العمل الإبداعى يخلق التعددية، تعددية المعنى والدلالات ، وعودة المعنى المقصود بها الاختلاف وليس التطابق؛ ولذلك لايمكن إخضاعه لتفسير أو تأويل ، إنما فقط كل مانملكه أمام العمل الإبداعى هو تفجيره، أو كما يقول كافكا: ليس عندى ماهو جاهز، أو كما يقول كالفينو: يسرني عدم وجود مفتاح واحد لفتح جميع أقفال قصصي وحل رموزها، وإذا قرأنا ديوان الشاعر فتحي عبد السميع "الموتى يقفزون من النافذة"، سنجده ديوانًا يخلق الكثير من الدلالات والتعددية ، سواء على مستوى الثيمات التي تتراوح ما بين الموت والحرية والتذكر،( نعش يجرجر المشيعين، يجبرهم على الدوران حول بيوت يحبها) ص 73 ، ( وحده الموت يلم شمل العائلة، ويربك الحداثة ) ص 67، أو على مستوى عناوين الديوان الداخلية الخمسة، أو حتى على مستوى بنية النص التي تتخذ من دائرية النص، فبداية الديوان تقدم الذات الباحثة عن مكنونها، ( في عيد الحب لم ألتق إلا بقاتل يفك بندقيته) ص 9 ، وفى نهاية الديوان نجد الذات نفسها فى غمار بحثها تكتشف قاتلها مجددا وجها لوجه، ( حتى قاتلي، تولى عن حسباني مذ أصبح لايتوقف عن جرع الماء ، وهو يبصرني بجوار الثلاجة، أشير إلى موضع خنجره) ص84. الموتى يقفزون من النافذة يُقدم لنا صوتًا شعريًا يتميز بخصوصيته التي بلاشك تضع الشاعر فتحي عبد السميع على قائمة الشعراء القلائل الذين تتعرف عليهم بمجرد قراءتك لجملة أو قصيدة له، وهذه الخصوصية تضع الجنوب/الصعيد على محك القصيدة وفي قلبها مباشرة ، تضعه تارة من زاوية المتأمل، تارة أخرى من زاوية النقد والرغبة فى التغيير، ( نسل القبيلة المجاورة، القبيلة التى تكرهنا ، ونكرهها ، ولانجد مسنا يذكر لنا سببا، سوى أنها قبيلة أخرى) ص 79، ( فرحنا بغرباء، انتظرتهم منادر البر كله ولم يأتوا) ص71"، ( وهي تفرغ الجرة فى الزير، تهمس زوجة الابن: ماذا جرى ل سليمة؟ تحصي خطوات الدجاج) ص 53، إن اختلاط المسرات بالموت، بالذكرى، بطقوس العائلة الجنوبية، وأيضا بالغرباء الذين يحلون عليهم يُعد فضاءً للنص يحاول من خلاله الشاعر فتحي عبد السميع إعادة رسم لبيئته، وأيضا إعادة رسم لتصوراته عنها،( لكن تاريخ البلدة يخلو من شقيق مات فى عزاء شقيقه ، هل يغير التاريخ طبعه من أجلهم) ص 70 ، ( لو مت بين يديك، لاتقم بدفني قبل إتمام الوشم)، وهذا التصور والتقديم يتسع ليشمل العالم كله، ( لا أحاول العثور على تفسير ، لاستحالة أن يحيا الخلق بلا عداوات، ولا أجد مبررًا للسؤال عن سر بقاء الأقنعة والأكثر توحشا) ص 84 وعلى الرغم من أن ثيمة الموت مغرية بالحديث عنها في هذا الديوان الذى يُمجد الموت، ويسخر منه في أوقات أخرى، وبرغم أن الموت والحياة الثنائية الأكثر جدلية فى الديوان- والتي تناولها البعض بالفعل أثناء كتاباتهم عن الديوان- ، لكنى أود الابتعاد عنها قليلا، والدخول فى ثنايئة أخرى، ألا وهى ثنائية الحرية والقمع، ثنائية الفراشة والعتمة، ثنائية الأبيض والأسود، وقد جاءت تلك الثنائية بوضوح فى الجزء الثالث" رفرفة العصافير "، والجزء الرابع "رموز فى سلة الخضار، ففى قصيدته الرقيقة "منديل ورقي" نجد الشاعر يقدم معاناة المنديل الورقي، أو معاناة الأبيض/ الشفافية فى مواجهة كل شيء، إن هذه الحالة المتتبعة لحياة منديل ورقي تُعادل تتبع شخص ما أو شجرة ما، حالة من الرقي الإنساني الذى وصل به الحال؛ – بسبب الاستهلاك والتسليع- لدرجة من الميوعة والاستخفاف، واللامبالاة القاتلة ، حالة يقدمها الشاعر فتحي عبد السميع بطريقة الواقعية السحرية التي نعهدها عند خوان رولفو أو ماركيز، أو بطريقة إعادة اليومي، والمعاش، ولكن اللافت للنظر أن فتحي عبد السميع يقدمها من خلال رؤيته الخاصة جدًا والتي تنتمي له فقط، وهذا ما يُحسب له قطعا، ( شفاف ورقيق، وأينما جرحتني وجدت لحمي أبيض) ، ( أخرج من بيتي؛ ليبصق أحدهم في وجهي، أو يفرك رئتي حتى يلمع مقعد أو حذاء) ص 37، ( وأنا ألتف حول عنق موظف يوفر شيئا لأولاده بالحفاظ على ياقة القميص) ص 38 ،وتتكرر الحالة فى قصيدته "عتمة صغيرة" حيث حيرة الذات الشاعرة أمام عتمتها التي تحاول الفُكاك منها، ولكنها لا تقدر؛ فتلك العتمة الصغيرة المهمشة نجدها تستعصي على الإزاحة وكأنها ثعبان يطارد النمل، عتمة تسكن الذاكرة، ( عتمة صغيرة ، تتمدد مثل ثعبان فوق التراب، كلما اقترب ظل منها، تفح وتضطرب)، ( وحدها الذاكرة، ظلت نشيطة حتى اللحظة الأخيرة، تضحك لانتصارات على الضواري) ص 49، إن هذا الانسحاق والانهزام يأتي مصحوبًا برغبة في التحرر والجموح ، وكأن التذكر يأتي لاغيا للحاضر، وكما يقول دولوز: إن ما يميز ما بعد الحداثية "هو التشظي؛ فإن التشظي نجده واضحا في قصائد فتحي عبد السميع ، تشظيا مصحوبا بالسخرية كما في قصيدته "آر بي جي "( أتوهم نفسي حاملا آ ر بي جي طوال الوقت، أفكر في وحش أبدأ به ، وعند المنعطف المعتم تقفز قطة من صندوق القمامة ،يهتز الآ ر بي جي وتخرج طلقة من مؤخرتي) ص 31، ويركز الشاعر فتحي عبد السميع في ديوانه الموتى يقفزون من النافذة على وضع المتعارف عليه فى خانة اللامتعارف عليه، وكأن تأسيس دلالية أخرى للمتعارف عليه بمثابة كسر للثوابت، ورغبة فى رسم عالم مواز جديد، قد يتسع لنا وقد يكون أكثر رحمة، وأكثر انسانية؛ فنجد فى قصيدته الزواج الكروكي هو رسم مغاير للحلم داخل مؤسسة الأسرة، ( رسم بيتا من خمسة أدوار ، وسهر يحكي مع صورة الأم، ويزوج الأبناء، كل واحد في طابق ) ص 57، كما نجده يحول المشبك لفراشة أو العكس فى قصيدة فراشة تحت الحذاء، ( ماذا لو طارت الفراشات، تصرخ في الأعالي، وتنبسط سلالم الدفاع المدني، العالم لا يرضى أبدا، عن مشبك صار فراشة) ص 59، إن روح الديوان أشبه بصلاة لم تتم، أشبه بجنازة هادئة ،أشبه بسلسلة من الضياع لا تتوقف، ( عرفت للوهلة الأولى، كم عشت غريبا بلا مبرر) ص 23 ، ( ليصحو من نومه على الأقل، بنفس معفرة، كما لو كانت طالعة للتو ، من شونة التبن) ص 51. أخيرا أرى أن ما يميز ديوان الموتى يقفزون من النافذة هو، اقتراب اللغة من لغة اليومي، من خلال استخدام الشاعر للمفردات التي نتناولها بصفة متكررة فى يومياتنا، ولكنها جاءت تحمل في تركيباتها لغة شاعرية مميزة جدا ، ( بجردل ومقشة ،لايصلح الآدمى ما أفسده) ص 27، الموتى بالفعل يقفزون من النافذة، ولكنهم يتركون لنا الشعر في رحابة أوسع من الموت ذاته، ويتركون لنا ظل الفراشات تحمي ماتبقى لنا من قدرة على التذكر .