هو واحد من أهم مخرجي المسرح في مصر والعالم العربي، واحد من أولئك القلائل الذين أسسوا لأنفسهم مدرسة متميزة في الإخراج المسرحي، واحد الذين أثروا في الأجيال التي جاءت من بعدهم، هو ليس مخرجًا مسرحيًا فقط بل كاتب وشاعر وملحن ومهندس ديكور ومفكر ورجل مسرح من طراز نادر، إنه أستاذ المسرح المخرج الكبير سمير العصفوري، صاحب مدرسة العصفور يزم. بهذه المقدمة بدأ د. عصام السيد اللقاء الفكري أمس الثلاثاء، بمعرض الكتاب، كما أشار السيد فى تقديمه إلى أن العصفوري بدأ يمارس الإخراج المسرحي، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وسط جيل من عمالقة الإخراج المسرحي وقتها، وبسبب براعته في الإخراج المسرحي يُنسب إلى الجيل الذى سبقه، ومن أهم المناصب التي شغلها إدارة مسرح الطليعة، الذى أفرز لمصر والعالم العربي معظم الفنانين الموجودين على الساحة الآن، وقد تحول مسرح الطليعة في عهده، إلى بؤرة فنية من طراز خاص، كما كان للعصفوري السبق كذلك في إنشاء مسرح القاعة الصغيرة. وقال: يضاف له محاولة محاكاة المسرح العالمي ولكن دون الوقوع في أسر نصوص المسرحيات العالمية، كما كان له الفضل في تأسيس نادى 79 والذى تحول بعد ذلك لقاعة صلاح عبد الصبور، تلك القاعة التي تخرج منها عمالقة في مجال التمثيل والإخراج المسرحي. وفى تعقيبه على مقدمة د. عصام السيد بدأ العصفوري كلامه بتوجيه الشكر للحضور وأكمل: لعل من الطبيعي في الوسط المسرحي والفني في مصر، ألا يكون المخرج رجل مطيع، وأنا من أولئك المتمردين، الذين لا يوجد لديهم شئ مطلق، فالنص في نظري ليس قرآنا. فأنا أرى أن المخرج من الممكن أن يعتمد على نظرية السمع والطاعة، ولكن ذلك في إطار النماذج المتعارف عليها عالميًا، وهذا ما تعلمناه على يد جيل الرواد الذين أسسوا بدايات حركة المسرح والسينما المصرية فى القرن العشرين.. فكنا نعمل في إخراج النصوص المضمونة، التي لها نماذج سابقة، ومن هنا كان الميلاد الحقيقي للمسرح المصري، فى ضوء المسرح العالمي. كان علينا أن نقرأ أولاً وقبل أي شى أن نقرأ كل ما كتب عن النص بكل اللغات المتاحة والتي يتيسر لنا الرجوع إليها. وهذا ما يقوم به أيضًا الفنان التشكيلي قبل شروعه في احتراف الرسم، فهو يبدأ فى ممارسة التشكيل من خلال الموديل ورويدًا رويدًا إلى أن يؤسس لنفسه خيوطًا فنية مميزة. وهذه هي المرحلة الأولى، وهى البحث والاطلاع، ثم بعد ذلك تأتى المرحلة الثانية وهى أن يبدأ المخرج فى إضافة بصمته للنص بما يتماشى مع طبيعة رؤيته للنص. وأشار الدكتور السيد أن مشكلة العصفوري أنه عكس الكثير من مخرجي المسرح، لأنه يفكر فى النص المسرحي على أنه صورة، وأذكر أنه فى أحد مسرحياته، قام بحذف نص كامل، وكان المؤلف أحد من يصولون ويجولون فى ساحة الكتابة المسرحية حينئذ، واستبدل العصفوري هذا الفصل الكامل فى المسرحية إلى رقص فقط، ونجح الرقص فى التعبير عن النص الذى تم حذفه، دون الدخول فى هذا الكم الهائل من الثرثرة التى لا فائدة منها. وعن السخرية أو ما يطلق عليه العصفوريزم فى مسرح العصفوري قال: كان قدري أن تكون بدايتي مع جيل العملاقة من أمثال الراحلين الكبيرين صلاح عبد الصبور وثروت عكاشة، وذلك عقب هزيمة 1967، من خلال قيام صلاح عبد الصبور بعمل شعرى ضخم أطلق عليه مأساة الحلاج. وكنت أرى مأساة الحلاج، مهزلة مهزلة، لأن أمة تحاكم رجل وتصلبه لأنه لديه يقينًا بأن الله يحل فى جسده، وهذه قضية شخصية لا تخص سوى صاحبها.. والقضية الحقيقية للمسرحية في أصلها هي سياسية واجتماعية، حيث خرج الرجل ليحض الشعب ضد السلطان، إن مأساة الحلاج هى مأساة عصر كامل، أرادت فيه السلطة الحاكمة أن تتدخل في كل شى، إنها تجمع بين الشى ونقيضه فى وقت واحد الضحك والبكاء. وأتذكر أنه أثناء عرض المسرحية، كان كل من بالقاعة من مصريين وعرب، فى حالة هستيرية من الضحك، بالرغم من صلب البطل فى النهاية، فالنص بالكامل قائم على حكاية غير مفهومة وملتبسة، فقد خرج الجمهور وفسر كل واحد النهاية كما يراه. وقد حقق العرض نجاحًا كبيرًا، وبسبب هذا النجاح تم نقل العرض ليقام على مسرح وكالة الغورى بقلب مصر الفاطمية فى شهر رمضان، بتعليمات من المفكر محمود أمين العالم رحمه الله، واكتشفت أن فى عمق مصر قدرًا كبيرًا من الصوفية، وكان الممثل الشاب وقتها بطل المسرحية صوفى الهوى، يتفاعل مع الحضور لدرجة أنه كان بناء على رغبة الحضور يُعيد المشهد أكثر من مرة. لقد كنت سعيدًا جدًا وفخور لأننى لعبت مع هؤلاء العباقرة وأنا فى مقتبل العمر، وأتذكر أنه حدث خلاف بينى وبين الأستاذ بهاء طاهر وقتها حيث اعترض على ما جاء بالمسرحية من سخرية، اعتبرها طاهر إسفافًا، فطاهر واحد من المحافظين. وعن التناقض ما بين التراجيديا والسخرية فى أعمال العصفورى؟ قال العصفورى أنا أقوم بقراءة النص أكثر من مرة، هذا بالإضافة إلى أننى من أولئك القليلين الذين لا يصدقون كلام النقاد ولا المقربين فى أعمالى، فأنا دائمًا أريد أن أشعر بنبض الجمهور، فبعد أن أنهى البروفات والتى قد أكررها أكثر من ثمانية مرات، أستطيع أن أنام وأضع نفسى مكان المتفرج، ومن هنا فقد أقوم بإعادة وتركيب النص المسرحى من جديد. فأنا لدى عنصر مهم هو الشك الإبداعى من خلال الجلوس مكان المتفرج والنظر إلى المسرحية على شكل مجموعة صور بالترتيب، فأنا أرى الصورة وأقلبها من الأمام إلى الوراء، من أجل الخروج بمشهد جديد، يناسب المتلقى دون التقيد والغرق فى بحور النص الأصلى. وفى إجابته على السؤال الذى وجهه له الدكتور السيد عن أن أسلوبه التفكيكى وهل أثر فى الأجيال التى جاءت من بعده لدرجة أنهم قاموا بتشويه النص المسرحى؟ ضحك العصفورى وقال: مشكلة الأجيال الجديدة أنها اعتادت على أن تصعد السلم مرة واحدة وأنا أعتبر هذا من باب الانتحار، فجيلنا جيل الستينات تدرج حتى استطاع أن يعيش خارج جلباب من سبقونا، وهذا لا يمنع أننا استفدنا من تجاربهم وأضفنا إليها تجاربنا التى مررنا بها، والمشكلة الآن هى أنه لم يعد هناك تواصل بين الأجيال، فهيبة الآباء والمعلمين قد انتهت، ولقد مررنا بصعاب كبيرة جدًا فى بداية مشوارنا، حيث أنه لم يكن يوجد بمصر مدارس أو معاهد عليا لتعليم الإخراج، فبدأنا جميعا ممثلون، ثم بعد ذلك تتلمذنا على مخرجينا الكبار حينئذ، إلى أن أُتيحت لنا الفرصة للذهاب للخارج لدراسة فن الإخراج. والآن وفى ظل هذه العبثية حيث يستطيع الطالب أن يذهب إلى أوروبا الشرقية ليشترى الشهادة التى يرغب فيها دون عناء، بل وصل الأمر إلى أنه من الممكن أن يفعل ذلك وهو فى بيته من خلال الإنترنت، دون أية معاناة، كل هذا أدى إلى أننا أصبحنا نرى عروضًا عمياء، كما أن الشباب الحالى يرى أنه فوق الجميع متناسيًا، أن الدراسة دون الخبرة والممارسة والاحتكاك لا تعدو كونها حبرًا على ورق لا فائدة منه. وأذكر الآن هذا الضابط العبقرى الذى كان ذو نظرة ثاقبة، عندما أرسل العديد من البعثات فى شتى المجالات الفنية والفكرية لاستكمال دراستهم بالخارج إنه الراحل ثروت عكاشة، وهذا ليس تحيزًا له، ولكنها شهادة حق، لواحد من أهم وزراء الثقافة فى تاريخ مصر، وأعتقد أن فاروق حسنى هو الآخر قد فعل شيئًا نسبيًا من ذلك. عندما ذهبت إلى فرنسا فى عام 1968، ذهبت ومعى ورقة مكتوب فيها أسماء عمالقة المسرح الفرنسى أعطاها لى الراحلين حمدى غيث وكرم مطاوع، وكلما سألت أحد فى فرنسا عن هؤلاء ضحك وتركنى ولم يجب على سؤالى!.. وبعد فترة عرفت أن هؤلاء العمالقة يهيمون على وجوههم فى الشوارع، وأن هناك مدرسة جديدة خلعت كل أغلال المدرسة البرجوازية القديمة، وأبدعت فنًا مسرحيًا جديدًا، وبدأ يظهر مسرح عرائس الشارع، ومسرح العرائس والخبز، وعندما عدت إلى مصر حاولت أن أقدم مسرحًا جديدًا قائم على العبث والسخرية، للخروج من توابيت كل ما هو قديم، لقد أدركت مبكرًا أن كل ما هو وارد من الغرب ليس بجيد، وأن العبث والسخرية مرتبطتان وملاصقتان لثقافتنا، بما يملكه المصريون من تراث طويل فى النكتة والسخرية. ويستكمل العصفورى: أنا لم أقم بعمل معجزة ولكنى تواجدت داخل إطار، رسم لنا حلمًا قوميًا جاهدنا وكافحنا من أجله، وتاهت وانتهت هذه المعجزة كما تعلمون جميعًا مع مطلع ثمانيات القرن الماضى. المسرح شغله الأساسى هو إعادة كشف الذات، إنللمسرح رسالة وهدف واضح، وهو طرح ومعالجة القضايا المجتمعية. الكارثية فى مسرحنا الحالى أنه يفتقد لتلك الرسائل التى تأتى من وراء النص وكذلك الصور التى أصبحت غير موجودة فى أعمالنا المسرحية الحالية.. فأنا كمن يعمل بالطين يجرب ويعدل لتخرج سلعته فى أبهى شكل، وأعتقد أننى من داخل منطقة الفنانين البسطاء، وأنا إما أن أكون معتزًا بالتجربة وأقدمها، وإما أن أعتذر عن التجربة، حلم المخرج غير محدود، ولا يمكن لأحد أن يحجبه، فالفنان الجيد لا يستطيع أن بفرض عليه أحد رؤية معينة. وعن إشكالياته ومشاكله المتعددة مع الممثلين؟ قال العصفورى الممثل هو المحطة الأولى التى من أجلها دخلنا معهد الفنون المسرحية، والممثل لا يكتسب خبراته الفنية فقط من خلال ما درسه بالمعهد، بل هو مجمل الخبرات الإنسانية، والتى تعد كنز لأنها معرض للإنسان سواء كان الإنسان سوى أو منحرف، فالممثل الذى لا يدرى بما يدور فى المجتمع من حوله، لا فائدة منه، فالممثل الرقع بالخبرات والتجارب، هو القادر على أداء كل الأدوار بإجادة وإتقان. وأنا لا أنسى هذا الأسطورة فى عالم التمثيل محمود المليجى، والذى كانت لديه القدرة على أن يبهرك بأدائه الذى قد يصل لحد السحر، وقد شاهدت ذلك عندما عملت معه فى مسرحية عائلة ضبش بعد عودتى من فرنسا، فقد كان المليجى أستاذًا فى علم التشريح التمثيلى والبشرى. أنا مخرج مرهق لممثلى الألفية الثالثة، ممثلو الآن هم ممثلون تيك أواى، لذا أقول أن الكثير ممن تعاملت معهم انتهوا من قائمتى أو انتهيت أنا من قائمتهم. وأوضح أنه لم يؤسس فرقة الطليعة، وقال: من أسسها الراحل أحمد زكى، وهو رجل شديد البساطة والتواضع، استطاع أن يلم هؤلاء البسطاء الذين أذكر منهم محمود القلعاوى ومحمود الجندى وفاروق الفيشاوى وأحمد عقل، ليشبع غرائزهم الفنية، ويصنع منهم نجومًا، وأشار العصفورى إلى أن هناك إشكالية خطيرة فى مصر وهى الخلط بين مدير المسرح ورجل المسرح، ورجل المسرح هو الأب الروحى للفرقة هو من يملك أن يعمل سبع صنايع، هو الحضن الدافئ للجميع، هو من يستطيع أن يجمع الجميع حوله ، لدرجة أننا كنا نقوم بعمل بروفات الصبح والظهر وفى المساء، لم يكن هناك من يقوم بعمل دعابة لأعمالنا المسرحية، وكان أعضاء الفرقة يتناوبون فيما بينهم العمل على التليفون لدعوة أصدقائهم ومن يعرفونهم لحضور العمل، إنها روح الحب والإخلاص روح الفريق التى يفتقدا المسرح الأن. وعن رؤيته لحال المسرح الحالى والأوضاع السياسية الراهنة؟ أكد العصفورى أن المسرح المصرى فى حالة يرثى لها، فهو كالجسد الخوار، ولكى يعود إلى سابق عهده فعلى الجميع أن يشارك فى ذلك، الدولة والمجتمع والمبدعين والفنانين، لقد كان المسرح هو الواجهة الأساسية للدولة المصرية ومدنيتها قبل وبعد اختراع السينما.. أما الوضع الراهن فهو حالة استثنائية فى تاريخ مصر، ومصر قادرة بإرادة شعبها أن تجتاز هذه المرحلة. واختتم العصفورى لقائه بأن دعى الحضور ليشاهدوا معه جزء من عرض العسل عسل والبصل بصل الذى كتبه المبدع الراحل بيرم التونسى وقام بتصويره على مسرح العرائس عام 1986، ونزل العصفورى كعادته من على المنصة، ليجلس فى نهاية القاعة ليشاهد مع الحضور العرض الذى استمر لما يقرب من النصف ساعة. وكانت المفاجأة والتى لم يعلم عنها أحدًا شيئًا، هو قيام فريق العمل بقناة النيل كوميدى، بإعداد برومو مدته حوالى الربع ساعة يعرض محطات ومواقف من حياة العصفورى، تم إعداده خصيصًا بمناسبة عيد ميلاد العصفورى والذى يوافق السابع والعشرين من شهر فبراير القادم، مما دفع جميع من القاعة لتقديم التهاني للعصفوري الذى يُعد وبلا شك واحدًا من أهم وأبرز رواد فن الإخراج المسرحي في النصف قرن الماضي.