وزير التعليم العالي: الجامعات والمعاهد تدعم خطط التنمية وتحقيق رؤية مصر    رئيس الوزراء يستعرض مقترحاً للاستغلال الأمثل سياحياً ل«مسار العائلة المقدسة»    إزالة 88 حالة تعد ضمن المرحلة الأولى للموجه ال 26 بأسوان    الإسكان: تفاصيل طرح سكن لكل المصريين 7 غدا ومميزات المبادرة    رئيس الوزراء يستقبل ولي عهد إمارة الفجيرة لاستعرض الفرص الاستثمارية    الرمادي يمنح لاعبي الزمالك راحة غداً من التدريبات    جنايات الإسكندرية تقضي بإعدام عامل قام بقتل أحد الأشخاص وشرع في قتل آخر    محمد رمضان يروج لأحدث أغانية |فيديو    ياسمين صبري تشارك متابعيها كواليس «فوتوسيشن» جديد    في جراحة دقيقة وعاجلة.. فريق طبي ينقذ يد مريض من البتر ب مستشفى السنبلاوين العام    بروتوكول تعاون بين جامعة جنوب الوادي وهيئة تنمية الصعيد    اتحاد الكرة يستقر على تغيير ملعب نهائي كأس مصر للسيدات    المحاولة الخامسة منذ 2008.. توتنهام يبحث عن منصات التتويج أمام مانشستر يونايتد    أول رد من بيراميدز على تصريحات سويلم بشأن التلويح بخصم 6 نقاط    إقبال منخفض على شواطئ الإسكندرية بالتزامن مع بداية امتحانات نهاية العام    باكستان والهند توافقان على سحب قواتهما إلى مواقع وقت السلم    بث مباشر.. الأهلي 13-11 الزمالك.. دوري السوبر للسلة    وزير السياحة: إنقاذ "أبو مينا" الأثرية يحظى بإشادة اليونسكو بفضل توجيهات السيسي- صور    غدا.. طرح الجزء الجديد من فيلم "مهمة مستحيلة" في دور العرض المصرية    الجيش السوداني يعلن تطهير الخرطوم من المتمردين    شروع في قتل عامل بسلاح أبيض بحدائق الأهرام    المشرف على "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" تستقبل وفدًا من منظمة هيئة إنقاذ الطفولة    خالد عبدالغفار يبحث تعزيز التعاون مع وزيري صحة لاتفيا وأوكرانيا    وفاة عجوز بآلة حادة على يد ابنها في قنا    رئيس الوزراء: نتطلع لتفعيل المجلس الأعلى التنسيقي المصري السعودي    وزير الدفاع يشهد مشروع مراكز القيادة التعبوي للمنطقة الغربية العسكرية    رئيس جامعة أسيوط يتابع امتحانات الفصل الدراسي الثاني ويطمئن على الطلاب    عبد المنعم عمارة: عندما كنت وزيرًا للرياضة كانت جميع أندية الدوري جماهيرية    جدل لغز ابن نجم شهير.. هل موجود أم لا ؟ | فيديو    «الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية» يوضح مواصفات الحجر الأسود؟    بعد 9 سنوات.. تطوير ملاعب الناشئين في نادي الزمالك    «زهور نسجية».. معرض فني بكلية التربية النوعية بجامعة أسيوط    وزير الصحة: مصر تقود مبادرة تاريخية لدعم أصحاب الأمراض النادرة    طريقة عمل البصارة أرخص وجبة وقيمتها الغذائية عالية    بالصور.. يسرا وهدى المفتي من كواليس تصوير فيلم الست لما    مصرع شخص سقط من سطح عقار في الدقهلية    استمارة التقدم على وظائف المدارس المصرية اليابانية للعام الدراسى 2026    جامعة القاهرة تستقبل وفدا صينيا بمستشفى قصر العيني الفرنساوي    5 فرص عمل للمصريين في مجال دباغة الجلود بالأردن (شروط التقديم)    محافظ بورسعيد: المحافظة ظلمت بسبب إدراجها ضمن المدن الحضرية    محافظة القدس تحذر من دعوات منظمات «الهيكل» المتطرفة لاقتحام المسجد الأقصى    سالم: نجهز ملف كامل حول أزمة القمة قبل الذهاب للمحكمة الرياضية.. ومتمسكون بعدالله السعيد    بعد دخول قائد الطائرة الحمام وإغماء مساعده.. رحلة جوية تحلق بدون طيار ل10 دقائق    مهرجان كان يمنح دينزل واشنطن السعفة الذهبية بشكل مفاجئ |صور    "أونروا": المنظمات الأممية ستتولى توزيع المساعدات الإنسانية في غزة    الإفتاء توضح فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة.. وغرة الشهر فلكيًا    شقق متوسطى الدخل هتنزل بكرة بالتقسيط على 20 سنة.. ومقدم 100 ألف جنيه    السفير المصري ببرلين يوجه الدعوة للشركات الألمانية للاستثمار في مصر    تشديد للوكلاء ومستوردي السيارات الكهربائية على الالتزام بالبروتوكول الأوروبي    ب48 مصنعاً.. وزير الزراعة: توطين صناعة المبيدات أصبح ضرورة تفرضها التحديات الاقتصادية العالمية    مكتب الإعلام الحكومي بغزة: تصريحات يائير جولان إقرار واضح بجريمة الإبادة الجماعية ضد شعبنا    "أمين عام مجمع اللغة العربية" يطلب من النواب تشريع لحماية لغة الضاد    هل يجوز الحج عمن مات مستطيعًا للعبادة؟.. دار الإفتاء تُجيب    ماذا تفعل المرأة إذا جاءها الحيض أثناء الحج؟.. أمينة الفتوى ترُد    الحبس 3 سنوات لعاطلين في سرقة مشغولات ذهبية من شقة بمصر الجديدة    عاجل- الصحة العالمية تُعلن خلو مصر من انتقال جميع طفيليات الملاريا البشرية    مصر كانت وستظل في مقدمة المدافعين عن فلسطين.. ورفض التهجير موقف لا يقبل المساومة    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التأملات الثانية في الفلسفة الأولى ( 8 )
نشر في البوابة يوم 27 - 07 - 2014


العلة والمعلول
تنويه عن خطأ في الفصل السابق : العبارة " ولم يكتشف العقل البشري أخطائه المنهجية إلا بعد ديكارت على يد مؤسس المنهج التجريبي الإنجليزي ( جون لوك) مًكتشف المنهج العلمي في التفكير ومن تبعوه بإحسان " ، وصوابها هو : " ولم يكتشف العقل البشري أخطائه المنهجية إلا بعد ديكارت على يد مؤسس المنهج التجريبي الإنجليزي ( فرنسيس بيكون ) مًكتشف المنهج العلمي في التفكير ومن تبعوه بإحسان " .
العلة والمعلول
في نص يعرفه كل من له حظ من معرفة ، يقول حجة الإسلام وفيلسوف السنة الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة ( ص 277 ) : " إن الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً ، وما يُعتقد مُسبباً ، فليس ضرورياً عندنا .. فليس وجود أحد السببين يقتضي وجود الآخر ، مثل : الري ( الارتواء من الماء ) والشرب ، والشفاء وشرب الدواء ، وأن اقترانهما هو لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقهما على التساوق لا يكون ضروريا في نفسه .. فالله قادر على خلق الشبع دون الأكل ، وخلق الموت دون حز الرقبة ، وإدامة الحياة مع حز الرقبة " .
يُريد الغزالي منا أن نُعطل حواسنا وعقولنا وأن ننكر ما نراه بحواسنا وتدركه عقولنا من أساب مادية لأحداث مادية بحسبانها من توهُمات العقل البشري ، وألا نرى الحدث المادي لازم وضروري عن سبب لولاه ما حدث الحدث ، وأن نُسلم له ومعه أن كل ما يحدث يرجع جميعه للإرادة الإلهية وحدها ، ثم يوضح ما يمكن تلخيصه في أن الله هو العلة الأولى لكل حدث ، وهو العلة الأولى لوجود الوجود ( الكون ) ، وخلق مع كونه عقل الإنسان الذي قام بالربط بين المتلازمين بحسبانهما سبب وحدث بوهم وحدس كاذب ، بينما ما يوجد في الواقع فعلا هو حدث يتلوه حدث وليس سبب يتلوه حدث ، ويكون كل ما نراه من علل هو وهم يصنعه العقل البشري بالعادة الرابطة للمُتتالي ، نتيجة رؤيته تلازُم الحدث مع الحدث ، فيصنع عقله مالا وجود له ( أي السبب ) ، بينما الله هو العلة الحقيقية لكل حدث ، فالعلل المحسوسة غير قائمة بذاتها إنما بذات الله ، ومن ثم لا توجد سوى علة واحدة هي العلة الأولى لكل حدث ، هي الله ، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، وما رميت إذ رميت لكن الله رمى ، وأُس الإيمان أن تؤمن بقضاء الله وقدره !! .
لفهم هذا الإيمان يجب أولا تحرير مُصطلح ( العلة والمعلول ) وضبطه وتحديد دلالته بدقة ، وكي يتم ذلك يجب الإجابة عن أسئلة يفرضها العقل حتى يفهم ، مثل : ماهي علاقة العلة بالمعلول ؟ هل هي علاقة تحول كالقول : إن اللبن هو علة الجبن ؟ أي أن اللبن تحول عن كونه لبنا موجوداً إلى لون آخر من الوجود لم يكن موجوداً هو الجبن ، أم هي علاقة فاعل بمفعول كأن نقول : إن التخمُر هو علة تحول اللبن إلى جبن ؟ أم نقول : إن إنزيم التخمر الذي تفرزه بكتيريا المنفحة جعل اللبن يتخثر ويصبح جبناً ؟ فتكون العلاقة هنا علاقة تفاعل كيميائي طبيعي سواء أردنا أم لم نُرد وشئنا أم أبينا . نضع المنفحة في اللبن بالحتم يصبح اللبن جبناً .
في هذه العملية البسيطة أكثر من علة لزم تواجدها حتى تتم عملية تجبن اللبن ، لزم أولا وجود المنفحة الصالحة المُنتجة لبكتيريا التخمر ، ولزم وجود مُريد مختار حي وفاعل للفعل يقوم بوضع المنفحة في اللبن ، وعلى هذا المُريد قبل ذلك تدفئة اللبن عند درجة الحرارة المناسبة ، ويلزمه خلط الخميرة باللبن لإحداث التجانس بينهما ، وهي كلها أفعال بشرية عن قصد وإرادة وغرض ، استخدمت مجموعة من العلل الطبيعية الكيميائية التي لا خيار فيها لأنها حتمية الحدوث متى توفرت الظروف الملائمة . لذلك يكون توفر اللبن وتوفر المنفحة لا يصنع جبنا دون الحي المُريد ... (وهو هنا الإنسان ) .
يبدو لي واضحاً أن الغزالي والفلاسفة القدامى قد خلطوا بين مصطلحين لكل منهما دلالته المختلفة عن دلالة الآخر ، خلطوا بين ( العلة ) وبين ( الفعل أو الصُنع أو العمل ) ، وبين ( المعمول أو المصنوع أو المفعول ) وبين ( المعلول ) ، ونتيجة الخلطين خلطوا معهما خلطاً ثالثاً بين أمرين ، لا يمكن أن يلتقيا ناهيك عن أن يختلطا ، وهُما : ( الإرادة ) و ( الحتمية ) !!!
ان الفعل مُتعلق بوجود إرادة لمُريد اختار هذا الفعل وفعله ، أو رفضه ولم يفعله ، فأنا أُقرر وأختار أن أزرع أو لا أزرع ، أن أمشي أو لا أمشي ، فالفعل والصنع والعمل يحتاج لكائن بيولوجي حي يملك حواساً وعقلا وإرادة ، أما العلة والمعلول فتربطهما علاقة حتمية جبرية لا فكاك منها ، فلكل صنعة صانع ... نعم ، لكن ذلك لا يطابق مدلول العلة والمعلول ، لأن الصنعة تتطلب إرادة ، أن أُريد أو لا أريد هي قرارات الكائن الحي تقوم على قياسات عقله ، كالإنسان له حواس وعقل وإرادة تختار ، لذلك تخلو كل كواكب المجموعة الشمسية وأقمارها من الإرادة والصنعة والفعل ، وبالتالي من الخير والشر لعدم وجود الكائن المُريد ، لكنها غير محرومة من العلة والمعلول ، النيزك يضرب القمر فيملأه فجوات ، والشمس تلظيه بحرارتها فتُحدث به الشقوق ، هي علاقة علية بين علة ومعلول ، والمعلول حتمي الحدوث متى ظهرت العلة ، لا يمكن للمياه أن ترفض أن تغلي وهي على النار ، أو يرفض المغنسيوم الاشتعال في الأوكسيجين ، بينما كائن حي كالأسد شبعان لا يريد صيداً ، جاع يصطاد ، والحيوانات القابلة للافتراس موجودة في الحالتين ، فله أن يختار أن يفترس أو لا يفترس ، وأن يحدد فريسة بعينها ، ومثل هذه الخيارات لا تقع إلا في عالم حسي فيه من يملك الحياة والحس بالحواس والإدراك بالعقل وحرية الاختيار بالإرادة ، أن يفعل أو لا يفعل .
وفوق ذلك فإن ( الفعل أو العمل أو الصنع ) كفعل يصدر من مشيئة عاقلة لمُريد ، يمكنه توظيف علل الطبيعة الحتمية لينتج معلولا ، فقبل ظهور الكائنات الحية لم يوجد صانع ولا مصنوع ولا فاعل ولا مفعول ولا عامل ولا معمول ، فالقمر ظل خاليا من أي فعل حتى نزل عليه الإنسان ليفعل فيه ، أما العلة فهي موجودة سواء وجد الكائن الحي أو لم يوجد ، فتضاريس القمر تُعلن ألوان وأشكال من العلل التي شكلت سطحه ولا زالت تؤثر فيه . وتضاريس القمر ليست نتيجة فعل مُريد بل نتيجة علل كونية حتمية التلازم ، لأنها غير مرتبطة بإرادة يمكن أن تُقدم أو تحجم ، والعقل البشري يقوم بتوظيف علل الوجود الحتمية ليوجد معلولات . ولهذا السبب تحديدا حدث المزج بين العلة والفعل ، نتيجة قدرة العقل على توظيف العلل الحتمية بالتجربة والخطأ ليعرف النتيجة الحتمية للعلة ، ثم مزجها بالإرادة لتنتج معلولات . فعندما يهز الفيل جذع الشجرة ليسقط الثمار ، يكون قد مزج فعله الإرادي بالعلة الحتمية وهي الجاذبية الأرضية التي أسقطت الثمار ، والطائر عندما يرفرف بجناحية بإرادته يستثمر قاعدة حتمية : تفريغ الهواء يؤدي للتخلص من الجاذبية ، وعندما يطفو دون رفرفة يستثمر قانونًا آخر هو الانزلاق على هواء الرفع الساخن الصاعد من الأرض ، ولو لم يوجد هواء ما طار لاستحالة الفعل ، هنا تكون هزة الفيل للشجرة ورفرفة جناحي الطير هي الفعل المريد المستثمر لعلل الطبيعة الحتمية ، وإلقاء خشبة في النار فعل إرادي يمكن فعله أو العدول عنه ، لكن إلقاءها يتحتم معه حدوث الاحتراق ، ويكون الفعل المُريد فاعلا وليس علة ، هو فاعل يستثمر علل الطبيعة الحتمية ، لأن علة الاحتراق هي اتحاد الأوكسجين بالخشب والنار ولا خيار للخشب في الاحتراق من عدمه ، فالعقل يوظف العلل عن إرادة واختيار فينشئ حضارات تقبل الزوال ، أما العلل الكونية ومعلولاتها فهي غير قابلة للزوال ، والوجود الكوني تنعدم فيه الصنعة والفعل ، لكن انعدام العلة والمعلول فيه فهو ما يعني توقف قوانين الفيزياء وانهيار الوجود.
اذن يجب تخطيئ الإمام الغزالي وفلاسفة زمنه لخلطهم الصانع بالعلة والمصنوع بالمعلول ، ومن المُعيب أن يظل هذا الخلط قائما دون أن يتعرض للإصلاح ، خاصة بعدما قطع الإنسان شوطًا عظيمًا من التحضر بعد اكتشاف منهج التفكير العلمي الذي يعود بالفضل لمؤسس المذهب التجريبي ( فرنسيس بيكون ) وبعده فتوح ( كوبرنيكوس ) ، وانتقلت البشرية في قرنين نقلة هائلة باكتشافات ما خطرت على قلب نبي ولا إله . لنؤكد على وجوب الفصل بين ما هو علة وبين ما هو فعل أو صنعة ، وأن العلة لا تملك خيار أن تفعل أو لا تفعل فهي لا تملك عقلا ولا إرادة تثنيها عن الفعل ، طالما هي موجودة هي تُعلل لمعلول بالجبر والحتم ، لذلك لا تعرف ما هو واجب ولا ما هو حلال أو حرام على أي ملة أو دين ، فهذا كله شأن يتعلق بكائن حي يشعر بحواسه ويفعل بعقله وإرادته ليس بينه وبين ما يصنع أو يعمل علاقة ضرورة وحتم ، والعلاقة هنا علاقة صانع بمصنوع وفاعل ومفعول ليس بينهما علاقة حتم ، خاضعة لإرادة واختيارات العقل البيولوجي ، فيمكن للنجار أن يصنع الكرسي أو لا يصنعه أو يصنع بدلا عنه سريرًا أو بابًا ، لكن كتل الحديد في فرن صهر المعادن ستنصهر حتمًا ، وخسوف القمر وكسوف الشمس حتميان عندما تترتب الكواكب بما يعطي هذه النتائج ، هي حتميات والحتمي يمكن توقعه وقياسه بدقة ، فعندما يتحول القمر عن الهلال إلى التربيع الأول إلى البدر إلى التبيع الثاني إلى المحاق ، يمر بمراحل معلولة حتميا لعلل هي الوضع الزمكاني للكواكب والشمس وليس لإرادة مريد . وعندما يجتمع قطيع الحمير الوحشية والأسد لا يشكلان سببًا حتميًا لفعل الافتراس ، فقد يكون الأسد غير راغب ، أو يحاول الافتراس ويفشل ويفلت الحمار بمهارته وقد لا يفلت ، نحن مع الإرادة الحرة أمام حدث غير مؤكد الوقوع لأنه فعل وصنعة ومهارة وإرادة ، والأسد يفهم ذلك ، والحمار يفهم ذلك ، لذلك يستخدم كل منهما كل مهاراته ، هذا للافتراس وذاك للنجاة .
النتيجة إذن أن امتلاك الإرادة لا يحول دون فقدها أو فشلها ، وأن الحيوانات شريكة للإنسان في امتلاك الإرادة ، لكنها أحيانا تتنازل عنها عن إرادة كما يحدث مع الحيوان في الأسر وتستبدل إرادتها بالسمع والطاعة ، فيصبح الحصان رهن إرادة السائس والوسيلة لجام وكرباج وطعام وماء دون بذل جهد ، فيتحول من كائن حر إلى عبد بالترغيب والترهيب كما في حيوانات السيرك ، وكما يمكن سلب الإرادة يمكن استردادها بالثورة أو الهرب أو العتق بإرادة السيد أو كمن يطلق طيراً أسيراً .
وهذه المعاني تؤدي لنتيجة هي أن جميع كواكب مجموعتنا الشمسية التي نعرفها جيداً هي بلا خطيئة لأنها بلا آدم وبلا أنبياء وبلا مسيح يُصلب عليها ، فهي لا تعرف سوى العلل والمعلولات الجبرية . وتخلو من الفعل والمفعول ، لذلك لا نجد لله بيوتا ومقدسات على كافة الكواكب ، لكنه موجود على الأرض وحدها حيث الصانع والمصنوع .
ويشترط لوجود الإرادة عدم القدرة على التنبؤ بها وما سوف يصدر عنها من أفعال ، ويمكن أن تأني بأفعال غير متوقعة ، وأن تتوافر لها شروط الاختيار ، فالنهر لا إرادة له في جريانه لأنه محكوم بمستوى الانحدار وكمية الماء وتدفقه وبالضفاف ولا سبيل أمامه غير ذلك . والإخضاع للإرادي يلزم أن تكون لدى الخاضع أولا إرادة يمكن سلبها منه لصالح غيره بإخضاعها لإرادة أخرى ، ويمكن للإرادة إيقاف فعلها الإرادي والتراجع عنه أو اختيار بديل له . والإرادة تبحث دوماً عن صالحها الخاص وتحاول الاستيلاء على إرادات الآخرين حيواناً أو إنساناً ، فيستولي الرجل على إرادة المرأة أو العكس ، ويستولي الإنسان على إرادة الحيوان ، ويستولي الاستعمار على إرادة الشعوب المحتلة ويستولي رجال الدين على إرادة المؤمنين وتسخيرهم وسوقهم إلى مجازر دموية بثمن دنيوي بحت وبخس للمصالح الخاصة .
لمزيد من الفهم لو تصورنا شخص يقف وسط ميدان تتقاطع عليه شوارع عديدة ، يتطلع للشوارع ليختار ما سيسلكه من بينها ، ولكونه صاحب إرادة لا نستطيع أن نحدد أي الشوارع سوف يختارها فكل الاحتمالات مفتوحة أمامه ، ولن نعرف متى سيتحرك ولا إلى أي الشوارع سيتجه ، لكن بالنسبة للشمس ولكونها غير ذات إرادة ، يمكنا أن نعرف بكل دقة متى ستأتي بأشعتها إلى الميدان ومتى سترحل ، ومتى سيتحرك شعاعها وإلى أي الشوارع سيتجه .
علينا أن نلاحظ أيضاً أنه حتى تنتج العلة معلولها يتحتم أن يجمعهما حيز واحد ، فمجرة درب التبانة تحوي ملايين الشموس والكواكب والأقمار ، لكن لا هذه ولا تلك تنير أو تضئ كوكب الأرض ، ولا تحدث لدينا نهاراً ولا ليلا لأنها خارج الحيز ، خارج مجموعتنا الشمسية ، وعليه فإن العلل الكونية التي جاءت الموجودات معلولة لها يجب ويلزم أن تكون داخل الكون والوجود ، ومن ثم لا يكون للوجود خارج ولا داخل ، لأنه حتى لو افترضنا بالخطأ وجود كون أو وجود خارج كوننا ووجودنا ، فإنه لن يؤثر في كوننا ولا في وجودنا لعدم وجود المعلول في حيز العلة . فإن كان الوجود موجوداً لعلة وجب أن تكون علته من داخله ، وأن تكون علة واحدة لوجود واحد ، وأن تظهر لجميع العقول بشكل واحد وبنفس الوضوح ، ويقع عليها الاتفاق لأنها علة حقيقية جاءت من مصدر حقيقي ، أما إن ظهرت كعلل متعددة تتعدد بتعدد العقول وتختلف من عقل لآخر فهو ما يعني أكثر من وجود ، ويكون لكل إله كعلة وجوده الخاص الذي أوجده ، ويكون لكل وجود علة تختلف عن علة الوجود المجاور ، ولو كانت علة الوجود خارجه لكانت معدومة فلا شيء خارج الوجود سوى العدم . ولما كان وجودنا واحداً لزم أن تكون له علة واحدةً ، ويكون ما يقدمونه لنا من علل عديدة حسب كل دين هي تصورات وليست عللا حقيقية . وبمعنى أوضح : طالما أن الوجود الذي أدركه هو نفس الوجود الذي يدركه الآخرون ، فهو ما يفيد أنه وجود واحد وإن تعددت العقول التي تدركه وكلها على اختلافها تقر أنه وجود واحد ، فكون الوجود واحداً هي قضية لا خلاف عليها كذلك إدراك هذه العقول المختلفة أن للوجود علة واحدة أوجدته ، لكنها لم تتفق على هذه العلة ، خلافاً على قضية وهمية لها علاقة بالمصالح أكثر مما لها علاقة بإيمان من عدمه .
والإصرار على وجود علة أولى يلزمه الاعتراف بوجود معلول أخير يكون وجوده حتمياً ، ووجود معلول أخير يعني التوقف والفناء ، فتوقف حركة الأرض حول الشمس يعني انتهاء قوة الطرد المركزي التي كانت تحفظها بعيداً عن الشمس ، فتجذبها الشمس وتبتلعها ، فالعلة في بقاء الأرض هو دورانها حول الشمس وتوقف الدوران كعلة يعني فناء المعلول ( الأرض ) وأيضاً فناء العلة وهي قوة الطرد المركزي ، فالعلة لا توجد من دون معلول . ووجود المعلول الأخير يعني التوقف عن استمرار الوجود ، ويعني التوقف ، والتوقف للوجود هو الفناء ، والوصول إلى معلول أخيرة يعني انعدام العلة نتيجة الوصول إلى معلول أخير لا معلول بعده ، أي انعدام العلة والمعلول معاً وانعدام الوجود . ولو افترضنا مجازاً إمكانية الوصول إلى معلول أخير مع وجود العلة الأولى باقياً ، فهو ما يعني إمكان وجود العلة دون أن يكون لها معلولا ، أي وجود وحيد بلا معلول ، وهو ما يعني أن العلاقة بين العلة والمعلول علاقة اختيار أي علاقة إرادة فالعلة الأولى وُجدت دون أن ينتج عنها معلول ، إذن هي لا تريد هذا المعلول ، وقواعد الإيمان الديني تستلزم الاعتقاد أن العلة الأولى مُريدة يمكنها أن توجد كعلة بدون أن تنتج معلول ، ويمكنها أن توجد ويكون لها معلولا عندما تقرر أن تخلق ، ويمكنها ألا تفعل حسبما تريد ، والله فعال لما يريد كعلة أولى لكنها ليست حتمية بل إرادية .
هكذا اعتقاد لا يعني إلا الفوضى وكوننا غاية في الانضباط ، فليس للأرض خيار أن تجذب الاجسام أو لا تجذبها ، فعلاقة العلة بالمعلول لا إرادة فيها ، وإذا كان في الوجود إرادة وخيار أن يكون أو لا يكون ، سيكون هذا عملا وفعلا وصناعة يكون أحد طرفيه كائن حي مريد إنسان أو حيوان أو حتى حشرة ، تكون علاقة الفعل بالمفعول مرتبطة ومتعلقة بالإرادة بعكس علاقة العلة بالمعلول ، فالأرض لا تمتلك أن تسرع في دورانها حول الشمس وليس لها أن تقلل من سرعتها ، ولا للماء اختيار ألا يتحول ثلجاً في درجة صفر ، ولا للمغنيسيوم ألا يشتعل مع الأوكسيجين . ولو تدخلت الإرادة هنا لسقط الوجود كله .
والفاعل والمفعول لدى الكائنات الحية محكوم عليه بالزوال فهو إلى نهاية ، ومن يقول بإرادة إلهية يُخرج الله من العلل الكونية الدائمة الوجود ، ويجعله كائناً فانياً مثل كائنات الأرض الحية ومن ثم لا تكون إرادته أزلية أبدية ، وهكذا صنع الإيمان آلهة على مثال الكائنات الحية وأعطوها حواساً وفكراً وإرادة ، فهو يعطي ويأخذ ويفرح ويغضب ، ولكن ذلك كله يعني أنه كائن حي بيولوجي ، يعني محكوم بالفناء وهو ما يناقض الأزلية والأبدية ، لذلك قاموا بإخراجه خارج الوجود ليمكنهم القول إنه كان وحيداً في الأزل ويبقى إلى الأبد ، لكن صفة الأزل والأبد مشروطة بدوران الأرض حول الشمس لتخلق الزمن ، ولو توقفت الأرض سيضيع الماضي والحاضر والمستقبل والأزل والأبد ويسقط يوم القيامة وقصة الخلق في ستة أيام ، فوجود الآلهة قائم على شروط لا بد من حدوثها ، وما يوجد على شرط يزول بزوال الشرط .
وللحسم مع أطروحة وجود علة أولى نفسر ما حدث بالمثال التالي : في حال وقف أحدهم أمام مرآة داخل غرفة ليس فيها إلا هو والمرآة ، فإن ظهور صورته في المرآة لم يضف شيئاً لمحتويات الغرفة ، فإن أدخلنا للغرفة مرآة أخرى ووضعناهما متقابلتين ورجلنا يقف بينهما ، فسيظهر في المرآتين ما لا نهاية له من الصور ، وكل هذه الصور لم تضف للغرفة شيئاً ولم تتبدل محتويات الغرفة بالنقص أو الزيادة ، لكن ما تبدل قد حدث في عقل الواقف بينهما ، نحن هنا بإزاء سلسلة لا نهاية لها من العلة والمعلول وكلها خيال ووهم وغير موجودة في الحقيقة ، ومهما بحثت عن العلة الأولى لكل هذا التعدد اللانهائي لن تجد سوى عيون الرجل وعقله ، ولو أظلمنا الغرفة وامتنع عنها الضوء ستتوقف حاسة البصر ولا ترسل للعقل الصور وهنا تختفي العلة والمعلول معاً ولم يزد ولم ينقص شئ من محتويات الغرفة ، وهو ما يفيد أن العلة والمعلول لا علاقة لها بالمادة الفيزيقية أو بالوجود ، وليست أكثر من توهمات عقلية ، فإن توقف العقل عن التخيل اختفت معادلة العلة والمعلول والموجد والموجود .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.