فيما تحدث المفكر العربي عبد الرحمن بن خلدون منذ مئات الأعوام عن ظاهرة "ولع المغلوب بتقليد الغالب" فان هذه "الظاهرة الخلدونية" تتجلى الآن على المستطيل الأخضر في مونديال 2014 بالبرازيل بقدر ماتشير لأسلوب في الحياة ونظرة للعالم. وعبد الرحمن بن محمد ابن خلدون هو مؤرخ عربي من اصل اندلسي ولد بتونس عام 1332 وشملت جولاته الثقافية مصر المحروسة التي اسلم الروح بها عام 1406 ووري هذا المثقف العربي الكبير الذي يوصف بأنه "مؤسس علم الاجتماع الحديث" الثرى على مقربة من "باب النصر" بقاهرة المعز. والأمر لم يعد غريبا فقد باتت المنافسات الكروية الاقليمية والعالمية مشحونة بالمعاني والدلالات المهمة على مستوى التحليل الثقافي بينما تتردد الآن تساؤلات جادة عما إذا كانت الانتصارات الكروية لفرق مثل هولنداوالمانيا وهزائم فرق مثل منتخب إسبانيا الشهير "بالماتادور" تعني ماهو أكثر من انتقال ميزان القوى في الكرة العالمية وان ماحدث على المستطيل الأخضر يعبر عن انتصار أسلوب حياة في المقام الأول بقدر مايوميء لثقافة الانتصار. وثقافة الغالبين حتى الآن في مونديال البرازيل كما تتجسد في منتخبات هولنداوالمانيا وشيلي وكوستاريكا تعبر بحق عن رغبة جارفة في النجاح وحماس للتفوق على المستطيل الأخضر يترجمه الضغط الهجومي والاستحواذ على الكرة والأداء الجماعي المتقن والتحركات السريعة بحساسية عالية. وبات منتخب كوستاريكا علامة على الكرة الأمريكية اللاتينية المنتصرة والمظفرة بعد أن هزم منتخب ايطاليا العريق بهدف نظيف في مباريات المجموعة الرابعة بنهائيات كأس العالم وصعوده الواثق لدور ال16 في مونديال 2014 بعد أن حصد ست نقاط متصدرا مجموعته ورافعا راية النصر في ثقافة الغالبين على المستطيل الأخضر. وفي المقابل تخيم اجواء اللوعة والصدمة والغضب على إسبانيا للخروج المبكر لفريقها الوطني من مونديال 2014 وهزيمة "الماتادور" امام هولندا وشيلي فيما وصف المدير الفني لمنتخب "الماتادور" يوم الخروج من المونديال "باليوم الحزين لإسبانيا كلها". ويتباري الخبراء والمحللون الكرويون في رصد أسباب هزيمة الماتادور بهدفين نظيفين امام شيلي وبخمسة أهداف مقابل هدف يتيم امام هولندا المندفعة بقوة الطواحين لصدارة المشهد الكروي العالمي في مونديال 2014 وتتوالى التحليلات حول اخطاء الأسبان من تمسك بجيل قديم إلى دفاع مهتريء وفشل في التكيف مع المتغيرات على المستطيل الأخضر واخفاق في الاستحواذ على الكرة وكان منتخب إسبانيا بقيادة ديل بوسكي البالغ من العمر 63 عاما قد فاز ببطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 2010 كما ظفر بكأس الأمم الأوربية في عام 2012ولم يتردد ايكر كاسياس قائد الفريق وحارس مرماه المخضرم في تقديم الاعتذار لشعب بلاده لهذا الخروج المبكر والمهين من أهم بطولة كروية في العالم معتبرا أن "شرح وتفسير ماحدث في مونديال 2014 أمر من الصعوبة بمكان حتى الآن". وتعرض كاسياس لسيل من انتقادات النقاد الرياضيين والمحللين الكرويين جراء أداء ه الهزيل امام منتخبي هولندا وشيلي فيما اقر لاعب خط الوسط الأسباني تشابي الونسو بأن مباراته امام فريق شيلي كانت الأسوأ على مدى مسيرته الكروية. ومع ذلك ورغم دموع "الماتادور الباكي" فقد بدأت محاولات لفهم ماحدث لهذا المنتخب الكروي في البرازيل وفي سياق هذا التقييم المبكر ثمة اتفاق عام على أن الوقت قد حان لصعود جيل جديد من الشباب لصفوف المنتخب الوطني الأسباني بعد أن ارتفع متوسط اعمار اللاعبين الأسبان الحاليين في هذا المونديال الصادم لكل عشاق الماتادور. ووفقا للخبراء الكرويين فان التغييرات ستشمل لاعبين بارزين ولهم تاريخهم في المنتخب الأسباني وفي مقدمتهم قائد ريال مدريد ايكر كاسياس الذي اهتزت شباكه بسبعة أهداف في مباراتين بهذا المونديال امام هولندا وشيلي. واذا كان ايكر كاسياس ليكون سببا رئيسا في هذا الخروج المهين للأسبان من مونديال 2014 فان التغييرات ستشمل أيضا نجم خط وسط نادي برشلونة تشابي هيرنانديز فضلا عن المهاجمين فيرناندو توريس وديفيد فيا. ويبدو أن قائمة المغلوبين في مونديال 2014 ستشمل الكرة الأفريقية بعد النتائج المحزنة للمنتخبات الأفريقية الخمسة المشاركة في العرس الكروي العالمي بالبرازيل وهي غانا ونيجيريا والكاميرون وكوت ديفوار والجزائر واقتراب تلك الفرق من الخروج المبكر من الدور الأول للبطولة. وثقافة الغالبين سواء على المستطيل الأخضر أو في كل جوانب الحياة هي ه ثقافة مضادة لثقافة اليأس التي تطرق لها الكاتب والباحث المرموق السيد ياسين عندما تحدث عن "تفاقم سياسات اليأس على مستوى النخب السياسية والجماهير على السواء" موضحا أن هذه السياسات "تسمم المناخ الاجتماعي في بلد ما حين يمر بأزمة بالغة الحدة". واذا كان المفكر العربي عبد الرحمن بن خلدون قد رصد بألمعيته وعقله المتوثب اللاقط ظاهرة ولع المغلوب بتقليد الغالب فالظاهرة التي تحدث عنها ابن خلدون في اواسط القرن الرابع عشر الميلادي مازالت حاضرة بقوة في اوجه الحياة المتعددة ومنها الرياضة بالقرن الواحد والعشرين. والمانيا التي تأهلت للدور قبل النهائي في آخر اربع بطولات لكأس العالم تبدو علامة على ثقافة الغالبين في عالم الساحرة المستديرة فيما يشعر كثير من عشاق اللعبة الشعبية الأولى في العالم بأن الوقت قد حان ليفوز الألمان بالبطولة الغالية التي راوغتهم طويلا. كما يعبر فان خال مدرب منتخب هولندا عن ثقافة الغالبين عندما يركز على أهمية عنصر التضحية من أجل فوز الفريق ككل ليتحول إلى "ظاهرة خلدونية" وموضع تقليد من المغلوبين والباحثين عن سر التفوق وتجاوز الهزائم على المستطيل الأخضر. ومع "دموع الماتادور" يتوارى أسلوبه الكروي المعروف باسم "تيكي تاكا"والذي لطالما امتع عشاق الساحرة المستديرة عندما كان منتخب إسبانيا يصول ويجول على المستطيل الأخضر محققا الانتصار تلو الانتصار على مدى ثماني سنوات. وكما يقول الناقد الرياضي المصري المرموق حسن المستكاوي فان الكرة الأسبانية ستعود لصدارة المشهد الكروي العالمي حين تطور من أسلوب تيكي تاكا وتجمع بين الاستحواذ والهجوم المبكر والسريع. ومايحدث الآن في هذا العرس الكروي العالمي ببلاد السامبا يعبر في أحد ابعاده عن هذا الولع للمغلوب بتقليد الغالب كما أنه يعيد للأذهان نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ البريطاني الكبير آرنولد توينبي. فجوهر كرة القدم أو "الساحرة المستديرة" هو الصراع والندية والضغط المستمر على الخصم وهو ماتجلى في المجابهات الكروية للغالبين والتي تثير أيضا سؤالا ثقافيا هاما عما إذا كانت كرة القدم مثلها مثل الأمم والحضارات لها دورات تاريخية من الصعود والاضمحلال؟!. من هنا سنجد أوربا الآن عينها على الكرة المانية والهولندية وعقلها يستنبط الدروس المناسبة لتحقيق الانتصارات كما يفعل الألمان والهولنديون ولعل ظاهرة ولع المغلوب بتقليد الغالب تتجلى الآن في حرص امم أوربية عديدة على تقليد لكرة الغالبين مثل منتخب المانيا واستعارة مواطن القوة فيها كما يفعل الايطاليون منذ فترة وقبل البطولة الحالية لكأس العالم. وخلافا للماضي القريب عندما كانت الكرة الإيطالية لاتأبه بالكرة الألمانية هاهي النظرة الكروية الإيطالية تتغير وهاهي تشيد وتهلل للكرة الألمانية باعتبارها النموذج الكروي للصعود للمجد بعد الفوزن الرائع للكرة الألمانية مجسدة في فريقي بايرن ميونخ وبروسيا دورتموند في مباريات دوري الأبطال الأوربي عام 2013 ثم فوز فريق بايرن ميونيخ في نهاية هذا العام ببطولة اندية العالم على الأرض العربية المغربية. نعم ثمة حاجة لقراءة اعمق في ثقافة النصر وثقافة الهزيمة ولو عبر المستطيل الأخضر وعالم الساحرة المستديرة..ليست القضية مجرد خروج من بطولة العالم أو مونديال الأندية ولا القصد أداء رقصة النائحات وترديد البكائيات على إيقاع هزيمة رياضية فالرياضة فوز وخسارة لكن الهزيمة شيء آخر ينبغي تجاوز أسبابها بتبني النموذج المضاد للهزيمة وهو بمعنى من المعاني جوهر أي لعبة رياضية ولعله "جوهر لعبة الحياة"!. الهزيمة ليست مكتوبة كقدر يحرق الأكباد وانما هناك ثقافة الهزيمة كما أن هناك ثقافة النصر.."الحقائق الحقيقية" لاتتغير ولاتتبدل حتى وان احتجب قرص الشمس احيانا في صقيع الشتاء..فمن يزرع بالجهد والعرق والابداع يحصد النصر.