فى تطور بالغ الخطورة يعيد إلى الواجهة أحد أقدم النزاعات فى جنوب شرق آسيا، اندلع فجر الخميس 24 يوليو 2025، اشتباك مسلح عنيف بين قوات الجيش التايلاندى والكمبودى على طول الحدود الشرقية بين البلدين، فى منطقة كاب تشوينج، القريبة من معبد «تا موان ثوم» المتنازع عليه، حيث سقط عدد من القتلى والجرحى فى صفوف المدنيين والعسكريين. وجرى استخدام الطائرات الحربية والأسلحة الثقيلة، فى تصعيد يُنذر بتحول النزاع الحدودى إلى مواجهة مفتوحة واسعة النطاق، تتداخل فيها العوامل القومية والعسكرية والجماعات المسلحة، وصولاً إلى تقاطعات خطيرة مع الإرهاب العابر للحدود. بحسب بيان رسمى صادر عن وزارة الدفاع التايلاندية، فقد شنّت القوات الكمبودية فى ساعة مبكرة من صباح الخميس هجومًا بالمدفعية الثقيلة استهدف مواقع تايلاندية عسكرية ومدنية فى إقليم سورين، بما فى ذلك قاعدة حدودية ومشفى مدنى، وهو ما أسفر عن مقتل مدنيين تايلانديين اثنين على الأقل، وإصابة آخرين بجروح. ورداً على هذا التصعيد، قامت طائرات مقاتلة من طراز إف-16 تابعة لسلاح الجو التايلاندى بشنّ ضربات جوية ضد أهداف عسكرية داخل الأراضى الكمبودية، فى أول استخدام رسمى للقوة الجوية فى النزاع منذ سنوات. وأكد الجيش التايلاندى أن الضربات كانت «دقيقة ومحددة»، واستهدفت منصات إطلاق مدفعية وقواعد خلفية استخدمت فى الهجمات. فى الجهة المقابلة، أدانت الحكومة الكمبودية الغارات الجوية بشدة، واعتبرتها «انتهاكاً صارخاً للسيادة وسلامة الأراضى الكمبودية»، وقالت وزارة الدفاع فى بنوم بنه إن مقاتلات تايلاندية ألقت قنابل على طريق مدنى فى مقاطعة أودار مينشى، وأدت إلى إصابات فى صفوف السكان، محملة بانكوك كامل المسئولية عن التصعيد. وأضافت أن الغارات تعكس «سلوكاً عدوانياً متهوراً»، وطالبت بتدخل دولى عاجل لوقف الاعتداءات. لكن خلف هذا التصعيد الظاهرى تقف أزمة أكثر عمقاً وتعقيداً، فعلى مدار أكثر من مئة عام، تتنازع تايلاندوكمبوديا على مناطق حدودية لم يتم ترسيمها بدقة منذ الحقبة الاستعمارية الفرنسية. ورغم المحاولات المتكررة للتوصل إلى حلول دبلوماسية أو قانونية، بما فى ذلك تدخل محكمة العدل الدولية فى بعض المراحل، فإن الطرفين لم يتمكنا من تجاوز التعقيدات التاريخية والجيواستراتيجية المحيطة بتلك المناطق. وقد شهدت الحدود مواجهات مسلحة متكررة فى السنوات الأخيرة، من أبرزها الاشتباكات التى وقعت فى عام 2011، وأسفرت حينها عن سقوط قتلى من الطرفين وتدمير بنى تحتية. لكن ما يميّز التصعيد الحالى هو الطابع المتغير للصراع، والذى لم يعد يقتصر على قوات الجيش النظامية وحدها، بل دخلت عليه عناصر مسلحة غير نظامية بعضها يتبع جماعات شبه عسكرية قومية، وأخرى تعمل فى إطار عصابات تهريب أو جماعات متشددة، مما يرفع من مستوى الخطر ويعقّد الحسابات الأمنية. وفقاً لمصادر استخباراتية تايلاندية تحدثت لوسائل إعلام محلية، فإن بعض الهجمات الأخيرة على القوات التايلاندية نُفذت عبر عمليات تسلل قامت بها جماعات مسلحة كمبودية غير تابعة رسمياً للجيش النظامى، من أبرزها ميليشيا تُعرف باسم «الخمير الوطنيون»، وهى تنظيم شبه عسكرى يضم مزيجاً من المقاتلين السابقين والمرتزقة، ويتمتع بدعم لوجستى من دوائر سياسية فى كمبوديا. كما رُصد نشاط مكثف لما تُعرف ب"كتيبة أنغكور الحمراء»، وهى جماعة منشقة عن القوات الكمبودية، تتبنى خطاباً قومياً متطرفاً يرفض أى تسوية سلمية مع تايلاند بشأن الحدود. الأخطر من ذلك أن هذه الجماعات، بحسب تقارير أمنية غير معلنة رسمياً، قد أقامت صلات مع تنظيمات إرهابية ناشطة فى منطقة ميكونغ الكبرى، وخاصة فى الشريط الحدودى مع ميانمار، حيث تنشط «جماعة أنصار التوحيد»، وهى خلية إسلامية متشددة تشتبه أجهزة أمنية فى ارتباطها ب"جماعة أبو سياف» فى الفلبين و«جماعة المجاهدين» فى إندونيسيا. وتشير المعلومات إلى وجود عمليات تهريب للسلاح والمخدرات والمال تمر عبر الحدود الوعرة بين كمبودياوتايلاند، تسهّلها الفوضى الأمنية وغياب الرقابة الرسمية فى المناطق المتنازع عليها. ويخشى مراقبون من أن يتحول هذا النزاع الحدودى إلى بؤرة جذب للجماعات الجهادية العابر للحدود، التى لطالما استغلت النزاعات الهامشية فى آسيا الجنوبيةوالشرقية لبناء قواعد انتشارها، كما حدث سابقاً فى جنوبىالفلبين وولايات أراكان وكاشين فى ميانمار. ويبدو أن بعض العمليات التخريبية فى الأسابيع الأخيرة تحمل بصمات تدريب متخصص وتكتيكات غير مألوفة لدى القوات الكمبودية، ما يُعزز من فرضية وجود عناصر خارجية ذات طابع إرهابى تُنسق أو تُحرّض على أعمال العنف. وقد جاءت الشرارة المباشرة للتصعيد الأخير عندما أصيب جندى تايلاندى بانفجار لغم أرضى على الحدود، أدى إلى بتر ساقه. واتهمت تايلاندكمبوديا بزرع ألغام جديدة فى المنطقة، وهو ما اعتبرته «عملًا عدائيًا غير مبرر»، خاصة أن معظم الألغام كانت قد أُزيلت بموجب اتفاقات ثنائية منذ مطلع العقد الماضى. وكان لهذا الحادث أثر عميق فى الداخل التايلاندى، إذ اعتبرته وسائل إعلام بانكوك «عملًا إرهابيًا بغطاء قومي»، وسط ضغوط شعبية على الحكومة للرد بقوة. وفى ظل هذه الأوضاع، شهدت الساحة السياسية تصعيداً دبلوماسياً خطيراً، إذ استدعت تايلاند سفيرها لدى كمبوديا، وطلبت من المبعوث الكمبودى مغادرة أراضيها خلال 48 ساعة. وهى خطوات تُغلق عملياً قنوات الحوار الرسمية، فى وقت تعانى فيه المنطقة من هشاشة دبلوماسية واضحة، وانقسام داخل رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بشأن كيفية التعامل مع النزاعات الثنائية بين أعضائها. على الجانب الاجتماعى، فإن السكان المحليين فى المناطق الحدودية باتوا يدفعون ثمناً باهظاً لهذه الأزمة المستمرة. فقد فرّ المئات من القرى التايلاندية والكمبودية المتاخمة لمنطقة القتال، خوفاً من القصف أو التوغل العسكرى، وسط نقص فى الغذاء والمياه والخدمات الأساسية. وقال أحد سكان قرية نائية قريبة من كاب تشوينج لوسائل الإعلام إن «الأهالى يعيشون فى رعب دائم، ولا يعرفون من أين يأتى الخطر: من الجو، أو من الأرض، أو من تلك الجماعات التى تظهر فجأة وتختفي». ويرى مراقبون أن تداخل أبعاد الصراع الحدودى بين تايلاندوكمبوديا مع نشاط الجماعات المسلحة والمتطرفة يرفع من خطورة الوضع بشكل غير مسبوق، وما لم يتم احتواء التصعيد سريعاً من خلال تدخل إقليمى فاعل، فإن المنطقة قد تشهد تحولات أمنية كبيرة، وربما تتحول إلى نقطة جذب جديدة للحركات الإرهابية، فى وقت يزداد فيه المشهد الجيوسياسى هشاشة على امتداد آسيا الجنوبيةوالشرقية. ويشير مراقبون إلى أن الحدود لم تعد فقط فاصلة بين دولتين، بل أصبحت فجوة مفتوحة تستغلها أطراف عديدة، بعضها يحارب باسم القومية، والبعض الآخر باسم الدين، لكن الجميع يصب الزيت على نار نزاع لم يبرد منذ قرن من الزمان.