منذ لحظة الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين فى مصر فى يوليو 2013، بدأت الدولة المصرية مرحلة جديدة من المواجهة مع التنظيم، تجاوزت المعالجة الأمنية الداخلية إلى بناء استراتيجية شاملة ذات أذرع متعددة. هذه المواجهة لم تكن فقط استجابة لحالة الفوضى التى خلفها حكم الجماعة، بل كانت إدراكًا مبكرًا لطبيعة المشروع الإخوانى العابر للحدود، القائم على اختراق مؤسسات الدولة وبناء بنية أيديولوجية موازية لها. ومن هنا، أدركت القاهرة أن المعركة مع الجماعة لا يمكن أن تُحسم فقط داخل الحدود الوطنية، بل تتطلب امتدادًا دوليًا يفكك حضورها الرمزى والوظيفى فى الخارج. وقد وجّهت مصر جهودها إلى المسارات الدبلوماسية والأمنية والإعلامية لإعادة تعريف جماعة الإخوان أمام العالم، لا باعتبارها "حركة إصلاحية" أو "جماعة دعوية"، كما ظل يُروَّج فى الغرب، بل بوصفها بنية تنظيمية وأيديولوجية ذات طموح سلطوي، تغذى الفكر الانعزالى والتطرف وتعمل على تقويض أسس الدولة المدنية. هذا الجهد تركز بدرجة كبيرة على أوروبا، التى مثّلت لعقود بيئة آمنة نسبيًا للجماعة، من خلال تواجد قياداتها ومؤسساتها فى لندنوباريسوبرلين وغيرها، مستفيدة من قوانين الحريات الدينية والتعددية الثقافية. فى هذا السياق، كثّفت القاهرة اتصالاتها مع العواصم الأوروبية، وقدّمت أدلة ومعطيات حول نشاط الجماعة فى الخارج، سواء عبر الجمعيات الخيرية، أو المنصات التعليمية، أو شبكات التمويل العابرة للحدود. وتم تسليط الضوء على الروابط بين جماعة الإخوان والجماعات المتطرفة، فضلًا عن خطاب الكراهية والانفصال الثقافى الذى تنتجه مؤسسات محسوبة على التنظيم فى أوروبا. هذا النشاط، الذى اتسم بالنَفَس الطويل، بدأ يُحدث أثرًا تدريجيًا على مواقف بعض الحكومات، التى بدأت تنظر للجماعة لا كحليف محتمل ضد الإرهاب، بل كجزء من بيئته الحاضنة. وكانت فرنسا فى مقدمة الدول التى تجاوبت مع هذه الرؤية، خاصة مع تصاعد العمليات الإرهابية على أراضيها وارتفاع المخاوف من تنامى المجتمعات الموازية المتأثرة بخطاب الإسلام السياسي. ومع تبنى باريس لقانون مكافحة "الانفصالية الإسلاموية"، ظهرت ملامح واضحة لتأثير الاستراتيجية المصرية فى إعادة تشكيل الوعى الأوروبى بالجماعة. وبهذا، تحولت مصر من دولة تواجه خطرًا داخليًا، إلى فاعل دولى يشارك فى رسم معادلات الأمن الفكرى فى القارة العجوز. من الاعتدال إلى الراديكالية المقنّعة لأكثر من عقدين، شكّلت جماعة الإخوان المسلمين فى نظر عدد من العواصم الأوروبية خيارًا "أقل تطرفًا" ضمن خارطة الإسلام السياسي، وجرى التعامل معها بوصفها شريكًا محتملًا يمكن احتواؤه وتوظيفه فى مواجهة الحركات الجهادية العنيفة مثل القاعدة وداعش. وقد ساعدت الجماعة على ترسيخ هذه الصورة من خلال خطاب مزدوج، قدمت فيه نفسها كحركة إصلاحية تؤمن بالديمقراطية والعمل المدني، خاصة عبر منابرها فى أوروبا التى ركزت على مفردات حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. هذا التصور ساهم فى توفير ملاذات آمنة للجماعة داخل الدول الأوروبية، وفتح أمامها المجال لتأسيس شبكات واسعة من الجمعيات والمراكز والمؤسسات التعليمية والدعوية. لكن هذه الصورة بدأت تهتز تدريجيًا، خصوصًا بعد التحولات الجذرية التى شهدتها مصر فى أعقاب 2013. فقد كثفت القاهرة من تحذيراتها الموجهة إلى العواصمالغربية، مقدمة ما اعتبرته أدلة دامغة على الروابط الفكرية والتنظيمية بين جماعة الإخوان والجماعات الإرهابية، سواء من حيث الأيديولوجيا التى تغذى مفاهيم مثل "الحاكمية" و"الجاهلية"، أو من حيث البنية التنظيمية التى تتيح تمرير الدعم والتمويل وتجنيد الأفراد فى دوائر متداخلة. هذه التحذيرات جاءت مدعومة بخبرات أمنية عميقة للدولة المصرية فى تفكيك خلايا إخوانية مسلحة، أو تتستر بالعمل الدعوى والاجتماعي. وقد عملت القاهرة على تصدير سردية بديلة لتلك التى كانت تروّج لها الجماعة فى الغرب. فى هذه السردية، لم يكن "الاعتدال" الإخوانى سوى قناع سياسى يهدف إلى تمكين التنظيم من اختراق مؤسسات الدولة ثم تقويضها من الداخل، تحت غطاء الشرعية الانتخابية أو الحقوق المدنية. فالجماعة، بحسب هذا التصور، تتبنى مشروعًا شموليًا لا يعترف بقيم الدولة الوطنية الحديثة، بل يسعى إلى إقامة نظام أممى عابر للحدود، تحكمه مرجعيات دينية فوق وطنية، ويُدار من خلال قيادة تنظيمية ذات طابع سري. هذا التفكيك المصرى لخطاب الجماعة كان له وقع ملموس لدى بعض صناع القرار الأوروبيين، لا سيما مع تنامى الشكوك الداخلية فى أوروبا حول دور بعض الجمعيات الإسلامية فى إنتاج خطاب موازٍ لقيم الدولة، وتعزيز العزلة الثقافية داخل الجاليات المسلمة. ومع بروز مفاهيم جديدة مثل "الانفصالية الإسلاموية" فى الخطاب السياسى الأوروبى – وخاصة فى فرنسا – بدأ يُعاد النظر فى علاقة الدولة بالجماعات التى تنشط تحت مظلة الإسلام السياسي. هكذا، لم يعد يُنظر إلى الإخوان كطرف معتدل فى مشهد دينى متطرف، بل كحالة وسطية تحمل بذور الراديكالية داخل عباءة الاعتدال المزعوم. الدبلوماسية المصرية كسلاح استراتيجي منذ سقوط حكم الإخوان فى مصر عام 2013، أدركت الدولة المصرية أن المعركة مع الجماعة لا يمكن أن تُحسم داخل حدودها فقط، بل يجب أن تمتد إلى الفضاء الدولي، حيث حافظت الجماعة على قدر من الشرعية والتعاطف، خصوصًا فى العواصم الأوروبية. ولهذا، تحوّلت الدبلوماسية المصرية إلى أداة استراتيجية لنقل الصراع إلى الساحة العالمية، من خلال حملة مدروسة هدفت إلى تفكيك الصورة "المعتدلة" التى روّجت لها الجماعة عن نفسها، واستبدالها بسردية أكثر واقعية حول تهديدها البنيوى للدولة الحديثة. فى هذا السياق، لعبت السفارات المصرية دورًا محوريًا، ليس فقط كمقار تمثيلية، بل كخطوط أمامية فى المعركة ضد الإخوان فى أوروبا. حيث أُرسلت تقارير أمنية موسعة إلى الحكومات الغربية، موثّقة بالأدلة والمعلومات الاستخباراتية حول نشاطات الجماعة، وتمويلاتها، وتغلغلها فى المجتمعات المحلية، لا سيما عبر مؤسسات تعليمية وخيرية تتخذ من الدعوة ستارًا. كما استخدمت القاهرة آلية الزيارات الرسمية واللقاءات الثنائية لتوصيل رسائل سياسية واضحة، مفادها أن غضّ الطرف عن نشاط الجماعة فى أوروبا يعادل التهاون مع مشروع موازٍ للدولة يهدد الأمن القومى الأوروبى على المدى الطويل. لم تكتفِ مصر بتقديم الأدلة، بل حرصت على تأطير خطابها الدبلوماسى داخل مفاهيم تتقاطع مع الهواجس الأوروبية، مثل "الانفصالية"، و"التطرف المغذّى ثقافيًا"، و"تفكيك الهوية الوطنية". هذا التحول الذكى فى الخطاب جعل الرواية المصرية أكثر تقبّلًا فى دوائر صنع القرار الأوروبي، التى بدأت تشعر بثقل التحديات التى تفرضها جماعات الإسلام السياسى على تماسك مجتمعاتها. وقد ساعدت الحوادث الإرهابية المتكررة، التى ارتكبها أفراد تأثروا بخطابات دينية مؤدلجة، فى تسريع اقتناع بعض الحكومات الأوروبية بأن هناك ضرورة لإعادة النظر فى "اللاعبين الإسلاميين" الذين نشطوا لسنوات تحت غطاء القانون. ومع تراكم هذا الضغط السياسى والدبلوماسي، بدأت الرسالة المصرية تجد صدى فعليًا، خاصة فى فرنسا، التى سرعان ما تبنت مفاهيم شبيهة فى خطابها السياسى مثل "الانفصالية الإسلاموية" و"الجمهورية فى خطر". وشكّلت الخبرات المصرية مرجعًا مهمًا لبعض صانعى القرار فى تحليل طبيعة جماعة الإخوان وأذرعها، وظهرت آثار ذلك فى سنّ قوانين جديدة للرقابة على الجمعيات، ومراجعة الدعم العمومى للمنظمات ذات الخلفية الأيديولوجية. بذلك تحوّلت الدبلوماسية المصرية من مجرد قناة لنقل المواقف إلى أداة استراتيجية لإعادة تعريف خصمها أمام العالم. فرنسا فى المقدمة مثّلت فرنسا النموذج الأوروبى الأوضح فى التفاعل مع التحذيرات المصرية بشأن جماعة الإخوان، إذ جاءت استجابتها مبكرة وحازمة نسبيًا مقارنة ببقية العواصم الأوروبية. هذا التفاعل لم يكن عفويًا، بل نتاج مسار من التنسيق الأمنى والمعلوماتى مع القاهرة، التى وفّرت لباريس كمًا كبيرًا من البيانات حول شبكات الإخوان وتحركاتهم ونشاطاتهم داخل المجتمع الفرنسي، لا سيما فى ضواحى المدن الكبرى التى شهدت بوادر تشكّل مجتمعات موازية بفعل التأثير الأيديولوجى للجماعة. فى عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، اتخذت فرنسا منحى أكثر وضوحًا فى مواجهة ما أسمته "الانفصالية الإسلاموية"، وهو تعبير سياسى جديد تبنّته الدولة الفرنسية للإشارة إلى التيارات التى توظف الدين الإسلامى لبناء ولاءات موازية للدولة الجمهورية. وقد تماهى هذا التوصيف بدرجة كبيرة مع الرؤية المصرية، التى طالما أكدت أن جماعة الإخوان تمثل مشروعًا أيديولوجيًا يعمل على تقويض الدولة من الداخل، عبر اختراق التعليم والعمل الخيرى والإعلام المحلى فى المجتمعات المسلمة. فى عام 2021، أقرّت باريس قانونًا شاملًا لمكافحة الانفصالية، ركز على مراقبة تمويل الجمعيات والمنظمات الدينية، وفرض معايير صارمة على المدارس الخاصة غير الحكومية. ورغم أن نص القانون لم يُشر صراحة إلى جماعة الإخوان، فإن التنفيذ العملى استهدف عددًا من الكيانات التى ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بفكر الجماعة، سواء عبر علاقات شخصية بقياداتها أو من خلال مرجعيات فكرية واضحة. هذه الكيانات شملت مساجد، مراكز ثقافية، وجمعيات خيرية، كانت سابقًا تعتبر جزءًا من النسيج المدنى فى فرنسا، لكنها تحوّلت إلى موضع شكّ وتدقيق. كما طالت المراجعات الأمنية والإعلامية شخصيات دعوية بارزة، كان يُنظر إليها لسنوات كصوت "معتدل" داخل الجالية المسلمة فى فرنسا، لكنها لاحقًا وُضعت تحت الضوء بسبب ارتباطها الأيديولوجى أو التنظيمى بجماعة الإخوان. هذه الشخصيات، التى لعبت دورًا مؤثرًا فى التأطير الدينى والثقافي، أصبحت محل تحقيقات أو طرد من الساحة العامة، مما يشير إلى تحوّل عميق فى المزاج الرسمى الفرنسي. وقد ساهمت القاهرة فى دفع هذا التحول، ليس فقط من خلال المعلومات، بل أيضًا من خلال تأطير تجربة مكافحة الإخوان كنموذج أمنى وسياسى قابل للتطبيق فى السياق الأوروبي. أوروبا بين التردد والتحول رغم أن فرنسا تقدّمت الصفوف فى تبنى مقاربة صارمة تجاه جماعة الإخوان المسلمين، فإن بقية الدول الأوروبية لا تزال تتحرك بحذر، وإن كانت ملامح التحول قد بدأت فى الظهور تدريجيًا. هذه الدول، وفى مقدمتها بريطانياوألمانيا، لطالما فضّلت سياسة "الاحتواء" تجاه الجماعة، متصورة أنها تمثل بديلًا مقبولًا للجماعات الجهادية الأكثر تطرفًا. غير أن المتغيرات الأمنية والسياسية التى طرأت خلال العقد الماضى – لا سيما بعد موجات الإرهاب فى أوروبا – دفعتها إلى إعادة النظر فى هذا النهج. فى بريطانيا، التى تُعد تاريخيًا أحد أبرز الملاذات الآمنة لقيادات الإخوان ومنصاتهم الإعلامية، بدأت السلطات منذ عام 2015 مراجعة شاملة لسلوك الجماعة ونشاطها داخل البلاد. وقد انتهت هذه المراجعة، التى قادها آنذاك السفير جون جنكينز، إلى أن الجماعة – وإن لم تنخرط مباشرة فى العنف داخل بريطانيا – تروج لأفكار تهيئ بيئة خصبة للتطرف، وتشكل تهديدًا محتملًا على المدى الطويل. وعلى الرغم من أن الحكومة لم تُدرج الإخوان كمنظمة إرهابية، إلا أن المراجعة أفضت إلى تشديد الرقابة على الجمعيات المرتبطة بها، وتحجيم حضورها الإعلامى والدعوي. أما ألمانيا، فكانت أكثر حذرًا فى مقاربتها، لكنها اتخذت خطوات عملية فى السنوات الأخيرة خاصة بعد تقارير استخباراتية سلطت الضوء على شبكات تمويل مرتبطة بالإخوان، بعضها يتلقى تحويلات مالية من الخارج أو يدير مؤسسات تعمل تحت غطاء العمل الخيرى والديني. وأعربت أجهزة الأمن الألمانية عن قلقها من محاولة الجماعة بسط نفوذها داخل الجاليات المسلمة، عبر السيطرة على المساجد والمراكز الثقافية، وخلق "بنية تحتية" أيديولوجية طويلة الأمد، ما دفع برلين إلى زيادة وتيرة المراقبة وإغلاق بعض الكيانات المثيرة للشكوك. هذا التردد الأوروبى لا يعكس فقط تفاوت مستويات التهديد بين دولة وأخرى، بل يرتبط أيضًا بعوامل داخلية، مثل الحساسيات المرتبطة بحرية المعتقد، وحقوق الأقليات، والعلاقة المعقدة بين الدولة والدين فى أوروبا. ومع ذلك، فإن الضغوط المصرية المستمرة، وتكرار الحوادث الأمنية المرتبطة بخطابات دينية متطرفة، يدفع تدريجيًا باتجاه تحول أوسع، وإن كان بطيئًا وغير موحد، فى التعاطى الأوروبى مع الجماعة. إن التجربة الفرنسية تمثل اليوم نموذجًا يُحتذى به فى أعين بعض العواصم الأوروبية، وربما تمهّد الطريق لبلورة سياسة أوروبية أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسى فى السنوات المقبلة. نحو تفكيك "الواجهة الناعمة" منذ عام 2013، شرعت الدولة المصرية فى استراتيجية مركزة تهدف إلى تفكيك ما يمكن تسميته ب"الواجهة الناعمة" لجماعة الإخوان المسلمين فى الغرب. لم تكن المواجهة مع الجماعة خارج الحدود قائمة على الأسلوب الصدامى أو الخطاب التعبوى المباشر، بل اتخذت طابعًا أكثر عمقًا وتعقيدًا، اعتمد على تقديم أدلة وتحليلات تُعيد تأطير صورة الجماعة داخل العقل السياسى والأمنى الأوروبي. الهدف لم يكن فقط نزع شرعية الجماعة، بل فضح التناقض بين خطابها الخارجى المراوغ، وسلوكها السياسى والتنظيمى الحقيقي. ركزت مصر على تفكيك الأدوات التى استخدمها الإخوان لبناء صورتهم فى الغرب كحركة "مدنية إصلاحية". وعلى رأس هذه الأدوات: الجمعيات الخيرية، والمراكز الثقافية، والمنظمات الدينية التى تقدم نفسها كممثل شرعى للمسلمين فى أوروبا. تلك المؤسسات لم تكن فقط منصات للتأثير الاجتماعي، بل أدوات استراتيجية لنشر أيديولوجيا الجماعة وتجنيد الأنصار وصناعة النفوذ الناعم تحت غطاء العمل الخيرى أو الثقافي. القاهرة قدّمت أدلة تثبت أن هذا العمل "النافع ظاهريًا" كان يُدار ضمن منظومة هدفها النهائى هو التغلغل السياسى والسيطرة الرمزية. واحدة من أهم الرسائل التى سعت مصر إلى إيصالها لصناع القرار الأوروبيين هى أن خطاب الإخوان الذى يروّج للديمقراطية وحقوق الإنسان ليس إلا أداة ظرفية تُستخدم لتثبيت الوجود، وليس قناعة حقيقية. فالجماعة، بحسب الطرح المصري، توظّف مفردات الليبرالية الغربية لتتماهى مع البيئة السياسية التى تنشط فيها، لكنها تحتفظ بأهدافها الأصلية التى تسعى إلى إقامة مشروع سياسى فوق وطني، يتعارض جذريًا مع الدولة القومية وقيم التعددية. هذه السردية وجدت صدىً متزايدًا فى ظل تصاعد الشكوك الأوروبية تجاه نوايا الجماعة وتناقضاتها. فى المحصلة، ساهمت هذه الاستراتيجية المصرية فى إحداث شروخ فى الصورة "البيضاء" التى بنتها الجماعة على مدى عقود فى الغرب. لم يعد من السهل تسويق الإخوان كحركة إصلاحية أو كممثل شرعى للمسلمين فى أوروبا، خاصة فى ظل تواتر التقارير الأمنية والاستخباراتية التى تدعم الطرح المصري. ورغم أن هذا التحول لا يزال فى طور التشكّل، فإن الخطاب المصرى لعب دورًا بارزًا فى خلخلة البنية الرمزية التى تأسست عليها "الشرعية الأخلاقية" للجماعة فى الوعى الأوروبي. منذ الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين فى مصر عام 2013، شرعت القاهرة فى تنفيذ استراتيجية شاملة لمواجهة التنظيم، تجاوزت حدودها الجغرافية لتصل إلى الساحات الفكرية والسياسية والأمنية فى أوروبا. هذه الجهود أثمرت عن تحول تدريجى فى نظرة العديد من العواصم الأوروبية للجماعة، لا سيما باريس، التى كانت تعتبرها سابقًا نموذجًا للإسلام المعتدل. فى مايو 2025، أصدرت الاستخبارات الفرنسية تقريرًا حكوميًا وصف ب"الصادم"، كشف عن تغلغل جماعة الإخوان المسلمين فى مفاصل المجتمع الفرنسى من خلال شبكة سرية تضم نحو 280 جمعية تنشط فى مجالات التعليم والعمل الخيرى والأنشطة الشبابية وحتى القطاع المالي. التقرير حذر من أن هذه الأنشطة تهدف إلى "إعادة هندسة المجتمع من الداخل"، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا للنسيج الاجتماعى والديمقراطى فى البلاد، ووصف الجماعة بأنها تمثل "تهديدًا تخريبيًا" لقيم الجمهورية الفرنسية. الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ترأس اجتماعًا لمجلس الدفاع والأمن القومى لمناقشة التقرير، وأمر الحكومة بوضع مقترحات لمواجهة هذا التهديد، مؤكدًا على ضرورة اتخاذ إجراءات حازمة ضد "الانفصالية الإسلاموية". هذا التحول فى الموقف الفرنسى يعكس تأثير الجهود المصرية المستمرة فى كشف الوجه الحقيقى للجماعة، وتقديم أدلة موثقة حول علاقتها بالتطرف وسعيها لتقويض الدولة الوطنية من الداخل. رغم أن بعض الدول الأوروبية لا تزال تتعامل بحذر مع جماعة الإخوان، إلا أن التحول فى الموقف الفرنسى قد يشكل نموذجًا يُحتذى به فى أوروبا. الجهود المصرية فى هذا السياق لم تقتصر على المواجهة الأمنية، بل شملت أيضًا تفكيك البنية الرمزية والوظيفية التى يستند إليها الخطاب الإخواني، مما ساهم فى تغيير النظرة الأوروبية للجماعة من "حركة دعوية سياسية" إلى "شبكة أيديولوجية ذات طابع انفصالى وتغلغلي". فى ضوء هذه التطورات، لم يعد السؤال المطروح فى أوروبا هو: "هل تمثل جماعة الإخوان خطرًا؟"، بل أصبح: "لماذا تأخرنا فى إدراك ذلك؟". الاستراتيجية المصرية، التى جمعت بين الحزم والعمق، لعبت دورًا محوريًا فى هذا التحول، وقد تكون نموذجًا يُحتذى به فى مواجهة التحديات المماثلة فى المستقبل. لمطالعة التقرير الفرنسي حول جماعة الإخوان.. اضغط هنا https://www.albawabhnews.com/5205691