الصورة بورتريه شخصي معكوس لفينسنت فان جوخ يشرب الغليون رابطاً أذنه اليسرى للمرة الثانية تابعت بشغفٍ بالغ ٍ برنامجاً وثائقياً عن فينسنت فان جوخ، ذلك المبشّر الذي أراد الخلاص والسعادة للبشر، فلم يجد إلا البؤس والشقاء في حياته، ثم يجد ضالته فجأة في الرسم، وينطلق يرسم لوحات أراد بها بلوغ نفس أحلامه القديمة، ولكن القدر يرسم له نفس الحياة البائسة المليئة بالإحباطات وسوء الطالع.. هو الرسام الذي مشى على الخط الفاصل بين الفن والمرض النفسي، وعجباً... يتحول ذلك الرسام الفاشل، الذي لم تباع له -من بين 2000 لوحة رسمها طوال حياته- غير لوحة واحدة فقط وبمبلغ زهيد جداً، المريض النفسي الذي أودع في مصحة عقلية بعد أن قطع أذنه اليسرى ويموت منتحراً... هو نفسه..تحول إلى رائد الفن الحديث والمدرسة التعبيرية (Expressionism) اليوم، ويتهافت على متحفه في باريس الآلاف من الزوار ليقفوا مشدوهين أمام لوحاته التي لا تقدر بثمن! كم كان الفرق شاسعاً حين قمت بالمقارنة بين فان جوخ وبين أحد نجوم هذا العصر! ربما هما على النقيض تماماً، أحدهما عاش فقيراً مهمشاً ووضيعاً، لكن تذكره الناس بأعماله الفنية إلى الآن.. والآخر يملأ السمع والبصر بطلعته البهية وتسريحة شعره ونهنهته في برامج التوك شو، بينما على الأرجح لن يبالي بأفول نجمه بعد مماته أحد! حتى الذي كان يأكل من وراء نجوميته، لن يعدم وسيلة في البحث عن نجم آخر يأكل عيشاً منه، وهكذا تدور الحياة في القرن الواحد والعشرين، على نحو ما يعرف ب"ثقافة المشاهير". و"ثقافة المشاهير" هي المصطلح الذي يعبر عن مجموعة القيم المجتمعية التي نشأت في العصر الحديث كانعكاس لتسليط الأضواء على بعض الأفراد كالفنانين ولاعبي الكرة وكبار رجال الأعمال وما إلى ذلك. فمن تلك القيم مثلاً، الاعتقاد السائد بأن مقياس النجاح هو تحقيق الشهرة، وكلما كان الشخص "أو النجم" مشهوراً أكثر، كلما دلّ ذلك على نجاحه. حتى أنه معروف لدى العاملين بصناعة العلاقات العامة ما يسمى بمشاهير اللائحة ب ومشاهير اللائحة أ، ويتم تصنيفهم طبقاً لحالة شهرتهم "Celebrity Status” وطبعاً تتقاتل الشركات الكبرى لتقتنص أكبر عدد من هؤلاء المشاهير بغرض تحويلهم إلى ما يشبه السلعة، فمنهم من يضع العطر الفلاني، ومنهم من يأكل من المطعم العلاني، ومنهم من يمشي على السيراميك الترتاني، ومنهم من تطبع صورهم على علب المشروبات وامضاءاتهم على منتجات الملابس الرياضية. ويبدو أن هذه الأمور "بتاكل" مع الناس إلى درجة أنني لا أمل في أن تتوقف الشركات عن تلميع منتجاتها بهذه الطريقة. وكنتيجة لهذا التضخيم غير الطبيعي لبعض بني البشر، تخرج الشطحات والأمراض النفسية لدى هؤلاء النجوم، حتى أنني أزعم أن كثيراً منهم يرى في نفسه نبياً وربما إلهاً!، فمثلاً في لقاء مع جون لينون (أحد أعضاء فريق البيتلز) وصف ما حققه الفريق قائلاً: إن فريق البيتلز أصبح أكثر شهرة من المسيح! وكما تظهر الأمراض النفسية في هؤلاء النجوم، تظهر أيضاً في بعض معجبيهم ومفتونيهم..والمعروف أن جون لينون قتله أحد معجبيه رمياً بالرصاص، وأورد المحققون أن هذا المعجب كان يعتقد أنه هو جون لينون الحقيقي وأن الذي قام بقتله هو شخص دجال ينتحل شخصيته! إنه لشيء محزن أن أرى مجتمعنا العربي يلهث وراء النمط العالمي وثقافة المشاهير، ولا يسعني إلا أن أحلم بمجتمع تعلو فيه قيمة الفرد العامل والمجتهد، أياً كان عمله ومجاله، أحلم أن تقدّم مصر نموذجاً ثقافياً جديداً كما قدمت نموذجاً ثورياً كسر كل التوقعات والمسلمات.. وأخيراً أقول لك أيها القارئ، إذا أخلصت واجتهدت في عملك، فأنت بالتأكيد.. أكثر نجاحاً وأعلى مقاماً من كل نجوم أغلفة المجلات وعلب المياه الغازية.