في الأدب الكوري الحديث، تبرز الكاتبة "هان كانغ" كصوتٍ متفرّد، يكتب بلغة جديدة وبأسلوب مُبتكر. ذاع صيتها عالميًا بعد روايتها "النباتية"، التي حصدت جائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وتلتها أعمال أخرى مثل "الدرس الإنساني" و"الكتاب الأبيض"، وكلها تؤكد رؤيتها الجمالية المشبعة بحسٍّ وجوديّ دافق. وفي عام 2024، تُوّج هذا المسار الأدبي الفريد بأرفع وسام عالمي، وهو جائزة نوبل في الأدب. وجاء في حيثيات الجائزة أنها "تقديرًا لنثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية"، فكانت الجائزة تتويجًا لمسيرةٍ أدبية نادرة، وشهادةً بقدرة اللغة الهامسة على أن تُلامس أعماق الإنسانية. وكما هو معلوم، فهي أول كاتبة كورية جنوبية تنال جائزة نوبل، وأول امرأة آسيوية تفوز بها منذ سنوات طويلة. وقد كان يمكنني أن أتحدث عن روايتها الشهيرة "النباتية"، أو عن تأملاتها في "الدرس الإنساني"، لكن شيئًا في رواية "الكتاب الأبيض" استوقفني على نحو خاص، بعد أن انتهيت من قراءتها. لم أجدها رواية تسرد أحداثًا وتتحدث عن مواقف ومشاعر، لكنها عملٌ يشتبك مع الوجع بهدوء، ويتأمل الوجود من زوايا ما لم يحدث. اللون الوحيد المسيطر في هذا العمل هو الأبيض. لكنه بياض لا يُبشّر، بل يحتشد بالفقد، والتطهّر، والحنين إلى خلاصٍ غامض. عملٌ شخصيٌّ وعالميٌّ في آنٍ معًا؛ بسيطٌ وعميق، هامسٌ وصارخ، كأنه صلاة داخلية كتبتها روحٌ تقف على حافة الحياة. "الكتاب الأبيض" – الذي بلغ القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2018، وصدرت ترجمته العربية عن الأستاذ محمد نجيب – ليس رواية بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى تراتيل حزينة، مكتوبة بلونٍ أبيض، كلون البراءة، والغياب، والولادة التي لم تكتمل، والكتابة التي تحاول تضميد الزمن، لا وصفه. في مقدمته، تروي الكاتبة "هان كانغ" كيف قررت في أحد فصول الربيع أن تكتب عن "الأشياء البيضاء": القماط، ثوب وليد، ملح، جليد، قمر، ورقة بيضاء، كفن... لكنها لم تكن تكتب عن الأشياء بذاتها، بل عمّا تثيره فيها من فيضٍ شعوريّ قديم. لقد كتبت وكأنها تمسك ببلسمٍ أبيض، لتضعه فوق جرحٍ دفين لم يندمل. وسألت نفسها حينها: هل أريدُ حقًا أن أختبئ بين الكلمات؟ وهل يمكن لشاشٍ أبيض أن يُخفي هذا الألم؟ البياض عندها لم يكن تأمّلًا جماليًّا فحسب، بل استدعاءً لفقدٍ شخصيّ موغل في الطفولة؛ أختها الكبرى التي ماتت بعد ولادتها بساعات قليلة، وكانت هذه الرواية محاولة لمنح تلك الطفلة الغائبة حياةً رمزية على الورق، وردّ اعتبارٍ لها، ولو بلونٍ خافت. تتوقف الكاتبة عن مشروع كتاباتها، وتغادر إلى مدينة غريبة لم تطأها من قبل. تمشي فيها كمن يزرع نفسه من جديد في تربةٍ أخرى، وتواجه الوحدة والبرودة والصداع النصفيّ الذي يلازمها منذ مراهقتها. وتكتب بأنه في ليلة شتائية، يصبح الزمن ملموسًا كالإبر، تخترق قلبها لحظةً بلحظة، وتجبرها على التوقف... لا لشيء، إلا لتحمّل الألم. دعني أنقل لك، عزيزي القارئ، فقرةً من مقدمة "الكتاب الأبيض" لتشارك مشاعرها المتدفقة والمخبوءة في ثنايا خلاياها: "كلُ لحظةٍ هي قفزةٌ إلى الأمامِ من فوقِ جرفٍ غير مرئيّ، حيث تتجدّدُ حوافُ الزمنِ باستمرارٍ. نرفعُ أقدامَنا من على الأرضِ الصلبةِ للحياةِ التي عشناها حتى الآن، ونأخذُ الخطوةَ التالية المحفوفة بالمخاطرِ نحو المجهول، نحو الهواءِ الفارغِ. لا نفعلُ ذلك كي نثبتَ امتلاكَنا لشجاعةٍ من نوعٍ خاصٍّ، بل لأنه لا يوجد أمامنا طريقٌ آخرُ... الآن، في هذه اللحظة، أشعرُ بإثارةٍ مُدَوِخَةٍ تسري في داخلي، بينما أخطو بتهوّرٍ نحو زمنٍ لم أعشه بعد، نحو كتابٍ لم أكتبْه بعد." لا أريد أن أستمر في كتابة الفقرة حتى لا أدخلك عنوة إلى أحزانها... الأسبوع القادم، بإذن الله، أستكمل القراءة في هذا العمل الفريد، للكاتبة التي لا تكتب فحسب، بل تُصغي للألم، وتدوّنه.