المستفيد الحقيقى فى ثورة التحول الرقمى هو من يملك أدوات الوصول ويجيد لغة التكنولوجيا.. ومن يُترك خلف الشاشة بلا اتصال فعّال يظل خارج اللعبة منذ البداية خلال حديثى مع أحد طلاب المرحلة الثانوية، سألته عن مصدر إلهامه الأساسى فى الدراسة، متوقعة أن يذكر أحد المعلمين أو الكتب الدراسية. لكنه لم يشر إلى معلم أو مرجع ورقي، بل تحدث مباشرة عن المزعوم " شات جى بى تي." دفعنى ذلك للدخول معه فى نقاش أعمق لاكتشاف طريقة تفكيره، لأجد أن هذا الجيل لا ينتظر "الشرح" من أحد، بل بات يصنع طريقه فى التعلم بنفسه. فهل ما زلنا نتحدث عن التعليم كما نعرفه؟ أم أن الذكاء الاصطناعى يعيد تعريف العملية التعليمية من جذورها؟ مناهج ثابتة فى عالم متغير لسنوات طويلة، ظلت المدارس تعمل بطريقة أحادية الطرح: منهج موحد، معلم يشرح، وطلاب يتلقّون بصمت ويسلّمون تسليمًا تامًا للمحتوى، فى علاقة عمودية أقرب إلى الإملاء منها إلى التفاعل، وكأن العالم لا يتغير. لكن دخول الذكاء الاصطناعى إلى المشهد التعليمى قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب. فالطالب اليوم بات يستخدم أدوات تفاعلية للحصول على شروحات فورية، وتصحيحات آنية، وأحيانًا حتى أجوبة مباشرة، بل ونماذج للتفكير المنطقى والتحليلي. رغم سيل الاتهامات الموجهة لهذه الأدوات بأنها "تقتل الإبداع"، إلا أن التفاعل الحقيقى معها يكشف رواية أخرى.. الاستخدام الواعى للذكاء الاصطناعى يُظهر أنه ليس مجرد أداة تعليمية مساعدة، بل أصبح شريكًا فاعلًا فى التفكير، وبناء المعرفة واتخاذ القرار للطالب والمعلم. وفقًا لتقرير McKinsey لعام 2023، نحو 65٪ من المعلمين استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعى داخل الفصل الدراسى مرة واحدة على الأقل. نحن الآن أمام تحوّل جوهرى لا يطال أدوات التعليم فحسب، بل بنية التعليم الفلسفية ذاتها: من التلقين إلى التفاعل، ومن التعليم الموجّه إلى التفكير المشترك. ويبقى السؤال الأخطر: من يقود العملية التعليمية الآن؟ الذكاء الاصطناعي.. والإرادة الفردية من أبرز التحولات المثيرة للجدل أن الذكاء الاصطناعى لم يعد يكتفى بدور المساعد أو الشريك، بل بات أيضًا عنصرًا حاكمًا ومُقوّمًا لأداء الطالب. فالمنصات التعليمية الذكية لا تقدم المحتوى فقط، بل تقوم بتحليل تفاعلات الطالب وتصنيفه، وتقترح عليه مسارات تعليمية "مخصصة"، وتحدد ما ينبغى أن يتعلمه، استنادًا إلى تقييمات لحظية وخوارزميات مبرمجة مسبقًا، Squirrel AI منصة الصينية؛ ساعدت فى تقليص الفجوة بين الطلاب المتفوقين والضعفاء بنسبة 47٪ فى عام واحد. وهنا تبرز أسئلة جوهرية: أين موقع الإرادة الفردية فى هذه المعادلة؟.. ومن يملك سلطة توجيه عقل المتعلم: الإنسان أم الخوارزمية؟.. وهل يمكن الوثوق فى أنظمة ذكية تم تدريبها على بيانات مجهولة المصدر أو منحازة، لتقرر مستقبل طفل لم تتشكل ملامح وعيه بعد؟ الذكاء الاصطناعي.. وجامعات بلا مكتبات فى ميدان البحث العلمي، لم يعد الذكاء الاصطناعى مجرد أداة مساعدة، بل شريكًا لا يمكن تجاوزه.. لم تعد المكتبات الورقية ولا قواعد البيانات التقليدية هى المحطة الأولى للباحثين، فالأدوات الحديثة قادرة على تلخيص مئات الدراسات فى دقائق، واقتراح فرضيات بحثية، بل وكتابة مسودات أولية للأوراق العلمية. أكدت دراسة من Nature عام 2023 أن 68٪ من الباحثين الأكاديميين استخدموا أدوات ذكاء اصطناعى فى تحضير أبحاثهم. ورغم أن هذه التقنيات تُسرّع خطوات إنجاز الأبحاث، إلا أنها تطرح سؤالًا لا يمكن تجاهله. هل لا يزال البحث العلمى يحتفظ بجوهره؟.. أين الفضول، والتفكير النقدي، والصبر الطويل، واللمسة الإبداعية التى كانت دومًا جوهر العمل الأكاديمي؟ الخطر الحقيقى أن يتحول البحث إلى تجميع بيانات منسّقة، تقودها خوارزميات باردة، على حساب الفكر الإنسانى الحي. من يربح السباق.. ومن يُترك خلفه؟ وأخيرًا، إن كل حديث عن الذكاء الاصطناعى إما خوف، أو اندهاش لدرجة الانغماس فيه، أو تردد ما بين منفعة او مضرة؟ ومن خلال عملى على العديد من التطبيقات والعديد من الأدوات منذ أكثر من 5 سنوات، وجدت أن مبدأ تبادل المهارات الناعمة مهم وأساسى ما بين الذكاء الاصطناعى والإنسان، وإن حدث خلل فى هذا المبدأ حدث خلل فى الاستخدام الأمثل للذكاء الاصطناعى وإن نظرنا لها من منظور آخر وهو الاستثمار، كما تستثمر فى تعلم أدوات الذكاء الاصطناعى لتوفير الوقت والجهد لابد أيضا أن تستثمر وقتًا آخر لتعليم تلك الأدوات ما تفكر به وما تنوى عمله وما تريد إنتاجه وهو ما نجده فى أدوات الذكاء الاصطناعى التوليدي، أى إنك تضع سيطرتك الكاملة على هذه الأدوات لتوظفها لخدمتك وبرؤيتك. هنا دائما أردد جملة شهيرة للدكتور محمد عبد الظاهر، الرئيس التنفيذى لمؤسسة صحافة الذكاء الاصطناعى والتى اختصرها فى قوله "Think Like a Human and Act like a GPT". فهذا هو أساس التعليم المتبادل بين الآلات والإنسان وما أؤكد عليه أن التعامل الصحيح والصحى مع الذكاء الاصطناعى يعزز مهارات العقل البشرى ويزيد من تفرد وتميز شخص عن شخص آخر، فهناك العديد من المؤسسات التعليمية على مستوى العالم ينفقون مليارات الدولارات سنويًا فى دمج أدوات وحلول الذكاء الاصطناعى فى العملية التعليمية ولكن لا يمكن أن تجنى تلك الاستثمارات ثمارها إلا بتنمية العقل البشرى بالدرجة الأولى فى تعليمه وتمكينه بالاستخدام الأمثل وهو ما نشير إليه بتبادل المهارات الناعمة بين العقل البشرى والآله فهى شراكة لا بديل عنها بينهما.. لكن التعامل الأعمى، أو مجرد الانقياد وراء تلك الأدوات وفقًا لشروطها وأحكامها يصنع فجوة كبيرة فى التعليم على مختلف الأصعدة. ففى سباق التحول الرقمي، لا يتوزع الربح بالتساوي. المستفيد الحقيقى هو من يملك أدوات الوصول، ويجيد لغة التكنولوجيا، ويحظى بفرص تدريب مناسبة.أما من يُترك خلف الشاشة بلا اتصال فعّال، أو يُقيّد بأساليب تقليدية تعتمد على الحفظ دون فهم، فهو خارج اللعبة منذ البداية. بحسب اليونسكو، 463 مليون طالب حول العالم حُرموا من التعليم خلال جائحة كوفيد بسبب ضعف الاتصال الرقمي، ما يثير مخاوف من تكرار المشهد فى عصر الذكاء الاصطناعي.. وهنا تكمن المفارقة إذا لم يُحسن استخدام الذكاء الاصطناعى وتوظيفه بعدالة، فقد يتحوّل من فرصة لتكافؤ الفرص إلى وسيلة جديدة لتعميق الفجوة التعليمية بين من يملك القدرة على التعلم ومن لا يملك حتى حق المحاولة، فالذكاء الاصطناعى ليس خطرًا... لكنه أيضًا ليس بريئًا.