جعل منها الزهايمر شيئا مبهما" فهى لم تعد تعلم أى شىء حتى عدد سنواتها التى عاشتها فى الحياة، لم تكن تعلم كم من المدة التى قضتها فى دار المسنين "واستطاع الزهايمر أن يمحي كل شىء قد مضى فيما عدا شيء واحد فقط، وهو الوحيد المؤلم فى حياتها فلم تنس أن أولادها قالوا لها ذات يوم "إحنا مش عاوزينك مش هاينفع تعيشي معانا"، تلك الكلمات هى الوحيدة التى تبقت فى ذاكرتها من عبق الماضي وألمه الذى كلما تذكرته تبكى ليس شوقا لأولادها ولكن تبكى لما وصلت له الآن. فاطمه إحدى المتواجدات بدار المسنين كانت تسمع حديثى مع باقى المتواجدين، وحين طلبت منها أن نتحدث قليلا وافقت دون أدنى تفكير، رسمت على وجهها ضحكة لم أر مثلها من قبل، وحين قلت لها إنتى عندك كام سنة قالت مبتسمة إبتسامة حاولت أن تعبر عن طريقها ممرات الخجل لنسيانها عمرها وقالت " تلاتين...اربعين...خمسين...زى ما تحسب يبنى أنا مش هازعل"، وتبادلنا الضحك سويا ثم سألتها عن اسمها فقالت، "أنا اسمى فاطمة بقالى هنا أسبوعين" ضحك كل المتواجدين حولنا من مسؤلات الدار لخفة دمها ولأنها فى الدار منذ سنين وليس أسبوعين فقط كما قالت ولكنها لم تغضب. " أولادى قالولى خحلاص انتى من طريق واحنا من طريق مش هاينفع تعيشي معانا سيبتوهم يبنى وجيت هنا علشان " استنكرت هذه الكلمات وسالتها عن السبب قالت، "مش عارفه هما عاوزين كده وأنا سيبتهم وجيت هنا ومبسوطة مع الناس دول". " مسامحاهم من كل قلبى مسمحاهم ومش زعلانة منهم وبدعيلهم من كل قلبى والله يبنى" بتلك الكلمات البسيطة أكدت أنها فى الحقيقة أم أنهم لا يستحقون ذاك القلب الذى سامحهم على الرغم مما قاموا به من طردها وتشريدها بعدما تزوجوا فهم ثلاثة أولاد رفضوا أن تعيش هى معهم وباتت لا تعرف حتى عمرها. في لحظات من الصمت بدأ قلبها يبكى لم نكن نراه، ولكن كنا نرى وجهها الذى قسي على ملامحه الزمن يبكى من الحسرة هو الآخر على تلك الحياة، كانت تبكى بدون أي صوت او دموع، حاولت أن أستوقف ذاك البكاء وسألتها عن أمنيتها الوحيدة قالت، "أنا نفسي في شقه ومش عاوزه حاجة تانى، عاوزه أقعد فيها لوحدى "سالتها"، وإنتى هاتقدرى تقعدى لوحدك وتخدمى نفسك، قالت، " ايوه يا حبيبي هاخدم نفسي ماتخفش يعنى مش هاعرف اعمل لنفسي لقمه صغيرة أكلها، أنا نفسي في شقة وأنا هاخدم نفسي وأعمل لنفسي كل حاجة. وبدأت تحكى قصص لم أكن متأكدا من صحتها لأننى، وكما ذكرت أنها مريضة بالزهايمر، فقالت أنها سافرت عمره وهو ما لم يصدق عليه القائمين بالدار، ولكنى تابعت معها الحديث رغم أننى أعرف وهميته وقلت لها "طب لما وقفتى عند الكعبه قولتى ايه" أجابتنى وهى تبكى، " دعيت لولادى بالهداية وان ربنا يكرمهم وقولتله كل حاجه قولتله انت عارف كل حاجة". في النهايه أغلقت كاميرتى، وقلت لها إدعيلى فقالت، "ربنا يوفقك انت والى زيك يبنى ويكرمك". لم أجد أى كلمات من الممكن أن أختم بها كلمات تلك السيدة، ولكن قلت لها في النهاية "ربنا يكرمك".