مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى غرف الأخبار، لم يعد دور الصحفي كما عرفناه لعقود. فالمسألة لم تعد تتعلق بكيفية الحصول على المعلومة أو إيصالها فحسب، بل بتحديد مصدرها الحقيقي، وضمان نزاهتها، والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُصنَّع بخوارزميات. إذ باتت الصحافة اليوم في قلب معادلة جديدة تعيد تشكيل علاقتها مع الجمهور، وتضعها أمام اختبارات غير مسبوقة في المصداقية. تشير بيانات صادرة عن معهد الثقة الصحفية لعام 2024 إلى أن أكثر من 80% من الصحفيين يستخدمون أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي في أعمالهم اليومية. ومع ذلك، تفتقر ثماني من كل عشر مؤسسات صحفية إلى سياسات تنظيمية واضحة لضبط هذه الاستخدامات. المفارقة هنا ليست تقنية بقدر ما هي أخلاقية؛ إذ أن الفجوة بين التمكين الأداتي والإطار الأخلاقي آخذة في الاتساع، ما يضع المهنة أمام تحديات تتعلق بالمحاسبة، والرقابة الذاتية، والشفافية. وكالة أسوشيتد برس الأمريكية كانت من أولى المؤسسات التي تحركت عمليًا باتجاه تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، حيث طوّرت خمس أدوات ذكية تساعد الصحفيين في مهام مثل التفريغ النصي، وتحليل بيانات السلامة العامة، وتطوير محتوى محلي ذي صلة. هدف هذه الأدوات ليس إحلال الآلة محل الصحفي، بل تمكينه من التركيز على المهام الأكثر قيمة تحليلية وسردية. ويظل الرهان الأكبر هنا على قدرة الصحفي على فهم هذه الأدوات، لا فقط استخدامها. حزمة أدوات داخلية صحيفة نيويورك تايمز قدمت نموذجًا مختلفًا في فبراير 2025، حين أعلنت اعتماد منظومة "Echo"، وهي حزمة أدوات داخلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين تحرير النصوص، وتلخيص المحتوى، وصياغة منشورات مخصصة لوسائل التواصل الاجتماعي. اللافت في تجربة التايمز ليس التقنية في حد ذاتها، بل الإطار التحريري الذي أُرفق بها: إرشادات صارمة تُلزم بالرقابة البشرية، وتُحدد بدقة متى وكيف ولماذا يمكن استخدام كل أداة. لكن المشهد لا يخلو من مناطق رمادية تتطلب التوقف عندها. فقد وثّقت منظمة NewsGuard، في تقرير خاص، أكثر من 1,270 موقعًا إخباريًا تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي دون إشراف تحريري حقيقي، تنشر بلغات متعددة، وتظهر بمظهر المؤسسات الإعلامية التقليدية. هذه المنصات لا تكتفي بإعادة تدوير المحتوى أو نشر معلومات عامة، بل تذهب أحيانًا إلى حد اختلاق أحداث أو تصريحات مزيفة تخص شخصيات سياسية وفنية، ويكمن الخطر الأكبر في أن نماذج الإعلان الرقمي تدعم هذه المنصات عن غير قصد، ما يمنحها شرعية زائفة. في موازاة ذلك، أصبحت تقنية التزييف العميق (Deepfake) التحدي الأخطر أمام الإعلام. ففي حين بدت المقاطع المزيفة في بداية النزاع الروسي-الأوكراني بدائية نسبياً، أظهرت تسجيلات ظهرت لاحقًا تطورًا مذهلاً في الدقة، تطابقًا شبه كاملًا بين الصوت والصورة، وحركة شفاه متسقة مع الكلام. قضية مدرسة "بيكسفيل" في بالتيمور كانت نقطة تحول؛ فقد انتشر تسجيل صوتي يُزعم أنه لمدير المدرسة يتضمن خطابًا عنصريًا، قبل أن يتبين لاحقًا أنه ملف صوتي مزيف تمامًا، وُلد بخوارزميات توليد الصوت بناء على بيانات شخصية، ونُشر من قبل موظف ناقم. هشاشة منظومة التحقق هذه الحادثة كشفت هشاشة منظومة التحقق داخل المؤسسات الإعلامية المحلية، كما سلطت الضوء على غياب الأدوات الفعالة في مواجهة هذه الأنواع من التهديدات. فالأدوات المتوفرة اليوم مثل Deepware Scanner وOptic وDeepFake-o-Meter، رغم انتشارها، تُظهر أداء جيدًا فقط في بيئات اختبار محدودة، وتفشل في اكتشاف محتوى مولّد بتقنيات جديدة لم تُدرّب عليها. والأخطر من ذلك، أن بعض الصحفيين، بحسب دراسة حديثة من جامعة ميسيسيبي، أصبحوا يفرطون في الثقة بنتائج هذه الأدوات حين تتفق مع توقعاتهم المسبقة، ما يُضعف قدرتهم على التحقق النقدي، ويزيد من خطر تمرير معلومات مضللة إلى الجمهور. على مستوى التأثير العام، رُصدت في فرنسا حملة منظمة وظّفت الذكاء الاصطناعي لإنتاج فضائح مزيفة استهدفت شخصيات سياسية، وصلت إلى أكثر من 55 مليون مشاهدة على الشبكات الاجتماعية. وفي النزاع بين إسرائيل وحماس، انتشرت صور مزيفة بشكل واسع، لم يُصنف منها سوى 32% كمحتوى تم التحقق منه، ما أضعف القدرة على بناء رأي عام مبني على حقائق. خلق أدوات مضادة رغم هذا المشهد القاتم، هناك محاولات جادة لخلق أدوات مضادة. جامعة نورث وسترن الأمريكية أطلقت في منتصف 2024 نظام GODDS، وهو أول منصة مفتوحة للصحفيين لرصد التزييف العميق في المواد البصرية والصوتية. وفي مبادرة تربوية واعدة، قدّم معهد ماساتشوستس للتقنية دورة رقمية لتدريب الأفراد على التفكير النقدي والتعامل مع المحتوى المشبوه، في خطوة تستهدف تعزيز المناعة المعلوماتية من القاعدة. كل هذا يعيدنا إلى الأسئلة الجوهرية: من يتحمل المسؤولية في حال أخطأ الذكاء الاصطناعي؟ ما الحد المقبول لاستخدامه في إنتاج الأخبار؟ وكيف يمكن بناء منظومة أخلاقية قادرة على ضبط هذه التحولات؟ الإجابة لن تكون تقنية فقط، بل تتطلب حوكمة جديدة، ومساءلة، وشراكة بين غرف التحرير، وصنّاع التقنية، والمجتمع. ختاماً، الصحافة ليست معنية فقط بركوب موجة الذكاء الاصطناعي، بل بتوجيهها نحو الحقيقة، ومساءلة الخوارزميات بنفس القدر الذي كانت فيه تراقب البشر. ذلك هو التحدي الحقيقي. *كاتب صحفى الكاتب الصحفي شحاته السيد