غالبًا ما تطرح علاقة الدين بالمواطنة لدينا نفسها بإلحاح عبر لحظتين: كتعبير عما يعانيه المشهد المصري من ضعف الشرعية، أو حين تفرض تحولات الاستئثار في مشروعه المجتمعي رهاناتها. يصاعد من أهمية مساءلة هذه العلاقة راهنًا، ما يزدحم به المشهد من أحداث ووقائع لافتة في تداعياتها، تشير في العمق إلى تقاطب الانتساب الديني والانتماء الوطني. إن في ممارساته أو تصوراته السجالية (فتنة مدينة الخصوص، أحداث الكاتدرائية، تزايد أعداد الجهاديين في سيناء، القرار الأخير لوزارة الأوقاف بعدم التعامل مع الكنيسة الإنجيلية دون الرجوع للوزارة، تصاعد أعداد هجرة الأقباط منذ الإعلان الدستوري بما يزيد على مائة ألف قبطي بحسب المنظمة المصرية لحقوق الإنسان)، وكلها وغيرها، أحداثًا طرأت على وطن كان يباهي بوحدة جماعته المصرية منذ القدم. يؤكد النظر إلى تاريخية هذه العلاقة، أن مفتاح صيغتها هي أرضية المواقف العملية في مواجهة التحديات، فيما يثور التقاطب بين الانتساب الديني والانتماء الوطني مع ضعف الشرعية، ويخمد في إطار المشروع الوطني، ما يعني أن هذه العلاقة تجد تعبيرها عبر توجهين نقيضين: الأول طائفي، لازم الخطاب الديني المتشدد، وانبنى على نفي الآخر، وارتكز على فهم ضيق وحرفي لقيم الدين ومقاصده. والتوجه الثاني ديمقراطي، يحمل في طياته فلسفة سياسية تبشر بإمكانية الحلم بقيم المواطنة، ويقوم على تجاوز مفاهيم الذّمة والملّة والطائفة والأقلية، المؤسسة على تقسيم المجتمع على أساس ديني. ويحد هذا التوجه لدينا جذوره لدى حسن الشمسي منتصف القرن التاسع عشر، حين طرح مفهوما علمانيًا لمعنى المواطنة، استبعد فيه الدين من مقوماته، وذلك عبر صحيفته (المفيد)، وتاليا لدى الشيخ حسين المرصفي، الذي تجاوز في تعريفه للأمة إطار الدين، مرتئيًا أن وحدة اللغة تمثل أفضل أساس لها. ومؤخرًا، شهد مفهوم المواطنة اهتمامًا متزايدًا، وبخاصة من قيل مثقفين أقباط عديدين (أبو سيف يوسف، ميلاد حنا، وليم سليمان قلادة، سمير مرقص، أندريا زكى، مراد وهبة، أسامة بسيط، هاني لبيب، سامح فوزي)، بحكم جدل دار في العقود الماضية عن وضع الأقباط في الجماعة الوطنية المصرية، سواء من ناحية مشكلات يعانون منها (تقييد تصاريح بناء وترميم الكنائس، إذاعة القداس عبر وسائل الإعلام، الأوقاف القبطية، تعداد الأقباط، تمثيلهم في المؤسسات التنفيذية والبرلمانية، التجاهل الإعلامي والتعليمي لتاريخهم)، أو من ناحية انسحابهم الظاهر من الحياة السياسية، أو من ناحية القلق المتنامي تجاه صعود جماعات الإسلام الجهادي، وطرح خطاب يتسم بالسلبية والعدوانية تجاه المطالب القبطية في مواطنة متساوية. ولعل ما يزيد من تواتر المقاطعة بين الانتساب الديني والانتماء الوطني وتوترها، ورودها في سياق اجتماعي، تتدنى فيه مستويات العيش لدى فئات عديدة، بالنظر إلى استفحال البطالة، وازدياد حدة التفاوتات الطبقية، وتدهور معيشة المنتجين المباشرين، وانخفاض مستوى إشباع احتياجاتهم، مقابل مظاهر الاستهلاك الترفي والبذخي لبعض الفئات، ما هيأ المناخ للاحتقان الطائفي والسلوك الاحتجاجي العنيف. ذلك أن غالب فئات الجماهير المصرية، هتكتها الحاجة، وهمشتها التبدلات الاقتصادية والاجتماعية، وأدخلتها دورة مزمنة متفاقمة الوقائع والنتائج، ولم تترك لها مؤسسات الملكية الخاصة شبرًا في الفضاء العام، وحمّلها تواطؤ الاقتصاد والرأسمالي للمتربول مع ديكتاتورية العالم الثالث أثقال الحرمان، مما أضعف من نموّها الذاتي وحسّها الوطني، و ألقى عليها مسئولية مضاعفة في البحث عن لقمة العيش، وجعل انضواء فئات منها إلى الجماعات الدينية، بمثابة المخرج والملاذ. ورغم جواز التنويه بمحاولات حالّة، تقوم على إعادة تعريف العقيدة لاحتواء المطالب الحديثة للمواطنة، فإنها لم تبلغ بعد مداها الصحيح بإزاء الدور السالب الذي تلعبه الأصولية الدينية، في إضعاف تراث التسامح والإيمان بالتنوع، مع تبنّيها لخطاب مثّل التطرف والغلوّ دعوته، وإقصاء الآخر أسلوبه، حين ارتأى في المشابه العقيدي في أقصى أركان المعمورة، أقرب من شريك الوطن صاحب العقيدة الأخرى، ما قد يؤدي حال تغذيته إلى مزيد من تقاطب يباعد بين أطراف كيان وطني واحد، وإلى احتمال سدّ الطريق أمام تطور للديمقراطية، يكفل حقوق المواطنة والحريات لجميع المواطنين، وترسيخ التوافق العام بين مكونات الثقافة المصرية السائدة. وتآزر مع هذا الخطاب، حالة انفصال بادية في المواثيق الدستورية بين النص والواقع، رغم ما تنص عليه موادها من تأكيد على المساواة وحرية الرأي والاعتقاد، فيما لا وجود لهذه القيم عمليا على أرض الواقع. ما العمل إذن؟ ثم إمكانية للحديث عن احتمالات مستقبلية للحدّ من هذا التقاطب، تعبّر عن نفسها في أحد مشاهد ثلاثة: أولها مشهد التدجين، وهو ما يمكن أن يتحقق في ظل المتغيرات والوقائع التي يجري تثبتها آنيًا عبر أساليب عدة (تضخيم المؤسسة الأمنية، التعتيم الإعلامي، تكرار سردية أسطرة وتقديس الوحدة الوطنية، مراقبة دور العبادة، أخونة القائمين عليها)، وكلها أساليب مفارقة للتناقضات والمشكلات الحقيقية في الواقع. وثانيها مشهد التهدئة، القائم على امتصاص “,”تشنجات“,” أوجه الاحتقان اللابدة في مساحة العلاقة بين المسلمين والأقباط، وتسويتها تحت تأثير مهدئ أو آخر (استحضار مفهوم المواطنة والعزف عليه بشكل انتقائي، تكريس مشاهد مصطنعة من مآدب الوحدة الوطنية، ورجال دين مسيحيين ومسلمين يتبادلون تقبيل اللحى، ويتبارون في التغني بحب الوطن والوحدة الوطنية“,” الراسخة“,”، دعوات تحضّ على عدم انتهاج العنف، وعدم الإنصات إلى النميمة، وبيان فضيلة التسامح)، وهي فعاليات موجهة من قبل قوى بعينها، بما يحيلها إلى حسابات مصلحية ضيقة. وأخيرًا، هناك احتمال خروج علاقة التقاطب بين الانتساب الديني والانتماء الوطني من أزمتها، وهو ما يعبّر عنه مشهد تجاوزه، الذي يمتلك حيثياته في تلك المساحة الممتدة منذ إرهاصات مفهوم المواطنة الديموقراطي لدينا. وتظل الأسئلة المتعددة التي يتشظى بها جدل هذا التقاطب ماثلة: هل تراها ترجع إلى أن الموقف منه مازال يراوح تقلّصه بين إدماج وإقصاء مغلوطين: إدماج يقوم على القفز فوق الحقائق وطمسها، وإقصاء يمتد إلى نفي تراثه في علاقاته ندّية بين كل فئات الجماهير المصرية؟