إنه يوم عالمي اليوم الذي عقد فيه مؤتمر وثيقة الأخوة الإنسانية التي انبثقت إثر مناقشات بين فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية في المؤتمر الذي نظمه مجلس حكماء المسلمين في فبراير 2019م في دولة الإمارات الشقيقة بهدف دعم العلاقات بين جميع البشر دون النظر إلى أجناسهم، وأديانهم. ومن منطلق هذه الوثيقة الداعمة لكل ماينهض بالمجتمع الإنساني التي نصت على أن " العدل القائم على الرحمة هو السبيلُ الواجبُ اتِّباعُه للوُصولِ إلى حياةٍ كريمةٍ، يحقُّ لكُلِّ إنسانٍ أن يَحْيَا في كَنَفِه......." أقول: لقد جاءت جميع الرسالات السماوية لتحقيق العدل بين الناس، والعدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتباعُه للوصول إلى حياةٍ كريمة، يحقُّ لكل إنسان أن يحيَ في كَنَفِه؛ ذلك أن للعدالة والرحمة والسلام أهميّة كبيرة في حفظ المجتمع واستقرار الإنسان وتوازن الحياة؛ لأنّ عكس ذلك يعني شيوع الظلم، والخوف، والقلق، والفوضى التي لا تجلب إلّا الدمار وتهديم البنيان الإنساني والحضاري. واليوم ما أحوجنا إلى أن نلتفَّ حول معاني العدل والرحمة، وأن نستقي منهما كلَّ معاني الخير والوئام، بما يفسح المجال للحياة أن تستمر وتتقدم بالشكل الطبيعي دون عوائق، ولقد كان لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته -عليهم السلام- والعلماء الصالحين الصابرين قدوة حسنة في تأكيد إقامة العدل والسير في خط الرحمة والإحسان، لما فيه من إقامة أمر الدين، والدنيا. فالعدل والرحمة من الصفات الإلهيّة العظيمة التي أراد الله تعالى للناس أن يعيشوا روحها ومضمونها العملي في أكمل صوره؛ حتى ينعكس ذلك على حياتهم، والعدل صفة من صفات الله، فالله يأمر بالعدل، قال تعالى "إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ..." (النحل/ 76)، ويدعو القرآن الكريم الناس إلى الحُكم بالعدل، يقول الله تعالى "اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة / 8)، ويقول أيضًا "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..." (النِّساء /58). والرحمة أيضًا من صفات الله، فالله كتب على نفسه الرحمة يقول الله تعالى: "كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..." (الأنعام/ 12)، وهذا الالتزام الإلهيّ بالرحمة ورد في السورة ذاتها مرّة ثانية تأكيدًا لمعناه، قال تعالى "...فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..." (الأنعام/ 54). على هذا المهاد يمكن فَهْم العدالة الاجتماعية التي خرجت من سياقات التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان؛ حيث المساواة الإنسانية الكاملة، والتكافل الاجتماعي الوثيق. والعدالة - أيضا - تتجاوز المفاهيم المادية إلى المفاهيم المعنوية؛ حيث العدالة في الكلمة، والعدالة في المشاعر والأحاسيس، وفي الأحكام وغيرها. والعدالة الاجتماعيّة هي إحدى النظم الاجتماعيّة التي من خلالها يتم تحقيق المساوة بين جميع أفراد المجتمع من حيث المساوة في فرص العمل، والامتيازات، والحقوق السياسيّة، وفُرَص التعليم، والرعاية الصحيّة وغير ذلك، وبالتالي يتمتّع جميع أفراد المجتمع بغضّ النظر عن الجنس، أو العرق، أو الديانة، أو المستوى الاقتصاديّ بحياة كريمة بعيدًا عن التحيّز. ولقد شددت وثيقة الأخوة الإنسانية على هذه الرؤية مطالبة العالم بالتدخل لرفع هذا الظلم عن المعوزين في قولها: "ونُشدِّدُ أيضًا على أنَّ الأزماتِ السياسيَّةَ الطاحنةَ، والظُّلمَ وافتِقادَ عَدالةِ التوزيعِ للثرواتِ الطبيعيَّة - التي يَستَأثِرُ بها قِلَّةٌ من الأثرياءِ ويُحرَمُ منها السَّوادُ الأعظَمُ من شُعُوبِ الأرضِ – قد أَنْتَجَ ويُنْتِجُ أعدادًا هائلةً من المَرْضَى والمُعْوِزِين والمَوْتَى، وأزماتٍ قاتلةً تَشهَدُها كثيرٌ من الدُّوَلِ، برغمِ ما تَزخَرُ به تلك البلادُ من كُنوزٍ وثَرواتٍ، وما تَملِكُه من سَواعِدَ قَويَّةٍ وشبابٍ واعدٍ. وأمامَ هذه الأزمات التي تجعَلُ مَلايينَ الأطفالِ يَمُوتُونَ جُوعًا، وتَتحَوَّلُ أجسادُهم - من شِدَّةِ الفقرِ والجوعِ - إلى ما يُشبِهُ الهَيَاكِلَ العَظميَّةَ الباليةَ، يَسُودُ صمتٌ عالميٌّ غيرُ مقبول". والناظر في تعاليم الإسلام السمحة يرى أنها تقدم تصورًا كاملًا للعدالة التي تضمن استقرار الإنسان وسعادة المجتمعات، ونهوض الدول والأمم، وبتحقيق العدل سوف يشعر الناس بالطمأنينة والاستقرار، وهذا بالتأكيد سيحفزهم على العمل والإنتاج بالشكل المتقن والسليم، وبالتالي سيزدهر المجتمع ويتقدّم، فمن يشعر بأنّ حقوقه محفوظة سيعمل ويجتهد من أجل الوصول لأهدافه وبالطرق الشرعية والقانونية، ومن يشعر بعكس هذا إما أن يتكاسل ويهمل أو يلجأ للطرق غير القانونية؛ لتحقيق ما يطمح إليه، وعندما يوجد ظلم بالتأكيد سيسود الحقد والكره في المجتمع بالإضافة إلى القتل والدمار والتعذيب والاضطهاد، وبالتالي سيكون المجتمع ضعيف والدولة أكثر عرضةً للتدخلات الخارجية والخراب، ويجب على الإنسان أن يبدأ بنفسه أولًا حتى يتحقّق العدل في المجتمع كافّة. ومن أمثلة العدل القائم على الرحمة: عدله - صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته حتى في أبسط الأمور فَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. صحيح البخاري (7/ 36) وعلى الجانب الآخر، تأتي الرحمة كونها ركيزة من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع الإنساني بجميع أفراده، فيستشعرون من خلالها معنى الوحدة والألفة، ويصيرون كالجسد الواحد، الذي يئن إذا اشتكى أحد أعضائه، ويتألم إذا تألم. وأخرج أحمد والترمذي والحاكم عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا "، وصور الرحمة الإنسانية كثيرة منها: - البر بالوالدين: الأم والأب، فارحمهما ولا تعذبهما، وسامحهما ولا تؤاخذهما، وأكرمهما ولا تُهنهما، وتواضع لهما ولا تتكبر عليهما، فتلك وصية من الله إليك؛ قال سبحانه" {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 24] - رحمة المرء لنفسه: فعليه أن يحميها من عذاب الله وسخطه وعقابه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم: 6]. وقال تعالى: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: - رحمة الآباء بالأبناء: فأحوج الناس إلى رحمتك أولادك؛ أبناؤك وبناتك، ارحمهم بالرفق بهم، والتودد إليهم، بحسن تربيتهم ورعايتهم، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ". رواه البخاري ومسلم فيجب علينا تربية أبنائنا وبناتنا على هذا الخلق العظيم، ونغرس في قلوبهم الرحمة والتراحم، فإنه متى نشأ الناشئ على الرحمة ثبتت في قلبه وأصبحت سجية له. - رحمة الأهل: ويدخل في كنفها الرحمة بين الأزواج؛ أن يرحم الزوج زوجته فيحسن إليها ويشفق عليها، ويحسن عشرتها فلا يظلمها ولا يؤذيها، وأن ترحم الزوجة زوجها فلا تؤذيه، ولا تحمّله ما لا يطيق، بل تساعده وتقف إلى جانبه. إنها الرحمة التي جعلها الله تعالى بين الزوجين تفضلا منه ونعمة، فبها تستقيم الحياة الزوجية وتهنأ، وبدونها تضطرب الحياة الزوجية قال الله إلى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ". - التراحم بين أفراد المجتمع: لما له من أثر بالغ في تماسك المجتمع وتقدمه، فالراحمون يرحمهم الرحمن، وتبرز في هذه الأوضاع لا محالة، الحقوق والواجبات، وتفرض نفسها، فالعدل واجب، ورد الحقوق إلى أصحابها لازم، والمحافظة على مصالح الفرد حق. - ومن صور الرحمة أيضًا: الرفق بالحيوان: فلقد قال صلى الله عليه وسلم "دَخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربطتْها، فلم تُطعِمها، ولم تَدَعْها تأكُل مِن خشاش الأرض" رواه البخاري. إنها معالم واضحة، أكَّدتها نصوص شرعية، وترجمتها مواقف نبوية، فاستقر في الأذهان، أن العدل واجب، ولكن ما ينبغي أن يُعرف، ويُستحضر حالًا، هو أن الرحمة أيضًا واجبة، وليست تفضلًا في المنظور الإسلامي، وبالمثال يتضح البيان: إذا اقترض شخص مالًا، فإنه يجب عليه أن يرد المال إلى صاحبه، وهذا عدل، ولكن إذا تعذر على المقترض أن يرد المال في أجله لإعساره، فالعدل أيضًا يقتضي أن يُمهله صاحب المال؛ رحمة به. لكن القرآن يعرض هنا توجيهًا آخر، وهو أن يتنازل صاحب الدين عن دينه، إذا كان هذا ممكنًا بالنسبة إليه، وهنا تتحقق الرحمة بكل مظاهرها، وفي هذا يقول الله تعالى: "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" البقرة: آية 280. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منْ عباده الرحماء، وأن يكسُونا ثوب الرحمة، وأن يغرس في قلوبنا شجرة الرحمة لتثمر العدل، الصدق واليقين والمحبة والإِخاء.