردا علي الاتفاق الذي وقعته إيران مع تركيا والبرازيل في 17 مايو الماضي، ونص علي نقل 1200 كيلو جرام من اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب ( 5.3 %) إلي تركيا، لمبادلته بوقود نووي عالي التخصيب ( 20 % ) . وكان هذا الاتفاق ( الإيراني التركي البرازيلي ) قد نص في مادته التاسعة علي ترحيب تركيا والبرازيل ببدء الحوار بين إيران ومجموعة ( 5 + 1 ) في أي مكان . ويلاحظ أن الدول الكبري لم تلتفت جديا لتفصيلات الاتفاق الثلاثي علي الرغم من أنه نص في مادته الأولي علي الالتزام بعدم انتشار الأسلحة النووية، مع حق إيران في إجراء الأبحاث وامتلاك دورة الوقود النووي، كما أكدت المادة العاشرة علي تقدير تركيا والبرازيل لالتزام إيران بمعاهدة حظر الانتشار النووي . وبوجه عام، بدا واضحا من جانب الدول الكبري تفضيلها للمضي في طريق الحل السلمي للملف النووي الإيراني، حتي أن وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون جددت عرضها للقاء مسئولين إيرانيين لإيجاد حل سلمي، بالرغم من العقوبات الجديدة علي إيران . فإذا كان الأمر كذلك، فأين إذن تكمن المشكلة التي تعرقل استئناف المفاوضات بين إيران والدول الكبري حول ملفها النووي ؟ في الحقيقة أن أزمة الثقة التي تعوق المفاوضات بين الجانبين تتمثل في : إن إيران قامت بإضافة كميات من اليورانيوم المخصب إلي رصيدها زيادة عنما كان لديها في اكتوبر الماضي، حينما كانت علي وشك التفاهم مع الغرب، وهو ما يعني أن لدي إيران الآن ما يكفي من المادة الانشطارية لصناعة قنبلة نووية ( حتي لو أرسلت 1200 كيلو جرام من اليورانيوم منخفض التخصيب إلي تركيا ) . ويؤكد الجانب الإيراني حاجته لكميات وافرة من اليورانيوم عالي التخصيب لتغطية الاحتياجات الطبية، مذكرا بأن مفاعل طهران للأبحاث الطبية يوفر علاجات للسرطان في جميع أنحاء الجمهورية، ويحتاج إلي 120 كيلو جرام من الوقود النووي . إن اتفاقات إيران مع تركيا والبرازيل لا تمهد لبناء الثقة مع الغرب ، حيث أعلنت طهران في فبراير الماضي بدء تنقية اليورانيوم إلي مستويات أعلي بهدف صنع وقود نووي، وبدأت في تركيب مزيد من المعدات لهذا الغرض، وهو ما أكدته مجددا الوكالة الدولية للطاقة الذرية . أما الجانب الإيراني فيؤكد أن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 % سوف يستمر، تحت رقابة بشرية وآلية من جانب الوكالة الدولية، وعبر كاميرات تعمل 24 ساعة يوميا . مما يزيد من فجوة الثقة بين ايران والغرب ما يتعلق بنقص المعلومات حول البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يعتقد أن إيران تحرص عليه، حتي أنه لايعرف تحديدا مصير اليورانيوم منخفض التخصيب الذي سيجري تخزينه في تركيا ،بعد استكمال المبادلة وفقا لما يطلق عليها "خطة الوقود" . تري مصادر غربية أن إيران تحاول توجيه الاهتمام الدولي إلي قضية " مبادلة الوقود " لصرف الجميع عن التركيز علي طموحاتها في المجال النووي . إيران تتحدي في تحد واضح للعقوبات الدولية، قررت طهران منع اثنين من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من دخول إيران بدعوي اعطائهما معلومات مغلوطة عن البرنامج النووي الإيراني، مع التأكيد علي التزام إيران بالسماح لفرق التفتيش بالاستمرار في مهامهم ضمن اتفاقات الضمان الموقعة بين ايران والوكالة . (يلاحظ أن العلاقة بين ايران والوكالة قد ازدادت تدهورا منذ تولي يوكيا أمانو رئاستها في ديسمبر الماضي) . غير أن تحدي إيران للعقوبات المفروضة عليها وتداعياتها السلبية يأخذ أشكالاً اخري، وذلك انطلاقا من تنوع وتشعب هذه العقوبات، والتي تشمل: حظر التعاملات مع البنك المركزي الإيراني والبنوك الأخري، وحظر أي نشاط تجاري مع دول تتوافر لديها التكنولوجيا النووية، وامتناع الدول عن تزويد إيران بأسلحة قتالية أو دبابات أو مروحيات أو قطع غيار، وفرض حظر علي أي نشاط إيراني متصل بالصواريخ القادرة علي اطلاق أسلحة نووية، وادراج اسم جواد رحيقي رئيس مركز ايران النووي علي قائمة الأممالمتحدة للأشخاص الممنوعين من دخول الدول المتضامنة، وتجميد أرصدته، وإضافة 15 جهة ايرانية يسيطر عليها الحرس الثوري الإيراني للقائمة السوداء للأمم المتحدة، وتفتيش الشحنات المتوجهة إلي إيران أو القادمة منها، والتضييق علي الخدمات المالية والتأمينية إذا كانت تساعد ايران، وحظر فتح فروع أو مكاتب للبنوك الإيرانية في الدول المتضامنة. و مهما حاولت الدعاية السياسية الرسمية للنظام الإيراني إنكار الآثار السلبية لهذه العقوبات علي الاقتصاد والبنية الداخلية في البلاد فإن للعقوبات نتائجها السيئة التي تتراكم، وتزيد من مشكلات إيران اقتصاديا واجتماعيا، وبالتالي فإن مواجهة هذه الآثار من جانب إيران اقتضت السير في عدة اتجاهات منها: توجيه إيران مسئولين ببورصة طهران لزيارة دبي، للعمل علي اجتذاب رؤوس الأموال للسوق الإيرانية (صعدت السوق الإيرانية بنسبة 12 % خلال الثلاثة أشهر الأولي من عام 2010 بما يفوق عدد من أسواق المنطقة، وتزيد القيمة السوقية للبورصة الإيرانية علي 70 مليار دولار، وتضم السوق أسهم أكثر من 330 شركة في قطاعات الاتصالات والبنوك والصلب والبتروكيماويات) وتؤكد مصادر أن السوق الإيرانية تعتبر رخيصة، وبها فرص استثمارية في قطاعي التعدين والبنوك . تقديم الحكومة الإيرانية مشروع قرار لخفض الدعم الحكومي بمقدار 40 مليار دولار، مقابل تقديم رواتب شهرية يتم دفعها في القطاعات الأكثر احتياجا، وذلك تجنبا لاتساع مساحة السخط الشعبي نتيجة زيادة أعباء المعيشة وزيادة معدلات التضخم . من الأحداث التي اعتبرتها طهران مبعثا للتفاؤل اكتشاف احتياطيات للغاز الطبيعي تبلغ 19 . 2 تريليون قدم مكعب في شمال غرب إيران (تعد إيران صاحبة ثاني أكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي بعد روسيا، وهي خامس أكبر مصدر للنفط في العالم ) . تصعيد أمريكي حذر اعتبر المراقبون أن فرض عقوبات جديدة علي إيران من مجلس الأمن جاء في اتجاه التصعيد، بما يتناقض جذريا مع " اتفاقية التبادل النووي " الثلاثية بين إيران وتركيا والبرازيل، والتي سعت إلي ترسيخ منهاجية سلمية للتعامل الدولي مع الملف النووي الإيراني . ويؤيد هذا التوجه أن الإعلان عن العقوبات جاء متزامنا تقريبا مع إعلان المعهد الأمريكي " بيو ريسيرش سنتر " المتخصص في استطلاعات الرأي العام العالمي عن نتيجة استطلاع جاء فيها أن معظم السكان في 61 دولة في العالم يؤيدون اللجوء إلي الخيار العسكري ضد طهران . غير أن المفارقة هنا تتمثل في اعلان المركز نفسه عن نتيجة استطلاع بين الأمريكيين أظهر أن 60 % من الأمريكيين يعتقدون أن بلادهم مكروهة في العالم، بشكل عام، كما أن هناك 46 % من الأمريكيين يرغبون في أن تهتم بلادهم بشئونها الخاصة فقط، وأن تترك الآخرين وشأنهم. واعتبر المراقبون أن تناقضا ما يتمثل في تفضيل 66 % من الأمريكيين توجيه ضربة عسكرية إلي ايران، بينما 46 % يفضلون توجهات العزلة الأمريكية . علي كل، بالنسبة للموقف الأمريكي فإنه يبدو موزعا بين اتجاهين، أن يتم تطبيق عقوبات شديدة علي إيران، وفرض قيود علي حرية تعاملاتها التجارية مع الخارج، أو أن يجري تطبيق عقوبات أحادية الجانب ( أمريكية ) قد تضر بجهود الإدارة الأمريكية للإبقاء علي وحدة الصف الدولي تجاه إيران . وهذا الموقف الحذر جاء في معرض توصل نواب في مجلسي النواب والشيوخ إلي مسودة عقوبات أمريكية جديدة علي إيران، ويجري محاولة تمريرها في الكونجرس قبل العطلة الصيفية للمجلس التشريعي، وتشمل عقوبات ضد شركات تتعامل مع قطاع الطاقة الإيراني، بما في ذلك التأمين، والتعاملات المالية مع القطاع المالي، وعقوبات علي مصارف أجنبية تقدم خدمات مالية للحرس الثوري الإيراني . وهذا القرار الجديد يمنح الرئيس الأمريكي سلطات جديدة، ويقوي الاستراتيجية الدولية لعزل إيران والضغط عليها . وفي حالة موافقة الرئيس علي هذه المسودة العقابية الجديدة، سيخضع شركاء إيران الماليون لعقوبات أحادية الجانب من الولاياتالمتحدة، وسوف يتم حرمان البنوك الأجنبية التي تبرم صفقات مع بنوك إيرانية من التعامل مع النظام المالي الأمريكي .