بفوز الاسترالي ريتشارد فلانجن بجائزة "مان بوكر" لهذا العام، تكون الجائزة الأهم في الأدب المكتوب بالانجليزية قد ذهبت لثالث استرالي عبر تاريخها الذي يخطو حثيثا نحو النصف قرن، فيما غرت الأماني الأمريكيين الذين اعتبروا انهم قاب قوسين أو أدنى من هذه الجائزة التي يتنافسون عليها للمرة الأولى. وحظت رواية "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" لريتشارد فلانجن، وهي سادس رواياته، باجماع اعضاء لجنة التحكيم كأفضل رواية في القائمة القصيرة التي ضمت اسماء هوارد جاكوبسون وجوشوا فيريس وكارين فاولر والي سميث ونيل مخيرجي. ومن الظواهر الدالة هذا العام ان اهم جائزتين للأدب في العالم وهما جائزة نوبل وجائزة المان بوكر، ذهبتا لأديبين لهما اهتمامات ابداعية اصيلة بقضايا "الاحتلال"، سواء الفرنسي باتريك موديانو، أو الاسترالي ريتشارد فلانجن والذي يتحدث في روايته "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" عن الاحتلال الياباني لبورما والمعاناة الفظيعة لأسرى الحرب. ويوصف ريتشارد فلانجن البالغ من العمر 53 عاما من جانب العديد من النقاد في بلاده بأنه "افضل روائي استرالي في جيله"، وبقدر تواضعه في الحياة بقدر ما يعلي من قيمة الكلمة وأهمية الرواية في العالم المعاصر، فيما تتحرك روايته الفائزة بجائزة مان بوكر لهذا العام على محوري الحب والحرب. ولا ريب ان فوز فلانجن قد بدد المخاوف من تهميش الأصوات الروائية في مجموعة الكمنولث لحساب الأدب الأمريكي بصخبه، خاصة وان الحضور الأمريكي كان واضحا لكل ذي عينين في القائمتين الطويلة والقصيرة للجائزة. وقد يكون هذا الخريف هو خريف الغضب الأمريكي حيال اهم الجوائز الأدبية في العالم، اذ حلم الأمريكيون بفوز اديبهم فيليب روث بجائزة نوبل في الآداب، فاذا بها تذهب للروائي الفرنسي باتريك موديانو، وضمت القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر ضمت اثنين من الأمريكيين هما جوشوا فيريس وكارين فاولر لكن لجنة المحكمين اختارت بالاجماع الاسترالي ريتشارد فلانجن لتتويجه بالجائزة في لندن. ويعد الأمريكي جوشوا فيريس المولود عام 1974 أصغر المرشحين سنا للجائزة بعد ان وصلت روايته "ان تنهض مجددا في ساعة معقولة" للقائمة القصيرة، اما الأديبة الأمريكية كارين فاولر التي ولدت عام 1950 فهي صاحبة رواية "كلنا نقف مع أنفسنا". وكان الأمريكيون الذين وجدوا اربعة اسماء لأدبائهم في القائمة الطويلة للمرشحين للفوز بالجائزة يأملون ان تذهب جائزة مان بوكر هذا العام لأدبهم، فيما اضحى الطريق للجائزة ممهدا بعد تغيير قواعدها بما يسمح بمنحها لأي اديب يكتب اصلا بالانجليزية وتنشر ابداعاته بهذه اللغة في المملكة المتحدة. وعلى أي حال، فإن وصول أربعة كتاب أمريكيين هم جوشوا فيريس وكارين فاولر وسيري هوسفيدت وريتشارد باورز للقائمة الطويلة لجائزة مان بوكر والتي تضم 13 روائيا في اول عام يسمح فيه بتنافس الروائيين الأمريكيين للفوز بهذه الجائزة، يعد مؤشرا حول قوة الأدب الأمريكي وحدة المنافسة في الأعوام القادمة. وحطت جائزة مان بوكر في العام الماضي عند الروائية النيوزيلندية الشابة الينور كاتن والتي تعد اصغر فائزة في تاريخ هذه الجائزة الأدبية المرموقة، كما انها صاحبة اطول رواية في تاريخ تلك الجائزة الممتد على مدى 46 عاما والتي تشهد تحولات جوهرية وتكسر قواعد استقرت طويلا كان من بينها الا تمنح الا لكاتب من بريطانيا وايرلندا ودول مجموعة الكمنولث وزيمبابوي. وحسب ما أعلنه جوناثان تايلور رئيس مؤسسة جائزة بوكر في هذا السياق المتعلق بتغيير قواعد منح جائزة المان بوكر، فان المؤسسة بذلك "تعانق اللغة الانجليزية وهي تتدفق عفية بحرية مفصحة عن مواهبها وحيويتها ومجدها اينما كان. لقد اسقطنا قيود الجغرافيا والحدود الوطنية". وواقع الحال ان تغيير قواعد جائزة مان بوكر هذا العام لم يؤثر على استراليا كجزء من الكمنولث وكان كتابها يتنافسون دوما من قبل للفوز بالجائزة التي فاز بها من قبل الاسترالي توماس كينيلي عام 1982 والتي اتجهت أيضا عام 1988 للاسترالي بيتر كاري. والواقع ايضا ان فوز الاسترالي ريتشارد فلانجن بجائزة مان بوكر لعام 2014 قد جاء ليثبت عدم صحة التكهنات التي تتردد دوما قبيل منح هذه الجائزة وكانت قد رجحت هذا العام فوز نيل موخيرجي البريطاني من اصل هندي وصاحب رواية "حيوات الآخرين"، وكذلك البريطاني هوارد جاكوبسون المولود عام 1942 وهو اكبر المرشحين سنا وصاحب رواية "جى" الذي نال الجائزة من قبل عام 2010 عن روايته "مسألة فنكلر". وتدور رواية "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" التي مزجت ما بين البطولة والاحساس بالذنب في زمن الحرب العالمية الثانية، فيما المكان هو خط جديد يبنى للسكك الحديدية في بورما التي بات اسمها الآن "ميانمار" ويعرفها كثير من العرب بعد ان تواترت الأنباء في العامين الأخيرين حول تعرض الأقلية المسلمة فيها لصنوف الاضطهاد. والسجن الياباني القاسي حاضر في رواية "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" وكذلك قصة حب اقرب للمحرمات بين جراح يدعى دوريجو ايفانز وزوجة عمه لتنساب الرواية كنهر يمر بمحطات عدة بعضها قاتم وموحل والبعض منير ومشرق. ووصف رئيس لجنة التحكيم آي.سي.جريلنج الرواية الفائزة بأنها تجمع بين قصة حب بديعة ومعاناة الانسان ومكابدات المحاربين، كما تجمع بين الشرق والغرب وكذلك بين الماضي والحاضر. وريتشارد فلانجن ابن ولاية تسمانيا الاسترالية والناشط في مجال حماية البيئة، انتهى من كتابة السطر الأخير في روايته الفائزة في اليوم ذاته الذي قضى فيه والده عن عمر يناهز ال98 عاما وقد شكل مصدر الالهام للابن في ابداع تلك الرواية التي كتبت بأناقة لافتة واستغرقت كتابتها 12 عاما. فالأب هو اسير حرب استرالي لدى اليابانيين ابان الحرب العالمية الثانية كتبت له النجاة اثناء ارغامه على العمل في بناء خطط السكك الحديدية بين بورما وتايلاند المعروف "بسكك الموت"، وكابد أهوال السجون بعد ان تحول للرقم 335 داخل سجنه الياباني. وبطل الرواية رغم علاقته الآثمة بزوجة عمه يحاول باخلاص كطبيب جراح مساعدة من يواجهون الموت والجوع والكوليرا وصنوف التعذيب، فيما يلفت ريتشارد فلانجن لحقيقة مفزعة، وهي ان عدد من هلكوا في الواقع اثناء مد هذا الخط للسكك الحديدية يتجاوز عدد الهالكين جراء القصف الذري الأمريكي لمدينة هيروشيما اليابانية. وصاحب "يد واحدة تصفق"، لم يكتف في روايته "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" بتناول ما حدث اثناء الحرب العالمية الثانية وانما مضى ليستكشف خسائر ما بعد الحرب حيث لاحظ ان الناجين سرعان ما تنقصف اعمارهم ما بين انتحار وحوادث سير أو مرض يفضي لموت سريع. وتقصى فلانجن أيضا مصائر الجلادين أو السجانين اليابانيين، فيما طرز روايته بعبق الشعر الياباني، حتى ان عنوانها في الواقع مستمد من قصيدة يابانية ترجع للقرن السابع عشر. ورواية "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" تتضمن نوعا من البحث أو الدراسة في تحولات الهوية، كما يتجلى في بطلها دوريجو ايفانز الذي يعاني من التمزق بين زمن الحرب وزمن السلام. ورواية "الطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا" تتناول أيضا ذلك الانسان المعذب بين نوازع الخير والشر والجامع في شخصه بين النقيضين معا، وهي كاشفة حقا عن صعوبة البقاء على قيد الحياة بعد النجاة من موت في حكم المؤكد. وفيما كانت الينور كاتن قد تناولت في الرواية الفائزة بجائزة مان بوكر لعام 2013 "اللامعون" حمي التنقيب عن الذهب، فإن جائزة المان بوكر تشكل بدورها كنزا تتسابق عليه دور النشر بصورة محمومة، فيما تطمح كل منها بالفوز بالجائزة على امل زيادة مبيعاتها بصورة كبيرة من الرواية الفائزة. وهذا ما يتوقع حدوثه هذا العام بعد الاعلان عن فوز رواية "االطريق الضيق للشمال الموغل بعيدا"، لريتشارد فلانجن التي وصفت في صحف غربية بأنها "رائعة"، وقال عنها الناقد توماس كينيللي في صحيفة "الجارديان" البريطانية انها تطرح رؤية انسانية ثرية ومتبصرة لمأساة تعرض لها أسرى الحرب في المعسكرات اليابانية. فالقيمة المادية لجائزة المان بوكر والتي تبلغ 50 ألف جنيه استرليني تتراجع كثيرا امام ما تنطوي عليه هذه الجائزة من شهرة لصاحبها ومبيعات عالية لروايته الفائزة، بل انها تكون احيانا "الباب الملكي نحو أم الجوائز الأدبية العالمية"، ألا وهي جائزة نوبل، كما يتجلى في حالة أليس مونرو التي كانت قد فازت بجائزة مان بوكر عام 2009 قبل ان يتوقف قطار نوبل عام 2013عند محطتها الابداعية. وفوز ريتشارد فلانجن الذي بدد المخاوف هذا العام على الأقل من ظاهرة "الغزو الروائي الأمريكي" للأدب المكتوب بالانجليزية، يضع الرواية الاسترالية في مكانة مرموقة وتنافسية على مستوى هذا الأدب المكتوب باللغة الأكثر انتشارا في العالم. كما أن هناك من يرى ان القواعد الجديدة والميسرة لجائزة المان بوكر تضخ ابداعا جديدا وتجدد فعلا شباب الجائزة التي طالتها من قبل انتقادات مريرة رأت انها منحت لأعمال دون المستوى، بل ان بعض المتحمسين لهذا التوجه الجديد ذهبوا الى ان المان بوكر يمكن الآن ان تنافس جائزة نوبل للآداب من حيث الأهمية والثقل والمكانة واتساع رقعة التنافس وعدد المتنافسين. والواضح من صفحات الصحافة الثقافية الغربية انها راضية عن فوز الاسترالي ريتشارد فلانجن بجائزة مان بوكر هذا العام، خلافا لما حدث بعد الاعلان عن فوز الفرنسي باتريك موديانو بجائزة نوبل في الآداب، غير ان الأمريكيين وحدهم يشعرون بأن اهم جائزتين للأدب ضلتا الطريق في عام 2014 نحو العم سام!