فى عصر يشهد طفرة غير مسبوقة فى تقنيات الذكاء الاصطناعي، لم تعد مهنة الصحافة بمنأى عن هذا التحول الرقمى العميق، بعد أن غير الذكاء الاصطناعى معادلات الإنتاج والتفكير فى قطاعات مختلفة، وصلت تأثيراته إلى غرف الأخبار، ففرض أدوات جديدة، وسلوكيات مهنية مغايرة، وأعاد تشكيل العلاقة بين الصحفي، والمعلومة، والقارئ. وفى السياق المصري، بدأت المؤسسات الصحفية – سواء الرسمية أو الخاصة – تدرك أن استيعاب أدوات الذكاء الاصطناعى لم يعد ترفا تقنيا، بل ضرورة مهنية تفرضها طبيعة العصر وسرعة التغير فى أنماط استهلاك المحتوى الإخباري، ومن هنا، تسعى بعض المؤسسات إلى إدماج هذه التقنيات فى منظومتها، إلا أن هذا التوجه يواجه تحديات حقيقية، تتراوح بين ما هو بنيوي، ومهني، وأخلاقي. الذكاء الاصطناعي: من أدوات دعم إلى محرك رئيسي أحدثت أدوات الذكاء الاصطناعى – مثل الخوارزميات التحليلية – نقلة نوعية فى عملية جمع الأخبار، وتحليل البيانات، وإنتاج المحتوى، فبلمح البصر، يمكن لخوارزمية تحليلية أن تمشط آلاف الوثائق لاستخلاص اتجاهات الرأى العام، أو ترصد تغطية الصحف المنافسة لقضية معينة، أو تحلل التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى لقياس نبض الجمهور. كما بات بإمكان أدوات التوليد اللغوى كتابة مسودات الأخبار، أو ملخصات التقارير، أو حتى ترجمة المحتوى بعدة لغات، وعلى الجانب الآخر، توفر تقنيات التخصيص إمكانية تقديم محتوى مصمم خصيصا حسب اهتمامات كل قارئ، وهو ما يعرف ب"الصحافة التنبؤية" أو "الإعلام القائم على البيانات". الواقع المصري: محاولات خجولة.. ومبادرات متفرقة رغم الإمكانات الكبيرة التى يقدمها الذكاء الاصطناعي، لا تزال وتيرة اعتماده فى المؤسسات الصحفية المصرية متواضعة، فالمشهد يضم محاولات فردية ومبادرات محدودة، لا ترتقى إلى مشروع مؤسسى متكامل. قد تستخدم بعض المؤسسات أدوات لتحليل التفاعلات على مواقعها، أو أنظمة تنبيه بالأخبار العاجلة، أو خوارزميات توصية للمحتوى، لكنها غالبا تفتقد إلى رؤية شاملة توظف الذكاء الاصطناعى بشكل استراتيجى يخدم جودة المحتوى وتوسيع الجمهور. أسباب ذلك متعددة، أبرزها ضعف البنية التحتية الرقمية، وغياب الكفاءات التقنية المدربة، وقلق بعض الصحفيين من فقدان وظائفهم نتيجة الأتمتة، فضلا عن مخاوف أخلاقية تتعلق بالمصداقية والشفافية. التحديات: بين التقنية والمهنة أحد أبرز التحديات هو افتقار معظم المؤسسات الصحفية إلى فرق تقنية متخصصة قادرة على تطوير أو توطين حلول الذكاء الاصطناعى بما يتلاءم مع السياق المحلين كما تواجه المؤسسات تحديا ماليا يتمثل فى ضعف الميزانيات المخصصة للتطوير التقنى والتدريب. على المستوى المهني، تبرز المخاوف من أن يؤدى الاعتماد المفرط على أدوات الذكاء الاصطناعى إلى تآكل مهارات الصحفى التقليدية، مثل التحقيق، والتحقق من المعلومات، وصياغة القصص الصحفية بأسلوب إنسانى يلامس الواقع، إذ يمكن أن يؤدى الإفراط فى استخدام الأدوات الآلية إلى إنتاج محتوى مكرر أو سطحي، يفتقد إلى العمق والتحليل، خاصة إذا لم يدعم بعمل صحفى ميدانى وبحث استقصائى حقيقي. أما على الصعيد الأخلاقي، فتبرز إشكاليات تتعلق بالتحقق من المعلومات المنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وتحديد المسؤولية فى حال نشر أخبار مضللة أو معلومات خاطئة، كما أن استخدام أدوات تحليل سلوك المستخدمين قد يثير مخاوف بشأن الخصوصية وحرية التعبير، خاصة فى بيئة إعلامية تعانى بالفعل من ضغوط رقابية. الطريق إلى التحول الرقمي: ما المطلوب؟ لتجاوز هذه التحديات، لا بد من تبنى رؤية واضحة وشاملة تعيد تعريف دور الصحافة فى العصر الرقمي، وتضع الذكاء الاصطناعى فى موقع "المساعد الذكي" لا "البديل الآلي"، ويتطلب ذلك: تأهيل الكوادر الصحفية من خلال برامج تدريب متخصصة تدمج بين مهارات الصحافة التقليدية وفهم آليات الذكاء الاصطناعي. تطوير بنية تحتية رقمية قوية تتيح للمؤسسات استخدام أدوات تحليل البيانات، وأتمتة بعض المهام الروتينية دون المساس بجوهر العمل الصحفي. إنشاء أطر تنظيمية وأخلاقية واضحة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعى فى غرف الأخبار، وتحدد معايير الشفافية والمساءلة. تشجيع التعاون بين المؤسسات الإعلامية والجامعات ومراكز البحث لتطوير حلول تقنية محلية تتماشى مع احتياجات السوق المصري. فى النهاية، لا يمكن تجاهل أن الذكاء الاصطناعى يمثل فرصة ذهبية لتطوير الأداء الصحفى وتحسين كفاءة العمل داخل المؤسسات الإعلامية. لكن هذه الفرصة لن تؤتى ثمارها إلا إذا جرى التعامل معها بعقلية منفتحة، توازن بين الاستفادة من التكنولوجيا، والحفاظ على القيم الأساسية لمهنة الصحافة: المصداقية، والموضوعية، والخدمة العامة. ففى وقت تتغير فيه أدوات السرد ومعايير التفاعل مع الجمهور، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للصحفى المصرى أن يستخدم الذكاء الاصطناعى ليكون أكثر تأثيرا، لا مجرد مكرر للآلة؟.