لم أكن أحب مطلقاً أن أتناول هذا الموضوع الشائك الذى تختلف حوله الآراء دون حل وسط لأنه لا وسط فى هذا الموضوع ، فإما أن يكون لا سياسة فى الدين ، ولا دين فى السياسة ، وإما العكس وهو أن يحكم الدين كل جوانب ومناشط الحياة . المشكلة أن أصحاب الرأى الذين يرون أن الدين هو الحياة ذاتها وأنه لا حياة لا يحكمها الدين يرفضون أى نقاش حول اعتقادهم هذا تحت حقيقة أن الدين من عند الله عز وجل ، وما دونه من عند الإنسان أحد مخلوقات الله ، فكيف لنا أن نغلب معطليات المخلوق على معطيات الخالق سبحانه وتعالى . والفريق الآخر يقول الأمر ليس هكذا فالدين وكل معطياته ثوابت ومطلقات ولا تخضع للتغيير لأنها من عند الخالق جل وعلا ، أما السياسة وهى التى تعنى فى مجملها كيفية توجيه الواقع استناداً إلى تفاعل وتصارع وتنافس القوى المختلفة فى المجتمع بما يحقق توازن هذا الواقع من خلال تراضى وتوافق القوى المتصارعة والمتنافسة فهو أمر يخضع للعديد من المتغيرات التاريخية والثقافية والاجتماعية ، ولا يمكن أن يخضع فى معالجته لمطلقات وثوابت بل يخضع لضوابط ومحددات ومعايير قد تتبلور فى قوانين تستند إلى الاتفاق العام الذى يضبط حركة هذا التفاعل والصراع والتنافس ، هذه القوانين والضوابط والمعايير قابلة للتغيير عندما يتغير الواقع الذى يحكم تفاعل القوى والمصالح المتنافسة والمتصارعة ، ليحدث اتفاق عام جديد يتفق ومعطيات هذا الواقع . لذلك لا يكون من صالح أى مجتمع أن يحكم تفاعل وتنافس كل القوى فيه من خلال ضوابط ومعايير مطلقة وثابتة ، وإلا حكم على نفسه بحدوث أمرين أولهما هو حدوث جمود وثبات فى انطلاق هذا المجتمع وانحسار تقدمه ، وثانيهما هو انفجار هذا المجتمع نتيجة انعدام المرونة فى مواجهة متغيرات الواقع المتسارعة . هذه هى وجهة نظر الفريق الثانى الذى يرى أنه لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة ... وقد أكون قد توسعت قليلاً فى عرضها أو ربما تحيزت قليلاً عند تقديمها ، ولكن المهم أن نبلور وجهتى النظر فى نقطتين محدودتين : · أن من يرون أن الدين يجب أن يحكم الحياة فى كل مناشطها ينطلقون من أن الله هو الحق المطلق ، والحق المطلق هو الذى تستمد منه كل القيم التى يجب أن تحكم الواقع، وأنه لا مجال للبدائل المتعددة ولا مجال للاختيار المتعدد ، ولا مجال للتشكيك والتضليل .. فالحق هو الحق ، والحق المطلق هو الله عز وجل ولا يعلو على الحق كائن من كان ... · والفريق الثانى يرى أنه لا ثوابت ولا حتمية فى الحياة فكل الأمور متغيرات وأن الإيمان بأن الله عز وجل هو الثابت الوحيد والمطلق الأوحد لا تعارض بينه وبين متغيرات الواقع التى لا يمكن أن تحكم إلا بمتغيرات تحقق المرونة الكاملة . كل فريق ثابت على موقفه ، وله حق فى ثباته فليس هناك نصف مطلق ونصف ثابت فإما مطلق أو غير مطلق ( نسبى ) وإما ثابت أو متغير . إذن كيف تُحل المشكلة بين الدين والسياسة ؟ الحل هو أن نحاول أن نفهم شرعية وجود كل منهما .. أى لماذا كان الدين ولماذا كانت السياسة ؟ الدين هو تلك المنظومة المتكاملة من المفاهيم والمبادىء والضوابط التى يؤمن بها الإنسان عن اعتقاد جازم باليقين فى مصداقيتها لصدورهما من السماء (الله عز وجل) من أجل العمل على إسعاد الإنسان فى الحياة الدنيا والحياة الآخرة .. وشرعية وجوده هو الإجابة على سؤالين أساسيين هما : · ما هو معنى الحياة بالنسبة للإنسان ؟ أى أنه من الدين يكتسب الإنسان معنى حياته ووجوده فيها ، وهو بهذا المعنى يحقق أهم سبل توازنه فيها . · كيف يتعامل الإنسان تعاملاً صحيحاً ورشيداً مع مختلف كائنات هذا الكون بما يجلب السعادة له ولهم ؟ أى ما هى المبادىء والقواعد التى يجب أن تحكم سلوكه وأفعاله مع مختلف الكائنات فى هذا الكون ، بما يؤدى إلى شيوع الخير والسعادة للجميع . وبالتالى تكون شرعية وجود الإنسان من منظور الدين فى ثلاثة جوانب أساسية هى : · العمل على اكتشاف وتعمير الكون من أجل إسعاد الآخرين وراحة الإنسان فيه (الدين دافع للعمل والإنجاز) . · العمل على إسعاد الآخرين بالتكافل والتراحم فيما بينهم . · القيام بالتكليفات التى يلتزم بها الفرد وفقاً للدين الذى ينتمى إليه . أما السياسية ، فهى تلك الأسس والضوابط والمبادىء والقواعد التى تحكم توزيع وتوازن القوة والنفوذ بين كل القوى الاجتماعية ذات المصالح المختلفة والمتضادة والمتنافسة بما لا يحقق الاتفاق والتراضى فقط فيما بينهما ، ولكن أيضاً بما يجعل من اتفاقها وتراضيها وفقاً لهذه المبادىء والقواعد قوة دافعة للمجتمع نحو التقدم . السياسة هى كيف نحدد ما هو النموذج وما هو الوضع الأمثل للمواقف التى نتعامل معها ، وما هو الواقع الفعلى الذى يحكم هذه المواقف ، وما هى أفضل السبل التى يمكن أن تؤدى ِإلى الوصول بالواقع أو بالموقف الحالى إلى النموذج أى إلى أفضل ما يمكن أن يكون عليه هذا الواقع . والواقع متغير ، والنموذج أو التصور الأمثل لمعالجة الواقع أيضاً متغير ، والتوفيق بين الواقع الحالى والنموذج الأنسب لمعالجته يختلف من حالة إلى أخرى .. ولا يمكن معالجة كل واقع وكل نموذج بثوابت مطلقة . من الواضح تماماً مما سبق أن الدين يبحث فى موضوع مختلف عن السياسة ، هو يبحث فى تيسير حياة الإنسان فى هذا الكون والعمل على سعادته فيه من خلال مجموعة من النواهى والمحظورات التى تتبلور حول منع الضرر عن الآخر وجلب المنفعة له ... والسياسة موضوعها القوة والنفوذ والسلطة وتوازناتها .. وهنا سيثار السؤال التالى وماذا يمنع أن يدخل الدين وبشده ليضع القواعد التى تحكم السياسة ، والتى تحكم ضوابط وقواعد توزيع القوة ؟ والرد على من يقولون بغير ذلك السبب أنه لا ثوابت ولا حتمية فى تلك القواعد فهى متغيرات من عصر إلى آخر ومن مكان إلى آخر وربما من موقف إلى آخر ، والدين ثوابت . إذن ما هو الحل ؟ الحل أن نلجأ إلى العلم والقانون .. العلم كمرجعية فى فهم وتفسير كل المواقف الحياتية أيا كانت . والقانون كضوابط وقواعد وضعية تصدر بالاتفاق العام لتكون ملزمة وواجبة التطبيق فى كل المواقف المختلفة . مع الأخذ فى الاعتبار النقاط التالية : أولاً : أنه من غير المقبول أنه يتم معالجة أيا فى المواقف الحياتية التى نواجهها سواء كانت سياسية واجتماعية وثقافية عن طريق حلول لمواقف تاريخية مماثلة فالمواقف الحالية لا يمكن أن تتشابه مع مواقف حدثت فى الماضى من حيث الظروف المحيطة جغرافياً وثقافياً واقتصادياً وتكنولوجياً ، وعلى الأقل لاختلاف حجم المعرفة المتاح لمعالجة كل من الموقفين . ثانياً : أن المرجعية فى كل ما يتعلق بتفاصيل الأمور المرتبطة بمعالجة أى واقع لابد وأن تكون للعلم .. ولا يتعارض ذلك مع معالجة أى موقف حياتى فى إطار الاعتبارات والمبادىء الدينية لمنع الضرر وجلب المنفعة ، والتى غالباً ما سيتضمنها العلم والقانون . ثالثاً : أن القانون هو الحقيقة والتى يكون عليها الإجماع ولها الإلزام ، ولا مفر من الخضوع لقواعده وضوابطه لأنها صدرت وفقاً لآليات الاتفاق العام ، ويتم تطبيقها بكل العدل والمساواة ودون تمييز أو اختلاف فى التطبيق على كل الأفراد، أيا كانت اختلافاتهم فى الرؤى للأمور ، وأيا كانت انتماءاتهم الدينية وغير الدينية ، ولا يمنع أن يكون الدين ومبادئه السامية من أهم الأسس التى تقوم عليها القوانين . رابعاً: أن لا يكون الدين عائقاً – لو انتصر أصحاب الرأى بأن الدين هو الحياة وأنه يجب أن يحكم كل مناشطها أمام تقدم العلم ولا أمام تقدم الفن ، وأن لا يوضع أمام العقل أية قيود دينية تقف عائقاً أمام الإبداع فى العلم والفن ، إلا الضوابط الأخلاقية المستمدة من الدين فيما يتعلق بتشكيل أخلاقيات العلم وأخلاقيات الفن ، والتى يجب أن تتحول إلى قوانين تحمل ضوابط قانونية وتشريعية يكون عليها اتفاق عام ملزم دون تمييز . خامساً: أنه يجب أن لا نغفل أو نتناسى أو نكذب على أنفسنا أنه مهما كانت المرجعيات والضوابط الدينية والأخلاقية للأفراد من الفريق الذى يرى أن الدين يجب أن يحكم كل مناشط الحياة وهم غالباً أصحاب التيارات الدينية على اختلاف توجهاتها ومدارسها ، ومهما كانت مثاليات ونوايا ومشاعر الأفراد من هذه المجموعات والجماعات عند ممارسة السياسة فى الواقع الفعلى لها ، وعند ممارستهم للسلطة وفاعليتها ، فإن المصالح ، وحسابات التوازنات قد تؤدى فى الكثير من الأحيان إلى التضحية بالمبادىء والقواعد الأخلاقية والدينية ، والتاريخ ملىء بالمواقف التى تؤكد أنه قد تم التضحية بالمبادىء مقابل المصالح ، فالسياسة هى السياسة متغيرات تحكم متغيرات أما الدين فهو ثوابت يُستمد منها مبادىء وقواعد تمنع الضرر وتجلب المنفعة وتحقق الخير والسعادة للإنسان