وجاء هذا التأخير في تشكيل الحكومة العراقية فاتحا الباب لعدم الاستقرار، الأمر الذي يتعارض كليا مع الرغبة الأمريكية لبناء ما يطلق عليه " العراق الديمقراطي المستقر "، وفقا للمعايير الأمريكية، خاصة مع اقتراب موعد تخفيض عدد القوات الأمريكية في العراق بحلول الخريف إلي 50 الف عنصر، مقابل 92 الفا حاليا، وذلك تطبيقا لاستراتيجية الانسحاب الأمريكي التدريجي من العراق، والتي وضعها الرئيس باراك أوباما . وإزاء تعثر تشكيل الحكومة الجديدة في العراق وجهت وزارة الخارجية مساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان لزيارة العراق، وإجراء مباحثات تتعلق بتشكيل الحكومة، الأمر الذي يثبت " أهمية الدور الأمريكي في تحريك السياسة العراقية "علي حد تعبير السفير الأمريكي في العراق . أما عن صياغة أسس العلاقات المستقبلية بين العراق والولاياتالمتحدة،فقد أشار إليها الأدميرال أريك أولسون رئيس ما يطلق عليه " قيادة العمليات الخاصة " التي تجري خارج الأطر القانونية المعلنة، مؤكدا أن هذه القوات ستبقي دائما في حدود (4500 عنصر ) وستبقي نشطة علي الدوام في العراق وذلك في إطار عملية واسعة لتغيير صورة الجيش الأمريكي في العراق، والانتقال إلي مرحلة (الكيانات المدنية ) بما فيها السفارة الأمريكية والمنظمات الدولية وغير الحكومية، والحكومة العراقية . العراق / الأزمة .. والحل من وجهة النظر السياسية لدي كثيرين تعتبر العراق علي مشارف إنجاز سياسي علي مستوي العملية السياسية، فقد نجحت في بناء مؤسسات ديمقراطية من خلال صناديق الانتخابات، ولدي العراق الآن مجالس محلية ووطنية وتشريعية منتخبة بإرادة حرة، ولديه دستور دائم، والصحف الحرة، ومؤسسات المجتمع المدني التي تقوم بدور مهم سياسيا واجتماعيا وتربويا . غير أن مشكلات العراق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لاتزال تهدد استقراره . ولاتنفصل مشكلات العراق الملحة في الوقت الراهن، إن علي صعيد حاجتها إلي حكومة قوية متجانسة تضم الكفاءات الوطنية وفقا لمنظور وطني، او علي مستوي رأب الصدع الأمني الذي لا يزال يعاني تدهورا شديدا، أو الحاجة الماسة إلي معالجة هموم المعيشة اليومية للمواطن العراقي ومشكلات الفقر والبطالة ونقص الخدمات والأمية والفساد الإداري، فضلا عن تهرؤ النسيج الاجتماعي والثقافي، وكلها مهمات يتعين أن تتصدي لها الحكومة المرتقبة . وبالطبع، فإن مشكلات المجتمع العراقي تضاعفت خلال السنوات الماضية، فهناك أكثر من 30 % من العاملين لايحصلون علي رواتب، وتقترب مستويات معيشتهم من ( تحت خط الفقر )، ويشكلون نحو 10 % من السكان الفقراء، في بلد غني بثرواته النفطية . كذلك تزيد نسبة الأمية في العراق حاليا عن 10 %، هذا طبعا بالإضافة إلي معاناة العراقيين إزاء حالات الاعتقال والتعذيب والخطف والحبس بدون محاكمة قانونية عادلة، وما يصفه البعض بالتقصير الحكومي الرسمي في هذا الصدد، وما يتعين أن تعالجه الحكومة التي يتطلع لها العراقيون . وفي هذا السياق، يأمل العراقيون بعد سنوات الشدة والمعاناة في حكومة وطنية تنفذ خطط الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتسعي إلي رفع مستوي المعيشة، وتساهم في تحسين نوعية الحياة ( الصحة التعليم الخدمات ) وتحافظ علي وحدة وسلامة أرض العراق، وتمهد لرأب الصدع الطائفي والاجتماعي، وتوقف تيار التناحر والصراعات الانتقامية، وتتبني برنامجا وطنيا لإعادة بناء وإعمار الدولة العراقية . وهذا لن يتأتي إلا عن طريق تشكيل حكومة قوية،تقوم علي المشاركة والتعايش بدون استبعاد أو إقصاء، وأيضا أن تكون الحكومة موضع ثقة العراقيين في ظل ظروف مترعة بأسباب التوتر والتآمر ( في 13 / 6 وقعت عملية الهجوم علي البنك المركزي العراقي، في قلب بغداد، وقد ارتدي المهاجمون زي القوات الخاصة العراقية، وامتلكوا أسلحة متطورة، ودمروا وثائق مهمة بالبنك ) مما أثار شكوكاً حول تورط " كبار " في العملية . وفي إطار الخطوات الساعية لحل مشكلة تشكيل الحكومة وحل مشكلات العراق ، ترددت الأنباء حول اتصالات تجري بين كل من علاوي والمالكي فيما يمكن وصفه بالرسالة التي أرادا توصيلها إلي " الائتلاف الوطني العراقي " بمكوناته المهمة، المجلس الأعلي والتيار الصدري، ومفادها أن هناك إمكانية للتحالف بين " العراقية " و " دولة القانون " لتشكيل حكومة قوية وفاعلة، ويشارك فيها أطراف فاعلون . ومن المعروف أن علاوي يعتبر تكليفه بتشكيل الحكومة حقا دستوريا، ولكن الاندماج بين " ائتلاف دولة القانون " و" الائتلاف الوطني العراقي " بزعامة عمار الحكيم ، تحت مسمي " التحالف الوطني " ب ( 159 مقعدا ) يحرمه من ذلك، لأن التحالف أصبح يمثل القوة الرئيسية في البرلمان . ويلاحظ أن ائتلاف دولة القانون يصر علي طرح اسم المرشح لرئاسة الوزراء قبل التفاهم علي المشروع الحكومي الذي يؤكده الائتلاف الوطني . وجاء إلغاء " لجنة الحكماء " المشكلة من الائتلافين لاختيار رئيس الوزراء، ونقل عملها إلي هيئة ادارية دليلا جديدا علي استمرار الخلافات، فمازالت التساؤلات جارية حول آلية تشكيل الحكومة، ورئاسة الوزراء، والبرنامج الحكومي . سيناريوهات محتملة لأن مسألة تشكيل الحكومة في العراق تحتل أهمية كبيرة ( أمريكيا ) فقد رددت عدة مصادر أن واشنطن ستقترح علي العراقيين سيناريوهات لحل المشكلة، منها تقاسم السلطة زمنيا بين القائمة العراقية بزعامة علاوي، وائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، أما السيناريو الثاني فهو أن يكون المالكي رئيسا للجمهورية، وعلاوي رئيسا للوزراء، وأن يرشح التحالف الكردستاني رئيسا للبرلمان .وكان المالكي قد أكد لدي لقائه مع المسئول الأمريكي أهمية العلاقة طويلة الأمد بين العراق والولاياتالمتحدة، الأمر الذي أثار تكهنات باحتمال عقد " صفقة " يكون ثمنها ضمان استمرار الوجود الأمريكي في العراق بموافقة ورعاية الحكومة العراقية . أما علاوي، فإن البعض لايراه حلا للانقسام الطائفي في العراق، وأن التأييد السني لهذا السياسي هو تأييد متخف لحكومة قديمة ( كان علاوي يثير مشكلات بسبب فترة حياته في المنفي، وقبضته القوية أمنيا عندما كان في السلطة ، وكذلك تأييده للهجوم الأمريكي علي الفالوجة والنجف ضد جيش المهدي )، وكان فشل حكومته في الحد من العنف الطائفي سببا في ضعف أدائه في انتخابات 2005 . المشروع الأمريكي في العراق من المفترض،بعد احتلال دام سبع سنوات،أن يكون المشروع الأمريكي في العراق قد شارف علي نهايته، مع احتمالات الانسحاب الأمريكي وفقا للاتفاقية الأمنية المشتركة بين البلدين، ليتولي العراقيون حكم بلادهم بأنفسهم، غير أن استقلال العراق وسيادته يرتبط بالتصور الأمريكي لمستقبل العلاقات الأمريكية العراقية علي المديين المتوسط والطويل . وفي هذا الصدد، يقول المستشار في الكونجرس الأمريكي وليد فارس إن هناك ( 50 الف عنصر أمريكي ) أو نحو خمس فرق عسكرية، ستبقي في العراق حتي بعد الانسحاب الأمريكي، غير أن السؤال هو : كيف سيتقبل الناخب الأمريكي، والرأي العام الأمريكي هذا الأمر، خاصة وأن انتخاب الرئيس باراك أوباما جاء علي عدة أسس في مقدمتها الانسحاب الأمريكي من العراق، كما أن للموضوع تأثيره في ضوء انتخابات الكونجرس الأمريكي القادمة بعد عدة أشهر . ومن المعروف أن الولاياتالمتحدة خسرت في العراق 4405 جنود ومتعاملين مع الجيش لقوا حتفهم منذ الاجتياح في 2003، بحسب أرقام البنتاجون، كما أن حرب العراق التي تكلفت 3 .2 تريليون دولار أوصلت الدين الوطني الأمريكي إلي ما يزيد علي 13 تريليون دولار بنسبة 10 % من اجمالي الاقتصاد الأمريكي، لتصبح أمريكا أكبر مدين في العالم، ولتصبح الديون من أهم مهددات الأمن القومي الأمريكي . وبالرغم من ذلك، فإن المشروع الأمريكي في العراق يبدو أنه سيستمر، ولن يتوقف، وإن كان استمراره سيكون عبر خطة (معدلة ) من جانب البنتاجون والبيت الأبيض علي النحو التالي : 1 - تغيير صورة الجيش والاستخبارات الأمريكية من الطابع العدواني إلي صورة العناصر التي تعمل علي الإعمار وتنفيذ المشاريع ومكافحة الارهاب، والدفاع عن العراق ضد الأخطار الداخلية والخارجية، في إطار تحالف سياسي وعسكري واقتصادي بين الولاياتالمتحدة والعراق، وأن يتأتي ذلك بموافقة شرعية من جانب البرلمان والقوي السياسية العراقية . وفي هذا الصدد يقال إن الجهات والهيئات العاملة في العراق، ومنها تنظيمات تابعة للأمم المتحدة ستعامل علي أنها تابعة للقيادة الأمريكية . 2 - طرح البنتاجون مناقصة مع " متعاقدين مدنيين " للقيام بخدمات إعلامية في العراق والولاياتالمتحدة، لتغيير المفاهيم، وكسب تأييد الجمهور لما يمكن القيام به مستقبلا من عمليات عسكرية في العراق .أما التعامل مع الرأي العام الأمريكي،فإنه سيكون علي أساس قاعدة " الصبر الاستراتيجي " والذي يقوم علي أساس أهمية العراق للولايات المتحدة، وان دورها هناك بعد 2001، لايقل أهمية عما قبل 2001 . 3 - في شهر مايو الماضي، أصدر البيت الأبيض قرارا تنفيذيا لوزارة الخارجية في إطار " اتفاقية الإطار الاستراتيجي " لرعاية الوجود الأمريكي في العراق، كما أبرمت وزارة الخارجية الأمريكية عقدا بمليار دولار في ابريل الماضي مع احدي الشركات لتوفير " مرتزقة " يتم التعاقد معهم لحماية الأمريكيين في العراق، مع تغيير مسمي جزء كبير من ال 50 الف جندي في العراق بعد 2011 إلي خبراء ومستشارين في سياق " شراكة غير عسكرية " علي المدي الطويل . 4 - طرح مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي اقتراحا بوجود ما بين 10 15 الف جندي أمريكي في منطقة عازلة بين كردستان وباقي العراق، تحسبا للتطورات الأمنية بالمنطقة . الصراع الإقليمي وفقا لتقرير أصدره مؤخرا مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أكد باحثون أمريكيون قصور امكانيات القوات العراقية، سواء بالنسبة للتدريب أو الإدارة أو التسلح، وبالتالي الحاجة الماسة لاستمرار الوجود والدعم الأمريكي للتصدي للضغوط والتدخلات الإيرانية والسورية في العراق، وذلك عن طريق الاتفاق علي برامج للتدريب العسكري، وتقديم المشورة للجيش والبوليس للأعوام الخمسة القادمة . وترجع أهمية هذا التوجه من جانب واشنطن لما تعتبره ( خللا في التوازن الإقليمي ) الحالي في صالح إيران، مما يزيد المخاطر علي إسرائيل ومنطقة الخليج والثروة النفطية، وهو ما يؤثر علي أمن ومصالح الولاياتالمتحدة . أما علي صعيد المصالح العربية، فإنه من المؤكد أن غياب دولة مثل العراق، بأهميتها الإقليمية، وموقعها الجغرافي، وثرواتها الطبيعية، يفتح الباب لفراغ إقليمي في غاية الخطورة، كما أن تطورات الوضع الداخلي في العراق، وتأخر تشكيل الحكومة والصراعات الجارية في هذا الصدد، تهدد بجعل العراق ساحة للنزاعات والتدخلات الخارجية ( بما يؤدي إلي لبننة الحالة العراقية ) وجعل الأطراف الداخلية مجرد توابع لأطراف إقليمية، علي غرار ما يجري في لبنان، وفي هذه الحالة تتضاعف صراعات العراق والصراعات حوله، ليزداد ويتعمق الغياب العربي عن توازنات القوي الإقليمية لصالح المشروعات الخارجية، الأمريكيةوالإيرانية والتركية والإسرائيلية .