لعل ما يسود من فهم اختزالي في إدراك مفهوم الدولة المدنية - أدعى إلى الحد من دلالة التعبير عنه - ما يستدعي هنا تفصيل التباس أساسي يتعلق بربطه بالعلمانية، والتي يتم النظر إليها كنبت غريب تم زرعه لتقويض الإسلام، وكفكرة مناهضة للدين تقوم على محو الحدود الشرعية التي أرسى الدين أركانها، ومن ثم حشوها بدلالات إلحادية، واختزالها في فصل الدين عن الدولة، أما الآليات المرتبطة بالدولة المدنية فتتعلق أساساً بالتحول من دولة الفرد إلى دولة المؤسسات، إضافة إلى تعزيز الديمقراطية "إقرار دستوري، ضمان الحريات، آليات للمحاسبة والرقابة...."، والأمر هنا يتعلق بأنه حينما سعت ثورة يناير إلى بلورة طموحاتها في صورة مطالب سياسية محددة المعالم، كان من أول ما صاغته وأعلنت تمسكها الدائم به هو مطلب الدولة المدنية. وشعار الدولة المدنية ليس مطلبا إجرائيا مثل تعديل دستور أو حل مجلس أو تغيير حكومة، لكنه عنوان على نظام مغاير، وانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة، ويدل الموقع البارز والاجتماعي الذي اتخذه هذا المطلب - في القوائم المختلفة والمتنوعة - على أمرين أساسين: أولهما أن الدولة التي نعيش في ظلها لم تكن مدنية بالمعنى الكامل، وثانيهما أنه وضّح أن الشعارات المخالفة للدولة المدنية، مثل دولة الخلافة وولاية الفقيه وتطبيق الشريعة وغيرها، لا تلتقي بأيّة حال مع طموحات الشعب، ذلك أن تأسيس الدولة المدنية ليس قراراً يتم الإعلان عنه في عمل بيان موجّه إلى وسائل الإعلام، ولكنه عملية بناء طويلة الأمد تستدعي يقظة ونضالا متواصلين. ولما كان هناك العديد من القوى السياسية الحاكمة - أو المعارضة - التي لا تتوافق مصالحها مع الدولة المدنية، برزت محاولات عديدة للالتفاف على هذا المطلب، ومنها اختزال الدولة المدنية في رئيس جمهورية غير عسكري، أو إجراء انتخابات نزيهة بإشراف قضائي. ومن هنا تتحدد ملامح وأسس الدولة المدنية في الالتقاء مع روح العصر، بإقرار حقوق الإنسان وإلغاء كل أشكال التمييز، وتداول السلطة، ما يعني أن الدولة المدنية ليست حلاًّ سحريّاً لكل مشكلات المجتمع المصري، فيما تسمح بأفضل الشروط لمشاركة المواطنين.