ليس فقط بالاعتماد علي قيم أخلاقية من اجل إفساح المجال لمناهضة الدولة، واستثارة العقل الجمعي بفضل الدعوة إلي الأخلاق، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة ربط الأخلاق بالدين، ثم الدين بالسياسة، وإنما يتم ذلك باستعداء التفكير الحر، بصرف النظر عن نوعه، وعن منهله، ثم في مرحلة تالية بعد التهيئة السطحية، يتم طرح رجعيتهم كبديل لا مفر منه، بيد أن التاريخ يثبت أن مرجعيتهم التراثية كانت أكثر منهم حرية، وأنهم لو كانوا صادقين في دعواهم التراثية؟ لجلبوا حرية أكثر، فالحرية هي الابقي، والتنوير هو الحقيقة الإلهية الغائبة عنهم، لأنه نور علي نور، بينما هم عتمة علي عتمة. عرفت اللغة العربية مصطلحات متنوعة لوصف العلاقة بين الرجل والمرأة، منها"الباءة" كدليل علي الحظ من القوة الجنسية، وفي الحديث الشريف"من استطاع منكم الباءه فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء"، اي أن الزواج لمن يملك القدرة الجنسية علي معاشرة النساء، ولكنه لا يملك القدرة المادية علي الزواج، واعتبر المفسرون أن الصوم لمن لم يقدر علي الزواج مادياً، كما اعتبروه حديثاً موجهاً للشباب بالصوم، ولكن الحديث ينصب علي نصيحة من ذهبت عنه الباءة، بأن يلزم الصوم، ف"لم يستطع" تعود علي القوة الجنسية، وليست علي المقدرة المادية، فيكون الاتجاه إلي الله بالعبادة هو الحل، فهو حديث للشيوخ أكثر منه للشباب، إلا أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يمنع التداوي بالطعام أو ما شابه لدفع العقم، وهو من جنس الباءة، فالحبة الزرقاء حلال بالقياس مثل أكل البيض، والبصل قديماً، وقيل إن أول من تكلم عن الباءة هو"الحارث بن كلدة الثقفي"، المتوفي في خلافة "أبي بكر"، وهو علم عند العرب يبحث عن كيفية العلاج المتعلق بقوة المباشرة، من الأغذية المحفزة لتلك القوة، وتلك الأدوية المقوية، أو المزيدة للقوة، واللذة، وحفل التراث العربي بحكايات زرقاء الغرض منها تحريك الشهوة، لمن غابت عنه، وضعها مؤلفون مجهولون، ومعلومون أحياناً، كعلاج مساعد إلي جوار العقارات الطبية، وكان التراث واعياً في التفرقة بين وجود الدافع، والقدرة، فحتي الإعلان التوضيحي للحبة الزرقاء ينبه انه عقار من اجل القوة، ولا قيمة له مع غياب الرغبة، فالرغبة من اختصاص الأدباء، أما القدرة فمن اختصاص الأطباء، ومن هذه المنشطات التي حفظها التراث تأتي علي القائمة رواية"ألف ليلة وليلة". أدب السيوطي الأزرق يفاجئنا التراث بان "الحافظ جلال الدين السيوطي"(م:849ه/1445م) صاحب التفسير القرآني الشهير، و"الإتقان في علوم القرآن، وله من المصنفات الفقهية التي أحصاها"كارل بروكلمان" في عدد 415 مصنفاً، إلا أن قائمة طويلة من كتب علم الباءة الصرف مثل"رشف الزلال من السحر الحلال"، و"الإيضاح في علم النكاح"، واليواقيت الثمينة في صفات السمينة"، وغيره من العناوين التي تعد خارجة عن الآداب العامة اليوم، والتي تنتظر منذ مئات السنين دعاوي مثل التي رفعها حارس الأخلاق علي "الف ليلة وليلة"، لا شك أن هذا الزخم الهائل من كتب الباءة التي صدرت عن "السيوطي" دليل علي وجود تراث قبل تراث "السيوطي" قد اطلع عليها مولانا، بل انه تعرض بالنقد لها بحرية، فصنف أحسنها كتاب"تحفة العروس ومتعة النفوس" ل"محمد التيجاني"، كما ذكر في استشهاداته كتاب"رجوع الشيخ إلي صباه"، و"جامع اللذات"، كما اطلع "السيوطي" علي مصادر أخري غير العربية رجح"حسن جغام" في كتابه"الجنس في أعمال الإمام السيوطي" إلي إنها هندية وفارسية، هذا بالإضافة إلي إلمامه بالطب فله مؤلفات خاصة فيه مثل"الواعون في أخبار الطاعون"، و الطب النبوي"، وله كتاب نادر هو"مقامة النساء"، والمذكور في "كشاف الظنون" دار فيه بصراحة مكشوفة الألفاظ علي كل العلوم ليصف بلسان أصحابها الجنس، من المقريء إلي المفسر، و المحدث، و الفقيه، و الأصولي، والنحوي، و واللغوي وغيرهم، ومن ألطفهم مقامة النحوي التي يقول فيها:" ثم تعانقنا تعانق الإضافة، وارتشفت من خرطومها ما هو ألذ من السلافة، ثم حللت الإزار، ووقع الخفض علي الجوار، إذا جر فيه مجمل الحسن ومفصله، وارتفع أعلاه وانتظم أسفله... هذا ونحن في كان من الإخبار وصار، ومبتدآت لأذود أن تتم لها الإخبار، وتتمني لو أن هذا الفعل لازم، وان هذه الحركة لابد لها جازم". المقامة الزرقاء إن تراثنا يحفل بتناول مشكلة الفزع الجنسي عند المكفراتية فهذا الشيخ الإمام والعلامة الحبر الفهامة الأديب الأريب المستغني عن التعريف والتلقيب "أبو محمد الحريري"(ت"516ه/1112م) صاحب المقامات التي قال عنها العلامة"الزمخشري"(ت:538ه/1143م) صاحب "الكشاف":" اقسم بالله وآياته/ ومشعر الحج وميقاته، إن الحريري حري بان/ تكتب بالتبر مقاماته، معجزة تعجز كل الوري/ ولو سروا في ضوء مشكاته"، فقد روي في المقامة العشرين المسماة "الفارقية" نسبة إلي بلد في الشام من ديار ربيعة، أن سمع "الحرث بن همام" رجلاً يرثي صديقه الذي مات، وهو ينشد قائلاً :"رأيت في ريعان عمري أخاً/ بأس له حد الحسام. يقدم في المعارك إقدام من/ يوقن بالفتك ولايستريب. فيفرج الضيق بكراته/ حتي يري ما كان ضنكاً رحيب. ما بارز الأقران إلا انثني/عن موقف الطعن برمح خصيب. ولا سما يفتح مستصعباً/ مستغلق الباب منيعاً مهيب. إلا ونودي حين يسمو له/ نصر من الله وفتح قريب. هذا وكم من ليلة باتها/ يميس في برد الشباب القشيب. يرتشف الغيد ويرشفنه/ وهو لدي الكل المفدي الحبيب. فلم يزل يبزه دهره/ مافيه من بطش وعود صليب. حتي أصارته الليالي لقي/ يعافه من كان منه قريب. قد اعجز الراقي تحليل ما/ به من الداء وأعيا الطبيب. وصارم البيض وصارمنه/ من بعد ما كان المجاب المجيب. واض كالمنكوس في خلقه/ ومن يعش يلق دواهي المشيب. وهاهو اليوم مسجي فمن/ يرغب في تكفين ميت غريب." ثم راح يبكي وينتحب علي فراق هذا الحبيب، ويجمع المال من المتبرعين لتكفين هذا الميت لدفنه، حتي أن "الحرث بن همام" خلع خاتمه من إصبعه ليتبرع به لهذا الرجل لكي يدفن صديقه الميت، وما أن ناوله الخاتم حتي عرفه انه الشيخ"السروجي"، ولما عرف انه قد انكشف أمره، فر هارباً، ولكن امسك به"الحرث" وقال له:" والله ما لك مني ملجأ ولا منجي، أو تريني ميتك المسجي"، فكشف له عن سراويله، وأشار إلي غرموله، فعاد"الحرث" إلي أصحابه فاخبرهم بما رأي فقهقهوا من كيت وكيت(حكاية ما مضي من الحديث)، ولعنوا ذلك الميت، فلو كان لحق"السروجي" عصر الحبة الزرقاء، أو كان معاصراً للمكفراتية، ما كان وجد مبرراً لمقامته هذه. فضيحة عطية الزرقاء لم يغب عن المبدع الرائع "خيري شلبي"(1938م) هذه المواقف التي تمثل أقصي حالات الضعف الرجولي فهاهو بطله في روايته"وكالة عطية" يتعرض وهو مازال شاباً لهذا الموقف الذي حذرت منه قارئة الفنجان"نزار قباني"، وتعرض له"السروجي" في مقامات الحريري، فيصف"خيري شلبي" الموقف وصف المجرب قائلاً علي لسان بطله:" بعد لهاث طويل سحبتها إلي الردهة، جلسنا فوق الأرض، كنت مشدوداً كالوتر، محتقناً كالغاضب المكظوم، أكاد أدك الحائط دكا، وفي سرعة متوترة خلعت ملابسي كلها ورميت بها كيفما اتفق، ثم ارتميت بجوارها وبدأت حاشية التمهيد للهجوم الشرس بعد طول تحرق وحرمان والتياع، صعد البعير فوق الربوة حاول النفاذ من خرم الإبرة، دهورته الصدمة الأولي فاحترق دمه ولانت عظامه فجأة صار جلداً علي رخاوة، بصبر خرافي راح يفكر في كيفية إمكانية أن يحول نفسه إلي فتلة رفيعة يلضمها في وهج الحلم الحي الذي تحول فجأة إلي موات، ولكن دون جدوي، ثم نفق البعير"، إنها مأساة بعير فشل في صعود الربوة، عند "خيري شلبي" لم يدركه عصر الحبة الزرقاء، وملك مخلوع عند "نزار قباني"، وصديق يبحث له صاحبه عن كفن عند"الحريري"، انه الموت القاسم المشترك الذي جعل دعاء احد العارفين لمريده"اذهب جعل الله يومك قبل يومه، ولا توجد في زمن المكفراتية". لا شك ان دعوي مصادرة "ألف ليلة وليلة"، جاءت ممن لديهم رؤية غائبة عن الواقع حيث يرون كلاماً مكتوباً منذ قرون لمؤلف مجهول خطر علي الأخلاق والفضيلة في زمن الإنترنت، حيث تنتشر إعلانات"التظبيط" المجاني.