الفجوة التمويلية في مصر ليست وليدة ثورة 25 يناير 2011، ولكنها من المشكلات الاقتصادية المزمنة، حيث لا يناسب معدل الادخار القومي مع متطلبات الاستثمار، ففي أحسن التقديرات يصل معدل الادخار القومي في مصر إلى 17% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما متطلبات الاستثمار تقتضي أن يبلغ الاستثمار القومي نسبة 25 % على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي. ومن هنا لجأت مصر إلى اتباع سياسة تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، بعد أن أرهقتها سياسة الاقتراض من الخارج، وتعتبر الاستثمارات العربية أحد المستهدفات المهمة للاقتصاد المصري، إلا أن المكون الأجنبي غير العربي لا يزال هو الأكبر في مصر على مدار السنوات الماضية. وثمة انتقادات كثيرة وجهت للاستثمارات العربية خلال الفترة الماضية بسبب ضعف تواجدها بالمنطقة العربية، وتركيزها بشكل كبير على التواجد في أمريكا وأوروبا، في الوقت الذي تعاني فيه المنطقة العربية من احتياج شديد لدفع استثمارات تساعد في فك حلقتي الفقر والبطالة عن المجتمعات العربية، وبخاصة الشباب في هذه البلدان، حيث دفعهم الوضع الاقتصادي المتردي إلى الهجرة غير الشرعية إلى دول أوروبا، مما عرض حياة هؤلاء الشباب للخطر. أولًا: استثمارات ومساعدات ثمة فارق كبير بين حاجة مصر للاستثمار وحاجتها للمساعدات، فالمساعدات قد تستخدم في حل مشكلات آنية، فضلًا عن أنها لا تتسم بالاستمرار، وعادة ما يكون مردودها في تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد المصري ضعيف، بينما الاستثمار على العكس من ذلك، وبخاصة أننا نعني الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث يتم خلق فرص عمل، وتحسن من حجم ونوع الناتج المحلي الإجمالي وكذلك معدلات النمو الاقتصادي. ومنذ أحداث 30 يونيو الماضي وما ترتب عليها من تغيير للمشهد السياسي والاقتصادي في مصر، تم الإعلان عن حزمة من المساعدات الخليجية على وجه التحديد للاقتصاد المصري، وبخاصة من المملكة العربية السعودية بنحو 5 مليارات دولار، والإمارات بنحو 3 مليارات دولار، والكويت بنحو 4 مليارات دولار، وقد أوضحت التفاصيل المتاحة عن حجم وطبيعة هذه المساعدات، أنها تأتي في شكل ودائع بنكية، ومنح نفطية، وقروض، ومنح لا ترد، ولم تتم الإشارة إلى وجود مبالغ موجه للاستثمار من خلال هذه المساعدات. وحتى تخرج مصر من دوامة عجز الاستثمارات، فدور الاستثمارات الأجنبية وبخاصة العربية منها، أن تتدفق في مجالات الاستثمار المباشر، لتقوية هيكل الناتج المحلي المصري، لتصبح لديه قاعدة انتاجية قوية قوامها قطاعي الصناعة والزراعة، وتوفير الاحتياجات الأساسية من السلع الزراعية والغذائية. ولا تمثل حاجة مصر الاستثمارية إلا جزء ا يسيرا من استثمارات الصناديق السيادية الخليجية التي تقدر بما يزيد عن 2 تريليون دولار على مستوى العالم. ثانيًا: حجم الاستثمارات العربية بمصر حسب بيانات تقرير مناخ الاستثمار الصادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار لعام 2011 تبين أن نصيب مصر من الاستثمارات العربية البينية بحدود 19.9 مليار دولار على مدار الفترة 1995 – 2011، أي بمتوسط 1.2 مليار دولار سنويًا، وهو مبلغ لا يتفق واحتياجات مصر للاستثمارات الأجنبية، وكذلك يعد رقمًا متواضعًا مقارنة بالاستثمارات العربية الخارجية. أما بيانات البنك المركزي المصري فتوضح أن الاستثمارات العربية في مصر شهدت أفضل معدلاتها خلال عام 2007/2008، ثم بدأت في التراجع بعد هذا العام، متأثرة بالأزمة المالية العالمية، فلم تزد عن 1.4 مليار دولار سنويًا على مدار الفترة من 2008/2009 – 2011/2012. وتعتبر السعودية والإمارات والكويت عصب الاستثمارات العربية في مصر، أما باقي الاستثمارات العربية فتمثل وجودًا ضعيفًا مقارنة بالدول العربية المذكورة، أو مقارنة بالدول الأجنبية غير العربية. وتتسم الاستثمارات العربية في مصر بأنها تتركز بشكل رئيسي في قطاعي السياحة والعقار والخدمات المالية والاتصالات والسلاسل التجارية الكبيرة، ومؤخرًا اتجهت بعض الاستثمارات العربية لقطاع الصناعات الغذائية. ثالثًا: الطموحات المصرية تعاني مصر من فجوة تمويلية تقدر بنحو 24 مليار دولار، على صعيد العجز بالموازنة العامة للدولة، ولا مخرج لها سوى عبر توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض قدر بنحو 4.8 مليار دولار، ويتوقع أن ترتفع قيمته ليصل إلى 6.4 مليار دولار، نظرًا لتفاقم المشكلات الاقتصادية المتعلقة بالموازنة العامة للدولة، وبعد التوقيع على اتفاق الصندوق يمكن لمصر الحصول على باقي الحزمة التمويلية عبر المؤسسات المالية الإقليمية والدولية الأخرى. إلا أن الاستثمارات المباشرة لها وجه أخر يتمثل في حاجة مصر إلى نحو 8 مليار دولار سنويًا، حتى تستطيع مواجهة توفير فرص عمل للداخلين الجدد لسوق العمل، والذين يقدر عددهم بنحو 850 ألف فرد. ولذلك فإن طموحات الاقتصاد المصري تجاه الاستثمارات العربية تتمثل فيما يلي: ضمان المساهمة في ضخ الاستثمارات العربية المباشرة بشكل سنوي على الأقل خلال السنوات الخمس القادمة، بما يضمن توفير استثمارات كلية تساهم في تحقيق معدلات للنمو الاقتصادي تتفق ومعدلات الزيادة السكانية في مصر. ويصل معدل الزيادة السكانية في مصر 1.9 % سنويًا، بينما معدل النمو الاقتصادي في مصر بعد الثورة لا يزيد عن 2.6 %. والمسلمات الاقتصادية تؤدي إلى ضرورة أن يكون معدل النمو الاقتصادي ثلاثة أضعاف معدل الزيادة السكانية، أي مطلوب ألا يقل معدل النمو الاقتصادي عن 6 % سنويًا ولفترات طويلة ومستمرة، حتى يحدث توازن يمكن تحقيقه بين معدل النمو الاقتصادي ومعدل الزيادة السكانية. ويتعين أن تعدل الاستثمارات العربية من خريطة توجهها الاستثماري في مصر، فكما ذكرنا من قبل فالاستثمارات العربية لا تمس حاجة الطبقة الفقيرة ومحدودي الدخل ولا الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة. فالإسكان الفاخر والمنتجعات السياحية أو السلاسل التجارية الكبرى تلبي احتياجات الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة وطبقة الأغنياء. فهناك أزمة إسكان حقيقية في مصر للطبقة الفقيرة والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة، تقدر بنحو 600 ألف وحدة سكانية سنويًا، لا ينفذ منها سوى 250 ألف تقريبًا. ومن هنا فهذا أحد المجالات التي تطمح مصر أن تلجأ إليها الاستثمارات العربية المباشرة. ثمة قطاعات أخرى تمثل حاجة ملحة لمصر في قطاع النقل والسكك الحديدية، وإعادة تدوير القمامة، والطاقة الجديدة والمتجددة. وبعد تزايد أزمة المياه في مصر ودخولها في حزام خط الفقر المائي، أصبحت مصر بحاجة إلى مشروعات تعمل في مجالات معالجة المياه الخاصة بالمنازل أو المصانع، للاستفادة منها مرة أخرى تغطية العجز المائي. ويمكن للاستثمارات العربية أن تساهم في تلك المجالات وغيرها، إذا ما كان ينتظر دورا إيجابيا للاستثمارات العربية في مصر. لابد أن نفرق بين نوعين من الاستثمارات العربية في مصر، وهما الاستثمارات العربية المملوكة للقطاع الخاص العربي، والاستثمارات العربية الحكومية، وقد يكون من الصعب أن يتم توجيه أو جذب استثمارات القطاع الخاص العربي للمشروعات التنموية الملحة لمصر، نظرًا لتأخر العائد الاقتصادي منها في السنوات الاولى، بينما القطاع الخاص عمومًا بغض النظر عن موطنه يبحث عن الربح السريع. ومن هنا يبقى الرجاء في الاستثمارات العربية الحكومية في أن تساهم في مشروعات التنمية التي تحتاج إليها مصر خلال المرحلة المقبلة. ولا ينقص هذا البديل سوى الإرادة السياسية، حيث تمثل الصناديق السيادية الخليجية الجانب الأكبر والمهم في طبيعة تكوين الاستثمارات العربية الخليجية. إلا أن ذلك كله مرهون بتطورات الوضع السياسي في مصر، فإذا ما نجح انقلاب 30 يونيو في أن يثبت أركانه، فمن المتوقع أن يكون هناك دور للاستثمارات العربية في مصر، وبخاصة أن الدول الخليجية أعربت عن ترحيبها بما حدث من تغيرات في 30 يونيو الماضي بمصر. أما إذا عاد الوضع إلى ما كان عليه قبل 30 يونيو 2013 فمن المتوقع أن تظل الاستثمارات العربية في حدودها الملموسة الآن.