وشوشات في الحارات والشوارع، حديث غير مفهوم بين الصغار، إشارات ليست واضحة، فقط «لا» أو إيماء بالموافقة، ثم ماراثون للجري نحو قطعة الأرض الخالية على ناصية الشارع، تلك التي أطلق عليها الأطفال «منطقة العيد»، لكن أي عيد؟ لم نجد إجابة محددة من كل الأطفال، فأحدهم حينما وصفه كان يقصد يوم الجمعة بعد الصلاة، والآخر كان يقصد يوم تقاضي والدته المعاش وإعطائه بضعة جنيهات ل«الترويش»، وآخرين لم يشغلوا أنفسهم بالأمر. على منضدة يقف رجل أربعيني العمر، ستيني الملامح وعجبا أنه صاحب لعبة «الحظ»، حسبما يسميها الصغار، ولعبة القمار في جمل نهرهم من أبويهم بعد خسارتهم ورجوعهم، استهوت اللعبة صغار الشارع فعزفوا عن باقي اللعب، «الساقية» باتت تدور بلا ركاب، وفرسان الجياد الخشبية تركوها، وصاحب «النٌطيطة» خلد للنوم، حتى بائع الجيلاتي الذي كان أكثرهم حظا فيما مضى لم تعد «زمارته» تٌمثل للصغار نوبة صحيان، وكأن الشيطان يقبع أسفل ذلك «الكوب» المقلوب. على ماذا يقامر هؤلاء الصغار؟ من يختار رقم «1» لماذا اختار عقله الصغير الصلصال هذا الرقم؟ ومن اختار «5» أو «6» من أوشى له بالاختيار، وهذه الأرقام أكبر من سنوات عمره. «حسن» خسر الجنيه الذي كان معه، لكن أملا كان يحبو في قلبه أنه سيكسب فأعطته مريم شقيقته الجنيه مصروفها، وهمست له أن يختار رقم «2»، لعب الحظ دوره وكسبا، فقالت له: «هذا جنيهك يا حسن وهذا جنيهي لا تلعب فلو لعبت وخسرت لأن أقرضك مرة أخرى. «علي» خسر أكثر من مرة، وفي كل مرة، كان يعود فيها مسرعا إلى المنزل يبكي لجدته العجوز أن جنيها كانت والدته أعطته له كمصروف وقع منه ويخشى العقاب، فتعطيه الجدة وتؤكد عليه: «أوعى تكون بتكدب يا علي، اللي بيكدب بيروح النار»، لم يكن «علي» مشغولا بوعيد جدته ولا متخيلا تلك النار، فليس هناك منقوش في ذاكرته الضيقة سوى «منطقة العيد». رجل اللعبة كان من الذكاء إلى الحد الذي كان يجعل من بين الأطفال كل ليلة فارسا يكسب بعض الجنيهات، فتنفتح شهية الأطفال، فيبكون في منازلهم يلحون على زياردة المصروف اليومي، أو يخترعون الحجج لشراء قلم وكراس، أو يرفضون أكل الدجاج ويوهمون أمهاتهم أنهم يريدون بسكوتا من أدراج الدكان، فتعطيهن على أمل أن ينشلهم طعام الدكاكين من الهفتان. بعد شهر اختفى صاحب لعبة الحظ «القمار».. أين ذهب؟ سؤال بحث عن إجابة له الأطفال في كل مكان؟ في المحلات المغلقة، في الأماكن الخالية، فوق أسطح العمارات، في قنوات التلفاز، وفي ألعاب الكارتون، لكن لم يجدوا له أثر. سمع همهماتهم أمهاتهم، فخرجن يتحسسن الخبر، حظ! أي حظ؟ وأي لعبة تلك كانت؟ صمت الآباء فبعضهم كان مقامرا وخسر، والحديث سيجدد الأوجاع، فاكتفى بعبارة: «بطلوا لعب عيال».. انتهت اللعبة لكن أحدا لم يكتشف أن الأطفال لم يخسروا فقط مصروفهم ولا كانت الخسارة بضع جنيهات، لكن باتت أحلامهم معلقة على حجر «النرد»، وبات أول درس خٌط في أذهانهم أن الحياة ليست إلا لعبة حظ.