كتبت يمنى مصطفى محمود حين ظهرت أدلة تربط بين أصحاب مناصب رفيعة في البيت الأبيض و بين فضيحة التصنت و سرقة الأوراق بووترجيت خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1972، رفض الكثير من الأمريكيين تصديقها علي اعتبارها دعاية انتخابية مضادة، فالبنسبة لهم أنها لا يمكن أن تكون صحيحة لأن الرئيس ريتشارد نيكسون وقتها نفي صحتها، و بالنسبة لهم فرؤساء أمريكا لا يكذبون! و حين نسأل أنفسنا عن السبب الذي دعا هذا العدد من الأمريكيين الي قبول الرواية الرسمية بالرغم من وجود أدلة قاطعة على كذبها، سنجد أن الأمر يعود الي مجموعة من المعتقدات لدي هؤلاء عن الطبيعة الانسانية و عن كيفية سير النظام بأمريكا، من الممكن تسميتها بوجهات نظر عالمية يرون من خلالها العالم جعلتهم يعتقدون أنه من المستبعد أن يكذب رئيس أمريكا منحين جانباً كل الأدلة التي تثبت عكس ذلك.. ان وجهات النظر أو العدسات التي نري من خلالها العالم هي أمر حيوي للغاية لأن وجهات النظر المبنية على المعلومات الدقيقة تمكننا من التقييم السليم ، أما وجهات النظر المبنية على الأوهام و الأكاذيب فلا تقودنا الا الي الباطل.. خداع النفس او التفكير الحالم (Wishful Thinking) و لعل أهم العقبات التي تقف في طريق تكوين وجهات نظر سليمة، أو التى تضع الضباب أمام نظاراتنا و بالتبعية تعوق عملية التفكير المنطقي هو خداع النفس بايهامها بتصديق ما تتمني أن تصدقه، فمثلاً ان كانت نفسك تتوق الي الاستقرار فحسب (حتي و ان كان استقراراً في القاع) فستميل الي تصديق أي راوية مطمئنة، حتي و ان كانت كاذبة، و حتي ان كانت كل الشواهد أمامك توحي بالخطر.. جدل عبثي و الجدال الدائر حالياً بين مؤيد و معارض لسياسات المجلس العسكري من ناحية و تحركات شباب الثورة من ناحية أخرى- يرينا أن كلا مؤمن بما يريد أن يصدقه... اذن فلا سبيل للوصول الي الحق الا بالرجوع الي قواعد استنباط الحق و الحقائق من أصولها كي نعيد تقييم وجهات نظرنا و ربما وصلنا حينها الي الاتفاق.. وهذه القواعد قد يملكها البعض في ملكة فطرية و قدرة علي تمييز الحق من الباطل، الا أنها أيضاً توجد في علم المنطق و البلاغة الحديث الذي يحلل الخطابات السياسية و طريقة تناول العامة لها.. و أحد أهم الكتب في هذا الموضوع كتاب "المنطق و علم البلاغة الحديث – كيف نستعمل المنطق في حياتنا اليومية" لمؤلفه هوارد كاهان ومنه ألخص القواعد الآتية: قواعد التفكير المنطقي السليم لكي يضمن الواحد منا أن لديه وجهة نظر سليمة عن العالم من حوله، فعليه أن: 1- يتحقق من تماسك وجهة نظره عن طريق التأكد من موافقتها للحقائق و التجارب اليومية و ليس علي أساس تخيل غير واقعي يحاول أن يسقط الواقع عليه.. 2- يتحقق من دقة "مصادر" المعلومات، فمثلاً ليس كل الخبراء، خبراء في كل المجالات، و عليه أن يسأل عن المستفيد و المنتفع بالدرجة الأولي من عرض وجهة نظر معينة. 3- يبني طريقة تفكيره علي طريقة تفكير علمي، بأن تكون نظرياته مبنية علي أكبر قدر من الأدلة و ليس على تصور عام. كيف نقيم الحجج؟ ما أن يطمئن الواحد منا الي أن لديه وجهة نظر سليمة عن العالم من حوله، فبامكانه أن يبدأ في استخدامها في تقييم الحجج التي تعرض له من الأطراف المختلفة، و من أهم (و ليس كل) ملامح تقييم الحجج: * أن تقرأ ما بين السطور * أن تحاول أن تجمع أكبر قدر من المعلومات المتعلقة بالأمر والمحجوبة من الحجة المعروضة أمامك. * حاول أن تتجنب التفكير من خلال القوالب النمطية . وأضيف من عندى -عملاً بالتوجيه الرباني "يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن اثم"، و ان "الظن لا يغني من الحق شيئاً" * قم بتقطيع الحجج المعقدة الي أجزاء بسيطة لتفنيدها بسهولة أكثر.. ان الفترة الأخيرة من حاضر مصر كانت معبأة بالأحداث المربكة، و قد كشفت هذه الأحداث كيف أنه من السهل الوقوع في فخ خداع النفس بسبب التوتر الدائم والجو المشحون، و نفس الانسان بطبعها تواقة لراحة البال. فتجد من يصدق الرواية الرسمية دوماً و يميل الي اعفاء السلطة مهما كانت الملابسات من أي ذنب، حتي و ان وصلت الأدلة الي فيديوهات حية تصور سحل و تعرية الفتيات و العبث بجثث الشهداء.. و في ذات الوقت تجد من يدافع عن كل أفعال الثواربصرف النظر عن مدي صوابها، حتي و ان اعتذر الثوار أنفسهم عن بعضها بسبب اشتعال المشاعر أو كردة فعل لسوء استخدام للقوة من قبل السلطة.. و لا أجد توجيهاً أفضل للتغلب علي الرغبة في خداع النفس من قول هوارد كاهان: "علينا أن نتشكك أكثر في الأمور التي نتمني تصديقها"..